أقلام فكرية

إمري لاكاتوش ناقداً ستيفن تولمن (3)

محمود محمد علييبدأ لاكاتوش المحور الذي ذكرناه في نهاية المقال السابق بقوله:" دعنا أخيراً نركز إنتباهنا علي تولمن نفسه وأعلموا أن دعواي هي أن تولمن ينتمي بشدة للموروث النخبوي، بيد أن تأثير فيتجنشتين عليه ومحاولته تجنب إشكاليات فيتجنشتين يدعونا إلي القول بأن نخبوية تولمن من نوع خاص " .

ويري لاكاتوش أن تولمن  " قد ورث  برجماتيته عن فيتجنشتين، وأن الخطأ الرئيسي لكل فلاسفة العلم عند تولمن هو التركيز علي العالم الثالث فالتساؤلات المنطقية حول القضايا وقابليتها للاحتمال أو قابليتها للإثبات والتأييد  أو قابليتها للتكذيب، وليس علي تساؤلات العقلانية المتعلقة بالمهارات والأنشطة الأجتماعية – المفاهيم والنظم – وقيمتها المدفوعة –المكاسب أو الخسائر العملية التي تجلبها .

ويستطرد لاكاتوش فيقول "... بالنسبة لتولمن فالتساؤلات الاسكولائية المثمرة قد تعد نتيجة تسلسل منطقي لمجموعة من المقدمات والتساؤلات المتعلقة بالعلاقة بين القضايا – يجب أن يحل محلها تساؤلات حول ما إذا كانت أفعال المرء ملائمة في ضوء المعلومات المتاحة . والاستدلال الصحيح ليس واحدا يمكن أن تتمثل من خلاله النتيجة في علاقة " عالم ثالث" معينة للمقدمات ولا حتي واحدا لا يمكن فيه للإنسان العاقل إلا أن يؤمن بالنتيجة إلا إذا أمن بالمقدمات . بل قيام الفعل فيه علي المقدمات التي تكون ملائمة مثلاً الفعل الناجح . وطبقاً لتولمن فالمنطق ليس علم الفكر، لكنه علم فن الفكر " .

وهذا النص يوضح لنا لاكاتوش من خلاله أن تولمن في كتابه " الفهم    الإنساني "، قد بدأ بتطوير الجانب البرجماتي من فلسفة فيتجنشتين، وهو الجانب الذي يرتبط بدراسته للحجاج غير المنطقي في خمسينيات القرن العشرين، لذا نجد لاكاتوش يقول إن الاستنتاج الشرعي لا يرتكزعلي علاقة موضوعية داخل العالم الثالث بين المقدمات والنتائج.... بل يرتكز بالأحري علي مدي موائمة ونجاح الفعل المؤسس علي المقدمات .فوفقاً لتولمن هنا يشدد علي أنه  لا يكون المنطق علماً للفكر، بقدر ما يكون علم فن الفكر .

ويبرر لاكاتوش موقف تولمن في ذلك حيث يقول :" ... وبالنسبة لتولمن فإن التساؤلات حول الصدق الكذب والتأييد والتعزيز والتكذيب ...الخ، القضايا يجب أن يستعاض عنها بتساؤلات عن الكفاية والأثار العملية وقوة وقيمة بقاء المفاهيم أي المهارات . كل هذا يمثل برجماتية بسيطة وخالصة " .

من جهة أخري يري لاكاتوش كذلك أن تولمن قد حاول أن يحفف من حدة ذاتيته الواضحة باللجوء إلي النزعة التاريخية (وهي نزعة سلطوية في نهاية الأمر)، أو مفهوم دهاء العقل الهيجلي، بمعاونة الدارونية الاجتماعية، فالدارونية الاجتماعية سوف تدعم من ناحيتها فكرة عدم المساس بالألعاب اللغوية، وترك الوضع علي ما هو عليه، لأن الانتخاب الطبيعي هو الذي يحكم حركة التاريخ. هذا من جهة، ومن جهة أخري، فإن الوصول إلي الحقيقة أو الثقة في قدرة النخبة العلمية علي الاختيار الصحيح، يحكمه دهاء العقل الهيجلي الذي يؤمن حركة التاريخ وحتي لو كان أحكام العلماء تعارض العالم الثالث، فإن الدارونية ومبدأ البقاء للأصلح بالذات، يمنعنا من التدخل في أحكامهم، ذلك أن نمو المعرفة العلمية، هو نمو حيوي وبرجماتي.

وعلي هذا النحو، يفسر تولمن نمو المعرفة العلمية : فتحقق نتائج بعض النظريات العلمية بعد وقت طويل من نشرها، هو حكم من التاريخ علي صحة النظرية العلمية، وبناء عليه، يفسر تولمن نجاح الثورة الكوبرنيقية بعد تحقق نتائجها، بعد عام 1687 ! فنسق كوبرنيقوس Copernicus  ظل يصارع بصورة داروينية، حتي كتب له البقاء في عام 1687، وذلك بمعاونة دهاء العقل الهيجلي . وكما يتعقب العالم الدارويني صفات الجماعات المتخلفة في صراع البقاء، فإن تولمن يتتبع بدوره هو الآخر صفات النخبة العلمية عبر تاريخ المعرفة العلمية، وهي الصفات التي تم انتخابها، علي مدار نمو وتطور المعرفة العلمية، مما يجعلها، هي الصفات الخاصة بتلك الكائنات البشرية النخبوية.

ويوضح لاكاتوش ذلك بالتفصيل فيقول :" إن التعارض والتغير يخلقان صعوبات للبرجماتي . فلو وجد أناس مختلفون أن مناهج تفسيرية مختلفة تمنحهم فهما، فإن البرجماتية يبدو أنها تقودنا لشكل من الذاتية والنسبوية الثقافية . وقد حل فيتجنشتين  هذه المشكلة بتأسيسه لشرطة الفكر للحد من الخوارج والمهرطقين في كل جماعة . لكن التغير المفاهيمي عند تولمن – طالما أنه ليس عنيفاً – ليس فقط ممكنا، بل أحياناً مرغوب.

وهنا يري لاكاتوش أن " هذا إختلاف تولمن الرئيسي مع فيتجنشتين، فتولمن يحل شرطة الفكر القاسية الفيتجنشتينية، لكن ليس فقط علي حساب تقديم – لا ننكر أنه ألطف –لكن بالكاد أكثر قبولاً – دهاء العقل . ودهاء العقل التولمني يعي الصراع الدارويني للبقاء علي الأقل خلال منهج علمي ملائم البناء . فتلك المتغيرات المفاهيمية التي تبقي هي الصحيحة . وحتي أساتذة العلماء لا يمكنهم قبول أي مفهوم قديم لأن دهاء الفكر يفرض عليهم قيداً خارجياً موضوعياً .وإذا قام العلماء بالشئ الخطأ فهناك ألية هيجل لتصحيح الذات ستظهر افتقارهم للحكم، لذا فعلي المدي الطويل – حقيقة إلي نهاية الأمد – فإن العقل سيسود.

كما يري لاكاتوش أن تولمن – علي عكس فيتجنشتين  المتشكك –  " فالمحتمل صحيح والبقاء الانتقائي هو معيار التقدم . والفصل الأخير في المجلد الأول من كتاب تولمن " الفهم الإنساني" بعنوان " دهاء العقل " والجملة الأخيرة يبدو كأن هيجل قد كتبها بنفسه : وشئ واحد يمكن قبوله الآن . بالنسبة لتلك " الإجراءات العقلانية" التي ألزمنا أنفسنا بها تستمر في استنفاد نفسها علي مدي التاريخ المقبل . ونفس الرأي للتجرية التاريخية التي سماها المفكرون القدامي " دهاء الفكر " سوف تعاقب علي المدي البعيد كل أولئك الذين – سواء عن علم أو عن جهل – يستمرون في اللعب طبقاً لاستراتيجيات عتيقة لا تتوائم مع مستجدات العصر .فقد طبق تولمن الدارونية الاجتماعية علي العلم :الأصلح هو من يبقي .والسؤال، ما الذي يمنح الأفكار العلمية ميزة، وكيف تفوق منافسيها ؟ يمكن طرحه باختصار في الصيغة الداروينية " ما الذي يمنحها قيمة البقاء؟ "

وهنا يؤكد لاكاتوش إن التحول في مشكلة تولمن يجعل من الفلاسفة المميزين أمثالي كثيرين . " ليس للفيلسوف أن يفرض أحكامه علي العلم. ويسترسل في القول إن " الفيلسوف لا يجب فقط أن يحلل المعايير التي تحدد ما إذا كانت المتغيرات العلمية ذات جدوي " أو " إن الراسخ في العلم هاما ثبت أنه راسخ . وما يمكن تبريره هو ما كان له مبررات ". وهكذا فالفيلسوف يجب ألا يضع معاييرا لنفسه، فهو مسموح له فقط بحليل معايير العالم . لكن ذلك بالتأكيد يحوله من فيلسوف إلي مؤرخ وصفي –وعندئذ ستكافئ الجمعية الملكية خدماته المتواضعة" .

وهنا يذكر لاكاتوش أن " المرء يعجب لم يستمر تولمن في الحديث عن فيلسوف العلم، في حين أن الفيلسوف مسموح له فقط بالتسجيل والوصف،وعلي الأكثر أن يحلل معايير العالم . إن هذا بالتأكيد عمل المؤرخ الاجتماعي . والجملة التالية هي سمة عبادة تولمن للتاريخ : إن المؤرخ لا يستطيع نقد العلماء القدامي لعدم قفزهم مباشرة لرؤي عام 1960. هل هذا يعني أننا احتحنا لعصور الظلام لننقل من أرشميدس لجاليليو ؟( إن هذه بالطبع نظرة هيجلية كاثوليكية) . وتولمن ملتزم بهذا حيث من وجهة نظره أن كل التغير داخل المجتمع العلمي – هو تقدم وسرعة التقدم الحقيق هي ضرورة سرعته " .

ويتقدم تولمن  كما يقول لاكاتوش للكشف عن  " المبادئ الحقيقية للعقل الموضوعي المعياري في مجلده الثالث مناقشاً البيئة الوصفية الخالصة للمفاهيم في المجلدين الأولين . لكن إذا كان تولمن يؤمن حقا بدهاء العقل الهيجلي، فإن مجلده الثالث لا يحتاج للكتابة . ولو كان التقدم يضمن دهاء العقل فإن وصف التغير هو وصف للتقدم ".

ويتساءل لاكاتوش لكن ماذا لو كان هناك خلاف في الوسط العلمي حول التغير المقترح ؟ وماذا عن الخلاف الطويل بين النيوتونيين والديكارتيين ؟ أو الخلاف بين أينشتين وبور ؟ واحد فقط من هذه الأحزاب سيكون علي حق  . وإجابة تولمن هي أنه في مثل هذه الحالات حيث تختلف التوجهات الاستراتيجية الجديدة وحدة التاريخ سوف يقرر . وهو هنا يأتي بالاستراتيجية التاريخية البالية : المدي البعيد . وقد إتضح للجميع في عام 1687أن كوبرنيقوس كان علي حق وأن معارضيه كانوا علي خطأ . واتضح في القرن العشرين للجميع أن النيوتونيين كانوا علي صواب فيما يتعلق بالديناميكا وأن الديكارتيين كانوا علي خطأ . ثم اتضح للجميع أن بصريات نيوتن كانت خاطئة . واليوم فقط اتضح أنه بينما نظريات نيوتن الديناميكية تمتعت بسيادة فكرة شرعية حتي عام 1880 أو بعد ذلك فإن تأثير البصريات كان بالفعل يتضاءل وبحلول عام 1800 لم تمثل سيادة البصريات أكثر من سيادة عقل عظيم علي عقول اقل . وبالرجوع إلي المبادئ والبصريات لتوضيح نظرية واحدة للتغير العلمي يجب أن ندرك أنها تعمل كنماذج مقياسية بمعان مختلفة للمصطلح . لكن هل مقدمة تولمن عن الإدراك المتأخر تحل المشكلة؟ فبرنامج البحث المنهزم ربما في مرحلة مستقبلية يستعيد مكانته . وعند تلك النقطة فحكم التاريخ سينقلب علي عقبيه . كيف لنا أن نعرف إذا كان الإدراك المتأخر متأخر كفاية؟ ويبدو أن تولمن كان لا بد أن يؤمن بأن العقلانية الحقة، تظهر فقط في المدي البعيد المنغلق، يوم القيامة حين نموت جميعاً .

ويتعجب لاكاتوش قائلاً " ... وإذا كان الأمر كذلك فإعادة بناء التاريخ مستمرة التغير . ومجلد تولمن الثالث حقيقة الذي يحتوي التقييم المطلق لا يمكن كتابته قبل فناء الجنس البشري، وذلك حتما ليس عام 1976 كما أعلن تولمن . وإذا كان تولمن يعني أنه في ضوء التكشف النهائي للعقل، يمكن للمرء أن يفسر أي أجزاء من الأفعي ( الأفعوانية أو أي شئ حلزوني) يصعد للأعلي وأيها تلتف فقط فإنه طبقا لهذه الرؤية يجب أن ينتظر المرء حتي نهاية التاريخ الإنساني . وفقط عند نهاية التاريخ – دولة هيجل البروسية – يمكن للشخص العادي أن يدرك أخيراً أي أهداف أو غايات، كان غاية في الفظاعة علي مدي التاريخ . ودهاء العقل كما اعتادوا أن يقول جورج لوكاش في أكثر أوقاته تفاؤلاً يصل قمة الجبل عن طريق الطرق الملتوية، لا عن طريق مباشر. ويمكن للمرء أن يصل لفهم حقيقي للتاريخ حقاً فقط عندما يصل للقمة . وكما أري فتولمن يتفق مع هذا : لو أخذنا علي عاتقنا أن نفهم بالضبط وبالتفصيل (مغامرة إنسانية كاملة) ... فيجب إذن أن نكون في موضع (أول) فهم ما يعنيهم (أي المعنيين بذلك المشروع أو المغامرة )، كإنجاز فكري أو تطور نظري وإلي أي مدي – في ذلك الموقف تحديداً – كان لهم المبررات في تطبيق مبادئ الحم ومعايير الاختيار التي قاموا بها . وبينما النضال الداروني بين المفاهيم يستمر فربما نشعر بالضياع في متاهة كافكا وربما نفقد القدرة علي رؤية الطريق العامة أو الغاية المحددة . لا أن العلم عقلاني من أجل هذا كله . ويمكن إدراك هذا عند النظر للوراء علي القمة التي سيكون عندها كل شئ مبرر وعقلاني لكن ذلك فقط بإدراك متأخر . فالفهم النهائي التفصيلي مثل بومة مينيرفا التي تطير بعد المغيب .

وهكذا يري لاكاتوش أنه عند نهاية التاريخ " سيتضح أي التغيرات العلمية كان تقدما علميا . لكن يبدو إذن أن تولمن لن يستطيع كتابة مجلده الثالث (أو أي تاريخ معياري للعلم) قبل نهاية التاريخ . وهو يحاول الخروج من تلك المعضلة بتقديم نموذجه النخبوي الخاص . وطبقا لتولمن فالنخبة المتميزة لديها خط ساخن لدهاء العقل . والخط ليس كاملا ولا يستطيعون التنبؤ بالمستقبل دون خطأ، لكنه جيد . فالمجلس الأعلي للقضاء، يمكن أن يخمن بشكل عقلاني " .

ثم يؤكد لاكاتوش أن " نخبوية تولمن تتطابق مع تعريفي، فطبقاً له ‘ن الأحكام المفاهيمة، من مسائل " نظام السوابق " وليس الدستور أو السوابق وليس المبادئ . وهكذا فإن هناك نخبة لديها معرفة ضمنية متحيزة تقود طرقها للقمة . وسلطة النخبة ليست ضرورية فقط في الحالات الغامضة حين تنادي بإعادة التوجيه الاستراتيجي . ولكن أيضا في المشاكل الصغيرة التكتيكية – حيث تقدم التغيرات في نفس سياق النماذج التفسيرية (وأنا أري أن هذه تتفق مع التغيرات الابداعية عندي في ذات المنهج البحثي). وحتي في مثل تلك الحالات الواضحة – فإن الاختيار بين المتغيرات المفاهيمية، يتطلب موازنة المكاسب والخسائر، ومن ثم اللجوء لإصدار الأحكام التي تنتمي لأولئك العلماء الذين يقوم موقفهم السيادي علي معدل خبرتهم ... في الوصول للمعني لسمات الطبيعة ذات الصلة .

إلا أن وجود دهاء العقل والنخبة التي تتميز بالقدرة علي الوصول لأساليبه كما يري لاكاتوش، فإن العضو في هذه النخبة يمكن أن يعطي نصيحة عقلانية دون الإفادة من الأدراك المتغير . وقد عرف جاليليو أن كوبرنيقوس كان علي حق حتي لو لم يكن هناك دليل جازم علي ذلك في ذلك الوقت . ولو كان مؤرخ العلم عضواً في هذه الصفوة ذاتها فربما يكتب أيضا بنفس الشكل التاريخ العقلاني التولمني . وحكم النخبة ليس ذاتياً طالما أنه يخضع للقيد الخارجي لدهاء العقل أو في ضوء الديكارتية البائدة فيدي الله الكريمة المعينه ترشده .

ويري لاكاتوش لو كانت النخبة قادرة علي تلمس التطور فمن المهم أن نعرف من هم الأنبياء – فلا يجب أن ننخدع بأنبياء مزيفين . وهكذا مثل كل النخبويين يميز تولمن اشخاص وجماعات وليس إنجازات . وحيث إن تولمن براجماتي، فهو يري أن العلم نشاط ومن المهم أن نعرف من يعمل بطريقة علمية ممن لا يعمل . وهكذا فإن منطق نخبويته يدفع تولمن لتبني النزعة النفسانية والاجتماعية . رغم حقيقة أن هذين المنهجين أنكرهما فريجة وهوسرل وأنصار دائر فيينا منذ زمن بعيد، إلا أن تولمن يعتنقهما بتقدير شديد،  وأوضح ما قاله تولمن عن التزامه بالنزعة النفسانية هو تقييمه لفيتجنشتين :" إن شخصية فيتجنشتين لهي تعبير عن وجهة نظر شخصية غاية في التفضيل رغم عدم اللفظ بها والمشكلة بالنسبة لخصوم فيتجنشتين اللندنيين أمثال بوبر وجيللنر كانت أنهم حكموا علي نتاج فيتجنشتين الفكري بالنظر فقط إلي كتاباته دون النظر إلي كاتبها : إن الرجل الحقيقي والفيلسوف الحقيقي (وبالتالي فلسفته) غاب عنهم وبالتالي لم يدركوه .

لكن العلم عند تولمن كما يري لاكاتوش نشاط اجتماعي كيوموني . وأكثر ما يعنيه هو تمييز الجماعات العلمية لا الشخصيات العلمية . وبذلك فهو يتبع موروث فيتجنشتين وبولاني وتوماس كون الذي يري الجماعة العلمية كمجتمع مغلق . وتولمن يعطي خمسة معايير مترابطة لأن في اصطلاحه الجديد " المشروع العقلاني" يشكل منهجا محكماً :

1- الأنشطة المعنية تتشكل حول توجه نحو مجموعة نماذج جامعة مقبولة محددة وواقعية.

2- تلك النماذج الجامعة تفرض متطلبات علي كل من يلزمون أنفسهم بالسعي المهني لأنشطة المعنية .

3- ما ينتج من مناقشات يفرض منهجية علي نتاج العقل في سياق الحجج المؤيدة ووظيفتها هي إظهار مدي الابداع المنهجي قياساً علي هذه المتطلبات الجامعة ومن ثم تطور من المفاهيم والتقنيات القائمة .

4- ومن أجل ذلك تنشأ المنتديات المهنية من خلال مناهج الإنتاج العقلي المعترف بها وتوظف لتبرير الاجماع علي المناهج الجديدة .

5- وأخيراً نفس الأفكار الجامعة تحدد معايير الكفاية باللجوء للحجج الموضوعية لتأييد تلك الابداعات .

وهنا يعلق لاكاتوش أن الصورة هنا لمجتمع دون بدائل جوهرية، حيث يستطيع المرء تطوير لا إحلال المفاهيم القائمة، وهو مجتمع تقوم عضويته علي قسم بالولاء لمناهج بعينها الالتزام بالنماذج الجامعة وحيث المنتديات المهنية وحدها يمكنها الحكم علي ما تنطوي عليه هذه المناهج للحالات الخاصة . وفي هذا المجتمع المغلق يسمح بالتقييم النقدي والتعديل فقط إذا قام بها حكام أكفاء، فالرجل العادي لا حول له ولا قوة والنخبة ذاتية الخلود .

وأخيراً ينتقد لاكاتوش نظرية تولمن في التغير والنمو العلميين في أربع نقاط رئيسية كما يلي :

1- بما أن التاريخ في تغير دائم، وأي برنامج متدهور في لحظة من لحظات التاريخ قد يصير في لحظة أخري متقدماً، والآن الحم النهائي لعقل التاريخ لا يمكن معرفته إلا في نهاية التاريخ – وهذا أمر يقره تولمن – فإن تاريخ التغيير العلمي لا يمكن كتابته في أية لحظة من لحظات التاريخ، اللهم إلا في نهاية التاريخ، وهذا أمر نابع أيضاً من نسبية فيتجنشتين والتي يقرها تولمن .

2-  وكذلك يري لاكاتوش أن الشروط التي يضعها تولمن لتمييز النخبة العلمية الأصيلة، لا تمنع إدراج جماعات أخري ضمنها، مثل جماعات اللاهوت الكلاسيكي والماركسية السوفيتية، والمعارف التي تزعم أنها علمية، بل قد تتفوق تلك الجماعات علي الجماعات العلمية، نتيجة لتقديمها تفسيرات أشمل  كما أشار بوبر من قبل في سياق نقده للتحليل النفسي والماركسية .

3- ولقد أشار لاكاتوش إلي أن فلسفة تولمن تفترض بصورة ضمنية، معياراً موضوعياً للتمييز المعرفة العلمية عما دونها من معارف أخري . ويدعم لاكاتوش حجته تلك بالتأكيد أن تولمن مضطر – علي الأقل – إلي افتراض، ولو بصورة حدسية، معيار لتمييز المعرفة العلمية . فالمرء لا يمكن أن يدرس تاريخ العلم، دون وجهة نظر معينة بصدد تعريف العلم .

4- كذلك فإن لاكاتوش يري أن نخبوية تولمن في التغيير تدعم موقفها بنماذج قليلة من تاريخ العلم، أي أنها تفتقر إلي التدعيم التاريخي المناسب بصورة تاريخية، أو ميتاميثودلوجيا Metamethodolgy. فتولمن يكتفي، بصورة رئيسية، بتحليله للثورة الكوبرنيقية، علي افتراض فشل التراث التبريري في تفسيرها . ولكن لاكاتوش يلفت نظر تولمن إلي التقدم الميثودولوجي الذي قدمته ميثودلوجيا برامج الأبحاث العلمية في تفسير الثورة الكوبرنيقية .

ويختتم لاكاتوش ورقته عن فهم تولمن بقوله :" وأنا اتفق مع تولمن في أنه لا معيار تميزي مطلق وأنا أقبل باحتمالية خطأ المعايير التمييزية، كما أقبل بها في النظريات العلمية . فكلاهما خاضع لمنهج وقد وضعت معاييرا ليس للحكم علي منهج علمي بأنه أفضل من أخر . ولكنني لا أستبعد استنتاج فيتجنشتين من احتمالية خطأ الفروض باستبعادها . أنا لا أخشي : أنا لا أنتقل من الفروض الواضحة للمهارات غير الواضحة للحكم علي العلم أو العمل به . إذا فعل ذلك هو الدخول ببرجماتية جديدة من الباب الخلفي للتبرير بمساعدة دهاء العقلي الهيجلي . أنا أريد توضيح ذلك في العلم وفلسفة العلم، حيث يمكن للمنطق بعين النقد وأن يساعد علي تقييم نمو المعرفة وتطوير تولمن للفهم الإنساني لا علاقة له بالمنطق حيث إن المنطق جزء من الفرض الأفلاطوني الذي يدينه بشدة .  وذلك لإيماني بأنه دون منطق استدلالي لن يكون هناك منطق استدلالي لن يكون هناك نقدا حقيقياً ولا تقييماً للتطور . لذا فأنا اتمسك بالنقد البوبري قديم الطراز ونمو المعرفة ولا أستطيع الاقتناع بالتولمانية أو استبدال ذلك بالفهم الإنساني التولماني – إنه غير ناقد بالنسبة لعقلي ومتشابك ومتشوش .

هذا هو النقد الذي قدمة لاكاتوش للعقلانية العلمية عند تولمن، وقبل أن أقيم هذا النقد، أود أن أؤكد من خلال قرائتي لنقد لاكاتوش أنه يكن يهدف إلي نقد تولمن بقدر ما كان يهدف إلي هدم النزعة الذاتية – النخبوية بزعامة فيتجنشتين، فجاء نقده لتولمن ذريعة لذلك، ويمكن البرهنة علي ذلك  من خلال بعض الباحثين الذين أكدوا هذا الرأي :-

1- أن الورقة التي كتبها لاكاتوش والتي تسمي " فهم تولمن " أكد معظم الباحثين أن لاكاتوش لم ينشرها أثناء حياته، بل نشرها الأستاذان جون ورال وجريجوري كوري John  Worrall and Gregory Currie في المجلد الثاني من أوراق لاكاتوش الفلسفية والتي حرراها معا . وللأسف الشديد هما قد نشرا تلك الورقة علي جزئين مستقلين : الأول باسم " مشكلة تقييم النظريات العلمية : ثلاث مقاربات The problem of appraising theories :three approaches أما الجزء الثاني أو الورقة الثانية فلقد مشرها في المجلد نفسه تحت عنوان " فهم تولمن" .

2- إن تقسيم تلك الورقة علي جزئين قد ضلل العديد من قراء لاكاتوش، فهذه الواقعة لم تسمح لهم بمتابعة تطور فكر لاكاتوش الميثودلوجي .

3- أن لاكاتوش بشهادة بعض الباحثين قد قام بمراجعة ورقة التقييم " ( التي تتضمن معظم نقد لاكاتوش للنزعة الذاتية –النخبوية ) حوالي أربع مرات، وهو في كل مرة لم يكن راضيا عن التعديلات التي يقوم بها، لدرجة أنه لم ينشر تلك الورقة في حياته علي الأطلاق، أما من نشرها فهما محررا أوراق لاكاتوش "جون ورال وجريجوري كوري "، وهما قد نشر آخر تحوير قام به لاكاتوش لتلك الورقة .

يقول محررا تلك الورقة عنها " إن تلك النسخة التي بين يدي القارئ هي الأطول والأخيرة  ومع ذلك فهي ليست تامة بصورة نهائية . فلقد ظل لاكاتوش غير راضي عن بعض جوانبها . فهو قد أراد أن يضع عمل تولمن في سياقه العام من تاريخ مشاكل الابستمولوجيا . وعلي العكس من ذلك، فإن تاريخ تلك المشاكل هو الذي استحوذ علي معظم المخطوطة الرابعة من العمل الحالي، وهو الأمر الذي لم يرضي لاكاتوش عنه، لأنه لا يلائم مراجعة نص عمل تولمن ".

4- تثير ملحوظة المحررين أنتباه دارسي لا كاتوس الجاد، وتضعه إما في موقف الرفض أو القبول لها،ووفقا لقراءة مشروع لاكاتوش الميثودلوجي، لذا لا بد من التعليق النقدي عليها مع بعض الباحثين :

أ- نوافق المحررين علي أن لاكاتوش غير راضي عن تلك الورقة، وإلا لماذا لم ينشرها !

ب- كذلك نواقفهم علي رغبة لاكاتوش في وضع عمل تولمن في سياقه العام، فتلك طريقة لاكاتوش في قراءة أفكار الفلاسفة، يضعها في سياقها من تاريخ الفكر .

ج- إلا أننا نختلف مع المحررين في سبب عدم رضا لاكاتوش عن تلك الورقة فالسبب لايعود إلي عدم الموائمة الكمية بين دراسة سياق مشكلة تولمن جهة ودراسة عمل تولمن نفسه من جهة أخري، كما أراد أن يثبت المحرران ذلك، بل إلي عدم تطبيق الميتاميثودلوجيا كما ينبغي علي الذاتية النخبوية .بمعني أن لاكاتوش كان علي دراية أن نقده الميتاميثودلوجيا للذاتية النخبوية هو نقد قاصر بصورة رئيسية .

وبالتالي فإن ورقة التقييم لا تهدف إلي نقد تولمن بصورة رئيسية، بقدر ما تهدف إلي نقد الأساس الذاتي للنخبوية، فلاكاتوش يتخذ من مناسبة كتابة نقد لعمل تولمن فرصة لتقديم هذا النقد . وبناء عليه، يكون تولمن هو مقوم من مقومات " ورقة التقييم "، أي  أنه حالة يجب نقدها نتيجة لنقد الأساس الذاتي- للنخبوية، وأعني فيتجنشتين، فنقد فيتجنشتين يتعادل ونقد تولمن في الكم والمحتوي .

ومن ناحية أخري، فإن لاكاتوش يقرر أن فهم تولمن هو فهم لفيتجنشتين بصورة أولية . وعلي ذلك يقول لاكاتوش "إن الفهم التولمني .... هو مصطلح فيتجنشتيني تقني ". ومع ذلك فإن هذه الورقة المنشورة لم تقدم عمل النخبوية علي أنه برنامج بحث ميثودلوجي، يشكل عمل فيتجنشتين نواته الصلبة، أما عمل تلامذته ومنهم تولمن فيشكل الحزام الواقي لذلك البرنامج، كما رأينا من تعديل تولمن لبعض نقاط الضعف الفيتجنشتينية . ويبدو أن الكشفيات الإيجابية لهذا البرنامج، تقوم علي تأكيد حقيقة أن الفلسفة ليس لها دور اللهم إلا محو دورها، واستعادة الصحة العقلية للمتفلسفة، بواسطة عمليات التحليل اللغوي . مرة أخري نكرر أن لاكاتوش لم يضع النقد علي تلك الهينة، ولكنه إعادة بناء لنقده، نزعم أنه كان يريده أن يكون علي هذا النحو . ومهما يكن من أمر فسوف نتابع رد تولمن علي انتقادات لاكاتوش .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم