أقلام فكرية

المنطق الهندى بين التبعية والأصالة (1)

محمود محمد عليشهدت معظم كتابات مؤرخي المنطق في أواخر القرن التاسع عشر اهتماماً كبيراً بالمنطق الهندي ؛ إذ أدرك هؤلاء المؤرخون أن الهنود القدماء، قد قدموا أفكاراً منطقية لا تقل أصالة عما قدمه "أرسطو" في نظريته المنطقية، وأنه إذا كان المنطق الأرسطى قد تمثلته أوربا الغربية والشرقية، ومناطقة العرب والمسيحية فيما بعد ؛ فإن المنطق الهندي قد انتشر في الصين واليابان ومنغوليا وسيلان واندونيسيا.

ومن أهم تلك الأفكار على سبيل المثال لا الحصر: مبدأ الاستدلال، حيث عرف الهنود الاستدلال من خلال الكلمة السنسكريتية Anumana والتي تعنى الانتقال من قضية إلى قضية أخرى تلزم عنها بمقتضى القواعد والقوانين المنطقية ؛ وتسمى القضية التي نبدأ منها بالمقدمة، وتسمى القضية اللازمة عنها بالنتيجة . وهذا الانتقال إما أن يكون من العام إلى الخاص أو من العام إلى العام، وهذا ما يسمى بالاستنباط وهو مباشر وغير مباشر، ويشتمل غير المباشر منه على القياس الذي ننتقل من خلاله من قضايا مسلم بها إلى قضية أخرى، صدقها يلزم بالضرورة عن صدق القضايا المسلم بها، وهو يطلق عليه في اللغة السنسكريتية Nyaya، وهو انتقـال من العام إلى الخـاص. وإما أن ينتقل الاستـدلال من نفى المقدمة كمبدأ عام أو فرض إلى نتيجة جزئية غير مقبولة أو مستحيلة مما يبرهن على صدق المقدمة. وهذا ما يسمى فى اللغة السنسكريتية Tarka، أى برهان الخلف أو الرد إلى المستحيل أو الدحض أو التفنيد بالخلف.

وثمة نقطة أخرى نود أن نشير إليها في مبدأ الاستدلال في المنطق الهندي، وهى أن هذا المبدأ لم ينبثق فجأة وبدون مقدمات، وإنما تطور عبر تاريخ المنطق الهندي من مرحلة الممارسة العفوية التلقائية إلى مرحلة الصياغة النظرية، مما أثار لدى بعض مؤرخي المنطق هذا السؤال: هل مبدأ الاستدلال في المنطق الهندي تطور بنفس الصورة التي تطورت بها نظرية القياس الأرسطية؟ وإذا كان هذا صحيحاً فهل أثرت نظرية القياس الأرسطية في تطور مبدأ الاستدلال في المنطق الهندي ؟ أم أن مبدأ الاستدلال في المنطق الهندي تطور تطوراً طبيعياً وبدون أى مؤثرات خارجية؟

وأود قبل أن أشرع في هذا المقال في عرض موضوع "المنطق الهندى بين التبعية والأصالة"، أن أعرض باختصار لنشأة هذا المنطق وتطوره حتى نستطيع أن نفهم كيف تطور مبدأ الاستدلال بعد ذلك.

إذا ما تتبعنا نشأة المنطق الصوري في بلاد الهند، نجد أن هذا المنطق كما يذكر "بوشنسكى" قد تطور كما تطور في اليونان من منهجية النقاش والمحاورة ؛ وقد تطورت هذه المنهجية وأصبح لها تنظيمها المحكم في القرن الثاني بعد الميلاد، وذلك من خلال كتاب " النيايا سوترا" Nyaya Sutra، الذي ألفه شخص يدعى " اكسبادا جوتاما " Aksapada Gautama ، وذلك نحو 150 م .

والمتتبع للآثار المنطقية عند المفكرين السابقين على " جو تاما " يصطدم بعقبة أساسية، وهى عدم وصول مؤلفات هؤلاء المفكرين في جملتها إلينا، باستثناء ما رواه ونقله المؤرخون عنهم من شذرات وفقرات . ولذلك نضطر إلى الأخذ بهذا الافتراض الذي أكده بعض أساتذتنا المعاصرين ؛ والذي مؤداه أن هناك مستويين للمعرفة : المستوى الضمني والمستوى الصريح الواضح . فالطفل أو الرجل الأمي - على سبيل المثال ـ يستطيع كلاهما أن يستخدم لغة قومه استخداماً صحيحاً نسبياً وبدون حاجة إلى تعلم قواعد النحو الخاصة بهذه اللغة أو بتلك . ولو سألنا أياً منهما أن يبرر استخدامه الصحيح للغته ؛ أي لو طلبنا منه أن يستخرج قواعد اللغة التي يتحدث بها، وأن يصوغها صياغة نظرية، لما كان هذا في امكانه . والسبب في ذلك أننا ننقله في هذه الحالة من مستوى الممارسة اليومية للغة إلى مستوى الصياغة النظرية لقواعدها . ونفس الشيء يمكن أن يقال عن المنطق، فالمنطق بوصفه علماً يفترض ـ مسبقاً ـ المنطق كممارسة يومية تلقائية، شأنه في ذلك شأن النحو الذي يفترض المقدرة على الاستخدام المسبق للغة .

ولقد أخذت مرحلة الممارسة العفوية التلقائية للتفكير المنطقي فى الفكر الهندي السابق على جوتاما في القرن الثاني للميلاد صورا ًعدة نجملها فيما يلي :

1- الفكر الجدلي الفلسفي الذي انبثق فى القرن الخامس قبل الميلاد، من ممارسة الجدليات بشكل واع، وإن لم تكن قد وضعت بعد قواعد نظرية لعلم الجدل. وقد تم ذلك كما يؤكد المؤرخ الهندي " فيديابهاسونا" ؛ في الكتاب بـ" الانفيكسيكا Anviksiki " والذي وصلتنا بعض شذرات وفقرات قليلة منه، والذي ينسب إلى شخص يدعى "ميدهانتهاى جوتاما "Medhatithi Gautama ، وذلك حوالي سنة 550 قبل الميلاد ؛حيث كان يطلق على المنطق اسم Sastra or vidya أي الجدل أو المناقشة .

2- الفكر الجدلي كما تمثل فى أوائل القرن الأول للميلاد، حيث أسهمت المجادلات الفلسفية التى كان يدافع ممثلوا الـ" كاراكا سمهيتا Caraka smhita " من خلالها عن المفاهيم الخاصة بنظرية الفن الخطابي، ويقدمون حججاً ضد آراء خصومهم البراهمانيين، وذلك من خلال ما أطلقوا عليه Sthapana and pratisthapana، والتي تترجم في الإنجليزية إلى Demonstrations and Counter Demonstrations، أي البراهين والبراهين المضادة، إسهاماً كبيراً فى إعداد العقلية الهندية وتهيئتها لاستقبال مبدأ الاستدلال .

3- بلغت مرحلة الممارسة العفوية التلقائية لعلم المنطق فى نهاية القرن الأول من الميلاد فى كتاب"الفايشيكا سوترا aiscika Sutr، على يدي الفيلسوف "كانادا" Kanada، حيث احتوى هذا الكتاب لى أفكار منطقية أكيدة استفاد منها صاحب "الـ" نيايا سوترا " " فى القواعد النظرية لعلم الجدل (المقولات الست عشرة) .

ويمثل كتاب "الـنيايا سوترا " الذي طبع في أواخر القرن الثاني للميلاد أول بداية للمنطق الصوري بمعناه الحقيقي، حيث أن كلمة Nyaya معناها المنطق الذي يعنى القاعدة والمعيار والقانون- هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى معناها "القياس"؛ أي المقدمات العقلية التي تقود المرء إلى نتيجة.

ويفصح صاحب " الـ "نيايا سوترا " عن غايته في الكتاب فيقول كما يقول كل مفكري الهند أنها تحقيق النرفانا أو الخلاص من طغيان الشهوات، وإنما تتحقق هذه الغاية في مجال المنطق بالتفكير الواضح الذي يقوم بين المتناظرين من فلاسفة الهنود، فهو يصوغ لهم مبادىء الحجاج، ويفرض عليهم أحابيل النقاش ويحصر المغالطات الشائعة في التفكير، وتراه وكأنما هو أرسطو آخر يلتمس بناء التدليل العقلي في طريقة القياس ويجد عقدة كل تدليل فى الحد الأوسط من حدود القياس .

وقد أوضح جوتاما ذلك من خلال الصياغة النظرية التى قدمها لقواعد الجدل، والتى تمثلت فى حديثه عن نظام المقولات الست عشرة ؛ حيث يؤكد أنه يجب على المتناظرين اختبار سلاحيهما، أى معرفتهما بقانون المنطق (وهذه هى المقولة الأولى وتسمى Pramana)، ثم يجب عليهما أن ينظرا فى موضوع المناقشة (المقولة الثانية وتسمى prameya)، وبعد ذلك ينازع أحد المتجادلين في القضية المقدمة من خصمه (المقولة الثالثة وتسمى Samsaya). ويجب أن تكون تلك المنازعة مسببة (المقولة الرابعة وتسمى Prayojana). وفى بداية المجادلة يقع الاختيار على مثال باعتباره مرجعاً، ويتفق المتجادلان على ما يسلمان به مقدماً بوصفه ثابتاً (المقولة الخامسة وتسمى Drstanta)، وبعد ذلك تصاغ الدعوى التى تشكل موضوع المناقشة (المقولة السادسة Siddhanta).ثم يقدم أحد المتجادلين برهاناً على قضية مامراعياً القواعد كلها (المقولة السابعة وتسمىAvayava وهى تشمل عناصر القياس ذى القضايا) ويدحض القضية المضادة مشيراً إلى أنها تؤدى إلى نتائج ممتنعة أو مستحيلة (المقولة الثامنة وتسمى Tarka)، وحينئذ يتم الوصول إلى الحقيقة المبرهنة(المقولة التاسعة وتسمىNirnaya) . وتستكمل هذه المقولات بتسع أخرى بقائمة من الأخطاء التى تواجه فى مسار المباراة أو المناظرة الشفوية، وهى تختلف عن المناظرة العلمية(المقولة العاشرة وتسمى Vade)، فى أنها تنطلق من انفعال بسيط فى المناظرة، ولا تضع أمام نفسها إلا تخطئة الخصم (المقولة الحادية و الثانية عشر وتسمى Jalpa، Vitanda) . والمقولات الأخرى التالية تشكل قائمة البراهين الفاسدة (وتسمى على التوالى Hetvabhasa، Chala، Jati، Nigrahasthana) .

وتكشف هذه المناقشات عن مدى تقدم المحاورات الهندية والتزامها بمنهجية صارمة، الأمر الذي كان مفتقداً في محاورات أفلاطون .

وأقدم مخطوطات منطق " الـ"نيايا سوتر": هو ديوان يضم خمسمائة وثماني وثلاثون قولاً لجوتاما فى خمسة أسفار . وينقسم السفر الأول إلى جزأين ؛ احدهما يعرض نظرية المقولات الرئيسة التسع، والثانى يعرض المقولات السبع المكملة . والسفر الأول يقدم لنا لوحة مكتملة لقانون المنطق ولفن المناقشة، وتنمى الأسفار التالية مضمون السفر الأول للمفاهيم الأخرى حول تلك النقاط الأساسية للمذهب .

وبالطريقة نفسها التي جعل "أرسطو" نظرياته الفلسفية مسبوقة بالمنطق بوصفه آلة للفكر، وضعت مدرسة " الـ"نيايا سوترا "" نظريتها فى وسائل المعرفة قبل عرضها لنظريتها الأساسية.

وقد حظي كتاب" الـ"نيايا سوترا"" اهتماماً منقطع النظير، حيث قامت بعد ذلك أجيال من الحكماء والدارسين على اختلاف المدارس التي تنتمي إليها، حيث قام هؤلاء بين الفينة والفينة بكتابة شـروح له، وتعليقات عليه وتطويره ونقده أحـياناً، كما قـامت مناظرات بين المدارس البوذية والبراهمانيين والجينيين . وكان المنطق يحظى باهتمام بالغ في هذه المعسكرات الثلاث، ومن أهم المناطقة : النيايايكاس Naiyayikas (شراح الـ"نيايا سوترا" ويقابلون شراح أرسطو) : فاتسيايانا Vatsyayana(القرن الخامس إلى السادس الميلادى) واوديوتاكارا (القرن السابع الميلادى)، وفا كسباتى ميرزا Vacaspti Misra (القرن العاشر الميلادى)، وجاينتا Jayanta (القرن العاشر إلى الحادي عشر الميلادى). وفى الميماسكاس Mimamsakas : كوماريلا Kumarila (حوالي القرن السابع الميلادى). وفى الفايشيكا: براساستابادا Prasastapada (حوالى القرن الثامن الميلادى).

ومنذ القرن السابع الميلادي شهد المنطق الهندي فترة " النافيا نيايا "، وقد أعطى لهذه المدرسة شخصيتها المميزة الكتاب الذي ألفه ديجناجا، ويسمى براماناسموكايا Pramanasamuccaya، ثم تطورت هذه المدرسة وأصبح لها شأناً عظيم على يدى" ذرا ماكيرتى" Dharmakir؛ ثم تلميذه ذراموتار Dharmottara ؛ وعلى أيدي هؤلاء كما يقول "بوشنسكى"، تبلور المنطق الصوري وأضحى راسخاً، وإن كان يبدو فى بعض الأحيان بدائياً ساذجاً بالقياس للمنطق الغربي.

ومن ناحية أخرى فقد شهد القرن الرابع عشر فترة " النافيا نيايا" أى النيايا الجديدة، وقد أعطى لهذه المدرسة حتى أصبحت على حد تعبير "بوشنسكى" تشبه الاسكولائية المسيحية فى القرن الرابع عشر الميلاد مع اختلاف التوجهات بين كل منهما .

وأشهر مناطقة هذه الفترة الذين لا حصر لهم : جاياديفا Jayadeva (القرن الخامس عشر الميلادى) وراجوناثا Ragunatha (القرن السادس عشر الميلادى)، وماثوراناثا Mathuranatha (القرن السابع عشرالميلادى)، وكذلك انامباتا Annambhatta الذى ألف مختصر فى المنطق كتاب يشبه كتاب وليم أوكام Summulae Logicales .

وفى الوقت الحاضر، تدهورت الدراسات المنطقية، حيث أضحت الأبحاث التى تتناول المنطق فى الهند فى الوقت الراهن، تشبه تلك الأبحاث التى تتناول المنطق الاسكولائى فى الغرب، ومعظم نصوص المنطق الهندى لم تنشر حتى الآن، وكثير منها وخصوصاً الذي ينتمي إلى البوذية متوفر باللغة التبتية أو الصينية فقط، وكثيرمن تلك النصوص قد فقد . ولكن نشر هذه النصوص كما يذكر "بوشنسكى" لن يؤتى ثمرة واضحة، بعكس حالة المنطق الاسكولائى، وذلك لضرورة الدراسة اللغوية المتخصصة، حتى تسهل قراءة أصول هذه النصوص، بينما لا يهتم من لديهم المعرفة باللغة الهندية بدراسة المنطق بشكل منهجى منظم . والوضع بالنسبة للترجمة أسوأ من وضع النشر، فلم يترجم من تلك النصوص إلا أقل القليل ترجمة كاملة، وإن كانت هناك أجزاء من تلك النصوص قد ترجمت إلى بعض لغات الغرب، إلا أن نصوصا كثيرة لم تقربها يد المترجمين.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم