أقلام فكرية

مفهوم الصدق عند ألفريد تارسكي (3)

محمود محمد عليفي هذا المقال نتحدث عن التصور السيمانطيقي (الدلالي) للصدق، حيث أستغرق تارسكي في محاولته الوصول إلي تعريف نهائي لمفهوم الصدق حوالي ست سنوات من سنة 1929إلي ستة 1935 - وكان يسير معه في الاتجاه نفسه " رودلف كارناب " حتي أخرج لنا كتابه الأخير " التركيب المنطقي للغة " سنة 1937؛ حيث يرجع  إليه الفضل في إستكمال النظرية الخاصة بمستويات اللغة وتصنيفها وإتقانها، لا سيما وأن "كارناب" قد ركز في عمله علي دراسة بنية اللغة وتحليل معانيها .

ولقـد تشكل المفهوم السيمانطقي (الدلالي) للصدق عند تارسكي، في بحثين، جاء أولهما علي درجة كبيرة من التعقيد هو " مفهوم الصدق في اللغات الصورية " The concept of truth in formalized languages، عام 1931( نشر أولاً باللغة البولندية سنة 1933، وباللغة الألمانية سنة 1936، وباللغة الأنجليزية سنة 1956)، ثم عاد تارسكي وقدم أفكاره عن الصدق بشئ من الإيجاز، وبقدر كبير من الوضوح واليسر في بحثه الثاني " المفهوم السيمانطقي للصدق وأسس علم الدلالة The Semantic Conception of Truth and the Foundations of Semantics’" سنة 1944، وعلي الرغم من أن نظرية تارسكي في الصدق قد ترتبت عليها نتائج عظيمة في المنطق الرياضي، ولذلك سنبدأ هنا بالتركيز علي الجانب الدلالي من هذه النظرية والذي كان له أبلغ الأثر علي كل من جاء بعدة من علماء ومفكرين .

وقد حاول تارسكي صياغة تعريف للصدق يتميز بأنه صحيح وسليم من الناحية الصورية، ومثمر وفعال من الناحية النظرية . ويقدرالمفهوم التقليدي للصدق حق قدره بقدر ما يتفق مع الواقع، والذي يشير إليه تارسكي علي أنه المفهوم الأرسطي الكلاسيكي في الصدق، ويتجلي في عبارة أرسطو المشهورة التي وردت في كتابه " الميتافيزيقيا "، والتي يقول فيها أرسطو: " إن القول عما يوجد إنه لا يوجد، أو القول عما لا يوجد إنه يوجد هو قول كاذب، علي حين إن القول عما يوجد إنه لا يوجد وعما لا يوجد إنه لا يوجد هو قول صادق، ولذلك فإن من يقول عن أي شئ إنه يوجد أو إنه لا يوجد سيقول إما الصدق أو الكذب ".

ومن هذا المنطق تنقسم نظرية تارسكي في الصدق إلي جانبين، يتمثل الجانب الأول في تقديم " شروط الكفاية adequacy conditions، ويعني بها الشروط التي يجب أن يستوفيها أي تعريف مقبول للصدق، ويتجلي الجانب الثاني في تعريف الصدق بالنسبة للغة صورية محددة، ويثبت تارسكي أن هذا التعريف يتمتع بالكفاية عن طريق المعايير التي وضعها .

يقول تارسكي: مشكلتنا الرئيسية هي محاولة تقديم تعريف مقنع لمفهوم الصدق ولكي يكون التعريف مقبولا يجب أن يستوفي شرطين أساسيين:الأول، أن يكون التعريف كافياً Materially Adequate، والثاني أن يكون صحيحاً صورياً Formally Correct .

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة، وهي أنه عندما نتحدث عن الصدق، فأول ما يطرأ في الذهن هو الصدق المادي ؛ أعني صدق العبارات والجمل، لكن في الحقيقة توجد حالات نفسية أخري يمكن أن ننسب إليها الصدق، مثل الأحكام والاعتقادات والتقريرات ...الخ، كما ينطبق أيضاً علي القضايا، واهتمامنا هنا منصب علي صدق الجمل، لكن هذا لا يمنعا من الحديث عن صدق الأشياء الأخري، فمثلاً جملة " الثلج أبيض " لا نستطيع معرفة صدقها أو كذبها إلا من خلال شروط الصدق، وإذا تساءلنا عن شروط الصدق في هذه الجملة، ستكون وفقاً للمفهوم الشائع أو العادي للصدق، الجملة صادقة إذا كان الثلج أبيض، والعكس صحيح تكون كاذبة إذا لم يكن أبيضاً، أو بتعبير آخر أدق الجملة " الثلج أبيض تكون صادقة إذا كان الثلج أبيضاً بالفعل .

ويشرح تارسكي شروط الجملة الصادقة في العناصر التالية:

- الجملة الصادقة: هي التي يقول عنها الشخص أنها الحالة الموجودة كذا وكذا، وتكون حقاً هي الحالة كذا وكذا .

- الجملة " إنه يتجمد " تكون صادقة متي كان هناك شيئاً يتجمد بالفعل .

- الجملة تكون صادقة متي صدقت مكوناتها ( أي كلماتها).

- بالنسبة لكل جملة "ب "، " ب" تكون جملة صادقة إذا كانت "ب " بالفعل .

- بالنسبة لكل جملة " س " ، " س " تكون جملة صادقة إذا كانت " س " مطابقة لـ " ب " الحالة المحددة فقط .

وليست النظرية سهلة الفهم لأنها صيغت صياغة منطقية صارمة . ولذلك يحسن بنا أن نقوم بتوضيحها، وذلك بأن نوضح أولاً استخدام تارسكي كلمة " جملة " Sentence، ونوضح ثانياً معنى المفارقة المنطقية . خذ كلمة " جملة " أولاً . نلاحظ أن تارسكي يستخدم في نظريته هذه الكلمة بمعنيين مختلفين: المعنى الأول: هو أن الجملة رمز لغوي مركب، وهذا هو المعنى المألوف لكلمة " جملة "، لكن تارسكي يعني بها أيضاً ما يعنيه التقليد المنطقي المعاصر بكلمة " قضية " proposition أو statement، وهو معنى الجملة أو الحكم الذي تقدمه الجملة . والفرق عند المناطقة المعاصرين – بين الجملة والقضية هو أن من الممكن إعطاء عدة جمل مختلفة الصياغة اللفظية لكنها تدل على قضية واحدة أو حكم واحد أو مضمون واحد، مثلما نقول " الشمس مشرقة "، رأيت الشمس تسطع في السماء، أو نترجم أياً من هاتين الجملتين إلى لغة أجنبية، فهذه جمل مختلفة الصياغة، لكنها تؤدي معنى واحداً أو تصدر حكماً واحداً أو قضية واحدة أو تصور حكماً واحداً أو قضية واحدة . وتوصف القضية – لا الجملة – بالصدق أو بالكذب . ونلاحظ أن تارسكي استخدم في نظريته كلمة " جملة " لتؤدي المعنيين معاً . ونلاحظ أخيرا ً مع الدكتور " محمود زيدان" رحمه الله أن القضية الصادقة تدل علي واقعة ما في نظرية المطابقة التقليدية، لكن تارسكي لا يستخدم كلمة " واقعة " أبداً، وإنما يستخدم كلمة جملة بالمعني الثاني أي بمعني قضية .

أما المفارقة paradox، بوجه عام فهي قضية منافرة لما هو مألوف، أو أية قضية تبدو كاذبة للوهلة الأولى، لكن توجد حجة محكمة تدعمها لكن الكلمة اتخذت معنى اكثر دقة عند المناطقة، إذ تتألف المفارقة المنطقية من قضيتين متضادتين أو متناقضتين نصل إلى كل منهما بحجة استنباطية محكمة، فلا نستطيع قبول إحداهما دون الأخرى فنقع في حيرة . والمفارقات كثيرة فلدينا مفارقات " زينون الأيلي" Zeno of Elea، التي تهدف إلى استحالة الحركة في العالم الطبيعي، ولدينا مفارقة الكذاب التي كان أول من صاغها هو " يوبوليدس " Eubolides الميغارى وتقول إن شخصاً ما يكون كاذب فهل هذا القول صدق أم كذب " .

ونشأت مفارقات كثيرة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مثل مفارقة فورتي- بورتيBurrti – Forti ومفارقة كانتور cantor وتتعلقان بنظرية المجاميع set theory، ومفارقة رسل وتتعلق بالصنف وعضوية الفرد في صنف .

ثالثا: حدود الصـــدق:

انطلق " تارسكي " من تعريف "أرسطو" الذي حدد الصدق في "مطابقة الفكر للواقع" فلقد كان الفكر الكلاسيكي ينظر إلى الصدق بوصفه خاصية للفكر، مما أستوجب ربط الفكر الذي يصدر الحكم بالواقعة المحكوم عليها، لكن الدارس الكلاسيكي يتوقف في تحديد كيفية ضمان الحكم، فتصديق القضايا أو تكذيبها تكذبياً مطلقاً زاد من صعوبة ضبط سبل التحقق من وجود تطابق بين الفكر والواقع .

ويقر تارسكي بوجود العديد من الصعوبات التي تتعلق بمشكلة معني مفهوم الصدق . فنحن نصادف العديد من المفاهيم المختلفة للصدق والكذب في مناقشات الفلاسفة كما ذكرنا من قبل . ويصور تارسكي صدق الجملة بأنه يكمن في اتفاقها مع الواقع أو تطابقها مع الواقع . ويطلق تارسكي علي نظريته " المفهوم السيمانطقي للصدق، فالسيمانطيقا هي القاعدة التي تتعامل مع علاقات محددة بين تعبيرات اللغة والموضوعات (أو الحالات) التي نشير إليها من خلال هذه التعبيرات .

وقد برهن "تارسكي" على بطلان هذا التصور داعياً في نفس الوقت إلى ضرورة تحديد معايير واضحة لنظرية الصدق . مما دفع به إلى التخلي عن المسالة المتعلقة بمعرفة ما إذا كانت القضايا المتحققة صادقة مطلقاً أو كاذبة مطلقاً .

فالصدق يعني "التطابق مع الواقع"، فصحيحاً " أن بعض الكلاب تنبح " لو أن القضية أن بعض الكلاب تنبح قد تطابقت مع الواقع " وأن الحقائق حقيقة واحدة، وحقاً أن بعض الكلاب تنبح، لذا فإن القضية التي تقول إن " بعض الكلاب تنبح " لا يمكن أن تكون موقفاً افتراضياً . فكذلك الامر " فإن الله موجود " تكون صحيحة إذا وفقط إذا تطابقت هذه القضية " إن الله موجود " مع الواقع .

ويشير تارسكي إلى أن القضية عندما تتطابق مع الواقع، فإن التطابق يعني التكافؤ، فالحقيقة لكي تصدق يعني أن القضية (أ) تكون متطابقة مع الواقع (أ) لو أن القضية (أ) كانت صادقة ؛ حيث قد ساد في بدايات 1930 من بين فلاسفة العلم من أهتم بالمفاهيم السيمانطقية كمفاهيم الصدق والإشارة، والتي لم تكن معروفة من قبل، كما أنها لم تكن مستجدة في التصورات العلمية المتعلقة بالعالم . وعندما عمل تارسكي في مجال الصدق أصبحت هذه الموضوعات معروفة وقد تغيرت نتائج تارسكي العلمية كما قال بوبر، وأصبح مفهوم الارجاع عند بوبر اكثر إتساعاً.

ونشير هنا إلى أن تارسكي لم يوظف أي تعريف سيمانطيقي يوضح أن الحد الصادق المقبول لدى أي شخص يمكن أن يضع الحدود الدلالية موضع شك، فلقد أرجع تارسكي الصدق إلى المفاهيم الدلالية الأخرى، ولا يعني ذلك أن نتائجه في الصدق تعتبر (تافهة) وعلى العكس من ذلك ففيما يرى هارترى Hartry أنها على درجة كبيرة من الأهمية، ويمكن تطبيقها ليس فقط في الرياضيات وحدها، وإنما أيضاً يمكن تطبيقها في مجال علم اللغة وغيرها من مشكلات الفلسفة، كمشكلات الموضوعية والواقعية، فهو قد أراد أن تكون الفلسفة لغوية وتستخدم الأسلوب اللغوي وتتعلق بالمشكلات الواقعية والموضوعية .

وسوف نتناول فيما يلي أراء تارسكي في الصدق؛ فلقد بحث تارسكي في تعريف " الصدق " ووجد أننا لن نستطيع أن نصل إلى صياغة تعريف دلالي للصدق في لغتنا الطبيعية تتصف بالعمومية Universality،وما يعنيه تارسكي هو أننا لكي نصل إلى تعريف الصدق، فإننا في حاجة لتحديد متى يكون لدينا " عبارة صادقة " وما هي " دلالة " عبارات اللغة، وما هي العلاقات التركيبية " بين عبارات اللغة، أي أننا باختصار في حاجة إلى الحديث عن اللغة . فنحن نستخدم ألفاظاً وعبارات من اللغة ليس فقط في التعبير بها عما نريد أن نعبر عنه ولكن أيضاً للحديث عما نريد أن نعبر عنه في اللغة نفسها . وهذا ما يعنيه تارسكي " بعمومية " لغة الحياة اليومية، وتؤدي هذه الصفة أي عمومية اللغة دائماً صعوبات ومفارقات أشهرها " مفارقة الكذاب " والتي يمكن شرحها على النحو التالي:

(ب) رمز العبارة " الجملة المكتوبة جـ ليس جملة صادقة ووفقاً لمعنى يمكن أن نؤسس بطريقة تجريبية صدق القضية:

أ- " جـ ليست جملة صادقة " يسمعها هويه بـ جـ

ب- " جـ ليست جملة صادقة " جملة صادقة فقط إذا كانت جـ ليست جملة صادقة .

تؤدي المقدمتان (أ)، (ب) إلى التناقض الآتي:

جـ جملة صادقة إذا كانت جـ ليست جملة صادقة .

ويضرب تارسكي هذا المثال لينتهي منه إلى أن صفة العمومية التي تتصف بها لغة الحياة اليومية، هي مصدر سائر مفارقات المعني، وهذه المفارقات . وفقاً لتارسكي تقدم برهاناً على اننا إذا حاولنا إخضاع أية لغة لقوانين المنطق سينتج عنه لغة غير متسقة Inconsistent، وهو ما ظهر في مفارقة الكذاب .

ويؤكد " تارسكي " أن تصورة للصدق لا يخرج عن التصور الكلاسيكي لنظرية التطابق فصدق الجملة عند تارسكي يعني مناظرتها أو مطابقتها للواقع والهدف الأساسي لتارسكي من تحليلة هذا للصدق هو إقامة ما يسميه بالدلالة أو السيمانطقيا العلمية . Scientific semantics، وهو ما يعني ضرورة رد كافة التصورات السيمانطقية إلى تصورات فيزيائية أو رياضية منطقية، ولذا ينطوي تصور الصدق هذه على ما يطلق عليه "شروط التطابق المادي" Material adequqcy condition .

يتضح لنا من خلال السطور السابقة أن تارسكي يري أن  الصدق مفهوم دلالي لأنه يمكن تحديده بلغة المفاهيم الدلالية  الأخري، وبوجه خاص مفهوم التبرير أو التسويغ والمفاهيم الدلالية مثل التبرير والتعريف والإشارة تتعامل مع العلاقات بين التعبيرات والموضوعات ؛ ويقول تارسكي أن الصدق يعبر عن خاصية أوعن فئة من الأسماء أو عن جمل، وهذه الجمل ينظر إليها باعتبارها حمليات صادقة، وبالتالي نحن بحاجة إلي صياغة من الشكل:

(س) {س صادقة إذا كانت (س = ص) (س) تتطابق مع ص}.

ويطبق تارسكي هذه الصيغة في لغة بسيطة جدا ًعلي عدد محدود من الجمل مثل قولنا:

1- المائدة تدور .

2- جون يحب ماري.

3-نابليون علي قيد الحياة .

وبالتالي نستطيع أن نستنتج جمل الصدق Truth –Sentence من خلال نظرية تارسكي كما يلي:

أ-المائدة تدور = المائدة تدور .

جون يحب ماري = جون يحب ماري.

ج- نابليون علي قيد الحياة = نابليون علي قيد الحياة.

ويعتبر تارسكي هذه الجمل (جمل الصدق) مجرد تعريف جزئي للصدق .وبالتالي فإن التعريف التام يمكن أن يسمي "ربط منطقي" Logical Conjuction أو استنتاج منطقي Logical Product  (بين- من) سائر هذه الجمل . ويقصد تارسكي من خلال الربط المنطقي شيئاً ما يتكافئ منطقياً مع ربط (جمل الصدق) سالفة الذكر كما يلي: الجملة (س) ( حيث إن س صادقة تتطابق ايضاً مع الجملة (س) والتي تتكافئ منطقياً مع الجملة (جون يحب ماري وجون يحب ماري) أو تتطابق أيضاً مع الجملة (س) التي تتكافئ منطقياً مع الجملة (نابليون علي قيد الحياة ونابليون علي قيد الحياة) .

ويشير تارسكي إلي ضرورة وجود شروط عامة محددة، يمكن من خلالها أن ننظر إلي بنية اللغة باعتبارها باعتبارها محددة تماماً . ولتحديد بنية اللغة يجب علينا يجب علينا أن نميز فئة الكلمات والتعبيرات التي يعد لها معني بصورة ليست غامضة . ويجب علينا الإشارة إلي سائر الكلمات المقررة والتي يستخدمها دون تحديد، والتي نطلق عليها " ألفاظ أولية "، ويجب علينا أيضاً أن نقدم القواعد المعروفة للتعريف لإنتاج ألفاظ جديدة أو محددة . وبعد ذلك نضع معياراً للتمييز ضمن فئة التعبيرات التي نطلق عليها " جمل "، وفي النهاية يجب علينا أن نضع الشروط التي من خلالها يمكن لجملة ما من جمل اللغة أن تكون مقررة . ومشكلة تعريف الصدق تتضمن معاني دقيقة، ويمكن حلها في نهج صارم من خلال تلك اللغة التي لها بنية محددة تماماً، وبالنسبة للغات الأخري – وهكذا بالنسبة لسائر اللغات الطبيعية التي تتحدث بها – نجد المشكلة ليست أكثر ولا أقل غموضاً، وحلها شئ بديهي .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم