أقلام فكرية

كيف رد ستيفن تولمن علي انتقادات إمري لاكاتوش؟ (3)

محمود محمد علييؤكد تولمن أنه بعيداً عن حجّتِي التي توازي بين هذين الشيئين المضللين، فقد بذلت جهدا لأوضح الفروق بينهما في كل جانب. (والكتاب يحتوي فصول منفصلة نتعامل بشكل منفصل مع المشكلات والنظم والمهن) . وبعيدا عن التسليم بمرجعية أي علم رئيسي أو مؤسسة، فبالمثل بذلت جهدا لتوضيح أنشطة وأحكام العلوم الإنسانية سواء كأفراد أو جماعات، فهي دائما ممكنة المراجعة العقلانية . لذا فقد شعرت ببعض الشك – ولا أقول ضيقا – عندما وجدت أن استعراض إمري لاكاتوش غير الكامل لكتابي الفهم الإنساني تجاهل ذلك التمييز، بل وتغاضي عن موقفي بكامله كمثال آخر للفاشيستية –  النخبوية .

ويتساءل تولمن :" لماذا لم يكن إمري لاكاتوش قادرا علي إداك مناقشتي للعلاقة بين النظم (بمحتواها الفكري) والمهن (بأنشطتها الموسساتية) علي ما هي عليه : أي الأساس لتحليل وظيفي للنقد العقلاني في العلم . وطبقا لفرضي الأول، فإن أي أحد يوسع من المحتوي الفكري للعلم لكي يتضمن التطبيق والقضايا – وبذا يوسع نطاق النقد العقلاني – هو مذنب في نظر إمري لاكاتوش لكونه يقع في حبائل النزعة النفسانية –الاجتماعية الأثمة . إلا أن ذلك مجرد سوء فهم من رياضي . فأي تحليل للنقد العقلاني في العلم الطبيعي هو إقرار بالعناصر الجديدة التي أصبحت ذات صلة . ففي اللحظة التي ندع فيها فلسفة الرياضيات من أجل فلسفة العلم الطبيعي يجب أن نعترف بعناصر التطبيق وأن نناقش الاعتبارات التي تؤثر علي تقييمها العقلاني . وبأخذ مطالب النقد العقلاني في الاعتبار وإعطاءها قدر الاهتمام والاحترام الذي تستحق فيجب علينا ألا نجد من منظورها وتطبيقها علي أمور ومسائل المنطق القضوي، ولكن يجب أن نسمح للعالم الثالث باحتواء كل هذه العناصر التي يمكن الحكم عليها نقديا بالمعايير العقلانية . ولو كانت النتيجة هي تحويل العالم الثالث من عالم شكلي للوجود يتكون فقط من قضايا وعلاقات قضوية إلي عالم مادي يتكون من عناصر لغوية / رمزية وعناصر لغوية / عملية، فليكن ذلك إذن .

ويصف تولمن ذلك بانه سوء فهم بسيط، لكنه يمثل دلالة كبيرة في هذه الفقرة، حيث يظهر أولاً أن استعمال إمري لاكاتوش لعبارة " الأنشطة الاجتماعية" و "القيمة المدفوعة" بدلا من مصطلحاتي "إجراءات " و "مثمرة" . وثانياً  في مساواته الواضحة بين تساؤلات العالم الثالث بالتساؤلات حول القضايا وامكانية إثباتها، مباعدا بين القضايا وإمكانية إثباتها وبين الإجراءات وفوائدها، وهنا في هذه الطريقة يري لاكاتوش أنها ليس لها مكان في العالم الثالث . لذا فإن إصراري علي إعطاء التطبيق غير اللغوي للعلم قدراً من الاهتمام يوازي الأهتمام بالقضايا المصاغة صياغة لغوية يبدو أنه يمثل له إهانة لمزاعم العقلانية المنطقية والعالم الثالث .

ولا يزال لاكاتوش في نظر تولمن محتفظاً بسوء فهم في جعبته نحوي، ولذلك لم يتردد في أن يتهمني بأنني عدو للعقلانية، كما أنني برجماتي ونخبوي وفاشيستي أدعم التاريخية والاجتماعية والنفسية . إلا أنه بذلك كان يلتمس القضية الفلسفية الأساسية ؛ بمعني هل للاجراءات وثمراتها مكان في نطاق النقد العقلاني مثلها مثل القضايا وامكانية اثباتها . ولاكاتوش يري بوضوح أن الإجراءات ليس لها هذا المكان، بينما نري نحن العكس . ومن وجهة نظري فهي نوع من النقد العقلاني يجب أن نهتم به، فمثلا : فيما يتعلق بالفائدة الفكرية للإجراءات التفسيرية في العلم يجب علينا أن نفحص الخطوات الاستدلالية بشكل علمي، وبعيدا عن كون التطبيق ينطوي علي نوع مناهض للعقلانية في فلسفة العلم، فإنه يمثل طريقا وسطاً مهما يمكن عن طريقه الدفاع عن مزاعم العقلانية ضد كل من ضيق الأفق المتمثل لدي المناطقة الصوريين والرياضيين، ولاكاتوش ليس من ذلك براء , وكذلك مبالغات أصحاب النزعة التاريخية والنسبوية , مثل توماس كون في بداياته (.

وفي السياق نفسه يفسر لنا تولمن شكلين من أشكال النزعة التاريخية فيوضح أن لديه فرض ثاني يثبت مصدر عدائية لاكاتوش تجاه فلاسفة العلم الذين أخذوا علي نحو جاد  بتاريخ وممارسة العلم . وهذا الفرض الثاني يرتبط باعتقاد لاكاتوش , بأننا جميعا ملتزمون بشكل ردئ بأحد صور التاريخية . وكما سأوضح فإن التناقضات في استعمال لاكاتوش لمصطلح التاريخية تغطي علي القضية الأساسية عند تلك النقطة . (دفاعات أخري موازية يمكن الرد بها علي باقي اتهاماته) . وبدلاً من أن  يقدم لاكاتوش تعريفاً واحداً واضحاً للتاريخية يمكن أن يقبله دون جدال كل من كون وبولاني وتولمن، ويمكن له أن يبعد نفسه عنه بشكل واضح، فنحن نري عنده علي الأقل موقفان مختلفان من التاريخية لكل منهما دلالات مختلفة للتحليل العقلاني للميثودولوجيا العلمية . وبمجرد أن نري ذلك التمييز فسوف نري أن الموقف الذي دافع عنه كون في الطبعة الأولي من بنية الثورات العلمية , هو موقف تاريخي أقوي وأكثر إثارة للاعتراض أكثر مما يمكن أن أفعل أنا أو بولاني . إنه بالمعني الوحيد ذو الصلة، فإن موقف لاكاتوش النهائي هو موقف تاريخي مثل موقفي أو موقف  بولاني .

ويتجاهل هذا التمييز أو يتغاضي عنه، إلا أن لاكاتوش افترض أن أي شئ ضد توماس كون يخدم الغرض نفسه ضد بولاني وتولمن أيضا. فلم فعل   هذا ؟ إن السبب الأساسي يعود بنا مرة أخري للنقطة السابقة : أي استغراق لاكاتوش الرياضي في القضايا وامكانية إثباتها وإنكاره للمناهج وإثمارها وفوائدها في نطاق النقد العقلاني علي حد سواء .

ويشير تولمن إلي أن الشكل المختلف جداً من التاريخية يمكن توضيحه بملامح من موقف توماس كون المبدئي . فقد كان توماس كون قد قال بداية بأن العلماء الطبيعيين الذين يعملون من خلال إطار من نماذج مختلفة لن يكون بينهم شئ مشترك لمقارنة المزايا العقلية والفكرية لوجهات نظرهم . وخلال فترة هيمنته العلمية فإن النموذج يفرض قوانين للحكم والنقد علي العلماء الذين يعملون في نطاقه ولو بشكل مؤقت، ولأولئك الذين يعملون خارج نطاقه في المقابل فإن هذه القوانين ليس لها علاقة بهم . والأمر مطروح للتساؤل ما إذا كان كون أراد فعلا أن يتخذ ذلك الموقف الذي أتخذه في الطبعة الأولي من كتابه . وكما يقول لاكاتوش نفسه : " يبدو أن كون مشتت حول التقدم العلمي الموضوعي، وأنا ليس لدي أي شك في أنه كعالم وباحث مخلص فإنه سيبغض شخصياً النسبوية، ولكن نظريته يمكن تفسيرها علي أنها إنكار للتقدم العلمي وتأكيد علي التغير العلمي أو إنها إدراك للتقدم العلمي لكنه تقدم مدعوم بالتاريخ  وحده .

وتلك النظرة الأخيرة حول التقدم الذي يؤيده التاريخ الفعلي وحده هي تلك التي يري لاكاتوش أنها تاريخية بشكل ضار . كما أنني (كما يعلم هو) أقول بأن التغير المفاهيمي يبدأ بإنكار هذا الشكل بالذات من أشكال التاريخية .

ويطرح علينا تولمن سؤالاً  رئيسياً: إذا كان إمري لاكاتوش يعلم جيدا أنني أشترك معه في موقفه المعارض للنسبوية التاريخية عند كون فلماذا إذن يجمعني عامدا أنا وبولاني مع كون ويدعي أننا غير قادرين علي الهروب من تاريخيته مهما حاولنا جاهدين ؟ وهذا السؤال مقارنة باتهامات لاكاتوش لنا بالنخبوية، وباقي الاتهامات الأخري هو أقل بلاغة وبيانا .

ويري تولمن أن أي شخص يقبل بذلك الموقف التاريخي القوي فأنه حتما سيقبل أية أشكال قوية أخري من المواقف الأخري . وبناء علي ذلك فإن أي عالم أو مؤسسة تتبني أفكارا سلطوية تحت ظل متغير معين فسوف يكتسبون سلطة مطلقة في الحكم علي القضايا العلمية، ومثل تلك النتيجة محل نقد، مثل أن تكون " نخبوية " أو " فاشيستية" ... إلخ . والبديل هو شكل أضعف من التاريخية لا يتضمن تلك السلطة سواء لدي أي عالم أو جماعة أو فترة زمنية . وكل ذلك يؤكد حقيقة أن في العلم الطبيعي كما في غيره فمعايير الحكم العقلاني تمر بتطور تاريخي . لذا فالأحكام المقارنة للكفاية العقلية في العلوم المختلفة في مراحل تطورها المختلفة سوف تكون ملائمة وذات صلة فقط إذا أخذت بعين الاعتبار هذا التاريخ المعياري .

ويتساءل تولمن هل النزعة التاريخية الوحيدة في " الفهم الإنساني " هي ذاتها التي قدم لها لاكاتوش بانتصار علي أنها الرؤية الأساسية والنهائية حول الرياضيات في "براهين وتفنيدات"؟ : وهذه الرؤية نقطة تحول في النقد الرياضي والذي كان له أثر تغيير مفهوم الحقيقة الرياضية ومعايير الإثبات الرياضي وأنماط النمو الرياضي . وبهذا المعني فإن لاكاتوش في المرحلة الأولي يتخذ موقفا تاريخيا في فلسفة الرياضيات : وبالنظر للميثودلوجيا الرياضية، فإن الآراء التي قدمها في "براهين وتفنيدات"؟ حول النقد الرياضي تربط آرائي حول النقد العلمي بالتطور التاريخي للعلم الطبيعي .

ويبدو في نظر تولمن أن تاريخية "براهين وتفنيدات" ؟ أقوي من تاريخيته . والصفحات الختامية للاكاتوش تصف الثورات الرياضية بشكل متقارب لآراء كون، وإذا لم نقرأ ما بين السطور عند لاكاتوش ونفحص ما تنطوي عليه بدقة فربما نتهم فلسفته الرياضية بنفس الهرطقة التي يجدها في فلسفة توماس كون العلمية . ( ألا يقول إن الرياضيين يقبلون بثورة النقد الرياضي وقبولهم هو نقطة تحول في تاريخ الرياضيات . أفلا يعني ذلك أن قبولهم هو كل ما يهم ؟ وكيف يمكن للمرء أن يكون نخبويا وفاشيستيا أكثر من ذلك ؟ إلا أن هذه الاتهامات ستكون غير منصفة . فالقراءة المتأنية لنصوص لاكاتوش توضح أن هذه الثورات في النقد الرياضي تدع مجالا للإمكانية الحكم العقلاني اعتمادا علي احتواءها أو عدم احتواءها علي تمديد للمفهوم بشكل عقلاني أو لاعقلاني . ومثل تلك الثورات الرياضية تأخذ مكاناً لأسباب خاصة بها . والسؤال الرئيسي للجزء المتعلق بـ "الفهم البشري " يتطابق مع السؤال عن نقاط التحول في التغير العلمي : ما هي الأسباب الملائمة حينما يؤدي التغير في الاستراتيجيات الفكرية إلي تغيرات في معايير النقد العلمي، وبالتالي إلي تعديل مفهوم الحقيقة العلمية ومعايير الدليل العلمي وأنماط النمو العلمي .

وفي تقريره لمرحلة لاكاتوش الوسطي (التي أطلق عليها لاكاتوش 2) يري تولمن أنه كان بطيئاً في تطبيقه للتحليل التاريخي الكامل علي العلم الطبيعي وهو التحليل الذي قدم له في الرياضيات . فلم كان ذلك؟ ولماذا تردد في إعادة تطبيق استنتاجات "براهين وتفنيدات" علي العلم الطبيعي بكل ثرائه ومن ثم يبرر التحليل التاريخي للمعايير المتغيرة للنقد العقلاني في العلم ؟ يمكنني أن أجيب علي هذا السؤال من نص فعلي من أبحاث لاكاتوش المبكرة في فلسفة العلم .

ومن ناحية أخري يصف تولمن الاستقبال الشعبي والأثر الفكري لـ" بنية الثورات العلمية "، وذلك الشكل غير العقلاني من التاريخية الذي قدمه في تلك الطبعة الأولي بأنه رد لاكاتوش علي عقبيه ؛ إذ يقول :  ولسنوات (كما أذكر) كان لاكاتوش مضطرباً بشأن "براهين وتفنيدات" وشارف علي التبرأ منه . وأؤلئك الذين استحسنوا هذا العمل ونصحوا لاكاتوش بإعادة طبع سلسلة من المقالات كدراسة مستقلة جعلته في حيرة بسبب تردده .وإذا وضعنا آراء لاكاتوش إلي جانب نظرية توماس كون الأولية ولاحظنا أوجه الشبه السطحية بينهما فسندرك سبب قلقه . ماذا لو كانت آرائه حول أثر الثورات الرياضية علي المفاهيم النقدية للحقيقة والإثبات والمعقولية كان لها المحتوي اللاعقلاني نفسه في آراء كون حول آثار الثورات العلمية؟ وبمواجهة تلك المخاطر من السهل أن نري لماذا إتخذ موقفا دفاعيا يستثني به نظريته عن العقلانية العلمية من أية إتهامات ممكنة بالتاريخية أو النسبوية وفي هذا الجانب فإن آراء بوبر حول العالم الثالث وحول معيار التمييز للتمييز بين العلم الجيد والعلم السيئ تقدم خطاً دفاعيا أكثر أمناً . ولكن لاكاتوش يري عكس ذلك، حيث يؤكد أن تاريخ العلم الذي يبدأ من وقائع أمبيريقية سيصبح تاريخاً ساذجاً، تاريخاً للمحاولة والخطأ، ولن يميز العلم عما سواه من المعارف غير العلمية، وهو سيصبح كذلك تاريخاً لنظريات مشتتة أكثر منه لتجمع نظري واحد  .

ويستطرد تولمن قائلاً :  وفي المرحلة الثالثة (لاكاتوش 3)، نجد أنه يرفض معيار التمييز عند بوبر علي أساس أنه غير مرن بشكل مبالغ فيه ويسلم بميثودلوجية العلم الطبيعي التاريخية النسبوية التي أقرها من قبل في الميثودوجية الرياضية، وفي تلك المرحلة النهائية يسلم بفرضية بولاني حول أهمية " الحالة التشريعية " في ممارسة الحكم العلمي، حيث يتمتع بقدر كبير من الصحة . ورغم كل تعليقاته الإضافية حول الحاجة لموازنة "حكمة المحكم العلمي والحالة التشريعية " في مقابل الوضوح التحليلي لقانون الفيلسوف التشريعي . وإنتهي إلي إنكار الآراء القائلة بأن :" فلاسفة العلم هؤلاء الذين يسلمون بأن معايير العلم العامة ثابتة، وأن العقل قادرا علي التعرف عليها بشكل بديهي .

وفي السياق نفسه يري تولمن أن معايير لاكاتوش للحكم العلمي كانت عرضة لإعادة النظر والتعديل في ضوء النقد الفلسفي والخبرة العلمية التي كان من الممكن أن أحتاجها أنا وبولاني . هل كان إرتباط لاكاتوش المهني بـ " إيلي زاهار " الذي أعانه علي الرجوع لهذا الموقف ؟ أم هل فعل ذلك وحده ؟ هذا سؤال أخر . وفي الحالتين  كلاهما – كما قلت في مؤتمر Ucla – إن من دواعي سروري أن أرحب بعودة لاكاتوش للمشاكل الحقيقية .

ويتساءل تولمن : ما الذي نعنيه بهذا ؟ ويجيب قائلاً : دعونا نوضح هذه النقطة باختصار شديد ؛ فبمجرد التزام لاكاتوش بالمرحلة الثالثة (لاكاتوش3) – ومجرد قبوله بعنصر من الحالة التشريعية والنسبوية التاريخية في معايير الحكم العلمي – لم تستطع كل تعليقاته ومؤهلاته أن تعينه علي تأجيل بعض الإشكاليات الأساسية والتي تطرأ لكل من يقبل بتلك النسبية التاريخية . فماذا مثلا عن مشكلة المدي البعيد ؟ ما الذي يجب أن نقوله عن إمكانية أن أحكامنا العلمية الحالية وحتي معاييرنا الحالية في الحكم سوف يعاد النظر فيها أو تتغير في وقت لاحق لأسباب نابعة من الاستراتيجيات الفكرية المستقبلية والتي لا يمكننا التنبؤ بها في الوقت . يجب أن نضع جانبا سخرية إمري اللاذعة حول هيجليتي وكذلك احتكامه لتعليق " ماينارد كينز Maynard Keynes المعروف القائل بأنه علي المدي البعيد سوف نموت جميعا، ورغم إنكار لاكاتوش لشرعية مشكلة المدي البعيد في استعراضه لــ " الفهم الإنساني"، إلا أن ما قاله لم يخلص من الصعاب، لأننا يمكن أن نسأله: كيف يتسني لنا رؤية التضارب المحتمل في النقد العقلاني بين الآراء العلمية الأكثر تدقيقاً والتي تعكس أفضل حالة للحكم العلمي في المرحلة الراهنة للعلم وآراء العلماء لقرون قادمة والذين تقوم أحكامهم علي الخبرة العملية والاعتبارات النظرية .

وهنا يري تولمن أن الحاجة ماسة لإعادة تقييم استراتيجي في منهجنا، فكيف يمكن أن نبرر رهاننا علي ذلك عندما نفعل أو أنه نستبق بأحكام علماء المستقبل حول مدي فائدة هذه البدائل الاستراتيجية (ميثودولوجيا بديلة مثلاً) التي تواجهنا اليوم.  ربما لا يعتبر لاكاتوش هذا السؤال منطقيا، لكنه يصلح (لاكاتوش3) كما يصلح لــ " الفهم الإنساني" .

والسؤال الثاني الذي يسأله تولمن: كيف أمكن لإمري لاكاتوش أن يتجاهل ما تنطوي عليه آراءه عن الميثودولوجيا العلمية . وعند هذه النقطة (أعتقد أننا) يجب أن نعود لفرضي الأول : أي أن لاكاتوش مثل كارل بوبر يقبل بعناصر محددة في عالمه الثالث، وأي أحد يفهم هذا العالم علي أنه مجموعة قضايا وعلاقات شكلية بينها دون ذلك فيمكنه أيضا أن يراها خالدة أو لا زمنية : مستثناه من التغير التاريخي وخارج النطاق التجريبي . وانطلاقا من وجهة النظر اللازمنية هذه فإن النقد الفلسفي هو مجرد نقد منطقي يعني بإمكانية التأييد والإثبات والاحتمالية والقابلية للتكذيب للقضايا، كما تعني بالاستدلالات التي تربط بينها . ولكنه مجرد قبول الإجراءات وباقي عناصر التطبيق في العالم الثالث، فإن صفته الزمنية والتاريخية لا يمكن إخفاؤها. ومشكلة المدي البعيد تواجه أولئك الذين يجدون نطاق العالم الثالث بقضايا فرضية منطقية بشدة  كما تواجه أولئك الذين يقرون بالإجراءات كأشياء شرعية في التقييم العلمي . وحتي لو نظرنا فقط للمحتوي الفرضي بالنسبة لعلم حالي في ضوء معاييره الداخلية للصحة والإثبات والصلة، فإن الناتج يمكن أن يعطينا فقط صورة عن العالم الثالث كما نفهمه الآن . ورغم الصفة الرياضية أو المنطقية الشكلية لعلاقاته الداخلية فإن مجمل هذا العالم سيكون موجود تاريخياً مثل عام 1975م أو حتي كان ذلك . إلا أن كثير من القضايا والاستدلالات التي تبدو قائمة علي أساس جيد وفي موقف عقلاني جيد اليوم فسيختلف بطرق شتي عن الموجودة في العالم الثالث الذي سيعرفه علماء المستقبل ( لنقل) في عام 2175م . ولذا فبمجرد دخول الحالة التشريعية والنسبية التاريخية في الميثودولوجيا، فإن مشكلة الأحكام التاريخية المقارنة للعقلانية تصبح لا مفر منها . والادعاء بأن العالم الثالث هو عالم المنطقية وحدها هو مجرد تأجيل لتلك اللحظة التي سنواجه فيها هذه الحقيقة .

وفي نهاية المطاف يعبر تولمن عن مدي أسفه لرحيل إمري لاكاتوش المبكر من المشهد الذي حرمه من فرصة مناقشة هذه النقاط معه شخصياً، كخصم محترم وودود سيظل يفتقد جدية عقلة ومتعة ذمه .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم