أقلام فكرية

المنطق الهندى بين التبعية والأصالة (2)

محمود محمد عليفي هذا المقال نود أن نتساءل: هل تأثر المناطقة الهنود فى أبحاثهم بالمنطق الأرسطى أم لا؟

ذهب بعض الباحثين الغربيين إلى القول بأن المناطقة الهنود لم يقدموا، ولم يكن بمقدورهم أن يقدموا، فكراً منطقياً خاصاً بهم، بحيث يمكن تسميته بالمنطق الهندى، ومن ثم فإن كل ما لديهم من مذاهب وآراء وأفكار ونظريات منطقية ليست في حقيقتها إلا أشباها ونظائر مستمدة من المنطق الأرسطي، فلم يأتوا بشئ جديد يذكر، وإنما رددوا وقلدوا أفكار وآراء أرسطو.  وبالتالي فإن كل ما لدى مناطقة الهنود هو تقليد ومحاكاة وشرح للمنطق الأرسطي، بل هو ترجمة سنسكريتية لهذا المنطق لا أكثر . وذهب بعض هؤلاء الباحثين إلى أبعد من ذلك فزعموا أن مناطقة الهند القدماء قد عجزوا عن فهم حقيقة وأفكار أرسطو المنطقية مما أدى إلى تشويه هذه الحقيقة، فضلا عن عجزهم عن إنتاج أي فكر منطقي يدل على أصالة وابتكار .

ومن أوائل الغربيين الذين أطلقوا هذه الدعوى وروجوا لها المفكر الإنجليزي " كوليبروك Celebrooke " فقد ذهب في بحثه عن فلسفة الهندوس " إلى أن الهنود لم يقدموا ولم يقوموا إلا بشرحهم لمنطق  أرسطو"، وراح كوليبروك يتابع ويدعم دعواه فقال:" إن المناطقة الهنود لم يصنعوا شيئا سوى أنهم تلقوا جملة المعارف المنطقية الأرسطية التي كانت سائدة في ذلك الوقت من خلال المدرسة الفارسية (جند سابور) ومدرسة      الإسكندرية " .

ويتابع المفكر الألمانى أ . هـ. ريتر A . H . Ritter مقالات كوليبروك ويدعمها بقوله " لم يكن للمنطق الهندي قبل اتصاله بالمنطق الأرسطي أي قيمة تذكر، فقد كان بدائيا ساذجاً ".

وإلى قريب من هذا ذهب المفكر النمساوى هـ .هـ برايس H . H . Price  حيث قال: " إنه لا ينبغي أن نتوقع أن نجد لدى الهنود تلك العبقرية الخارقة في المنطق، ومن ثم يجب علينا النظر إليهم باعتبارهم شراح وتلاميذ مخلصين للمنطق الأرسطى الذى حافظوا عليه بعضهم وشوهوه البعض الآخر" .

ويذكر المؤرخ المنطقى "أنطون ديمتريو" Anton Dumitriu أن هناك دراسات وبحوث، قد أكدت على أن نشأة المنطق الهندى لم تكن نشأة هندية خالصة، وإنما كانت يونانية إلى حد كبير، ويتضح هذا جلياً لدى العالم الفرنسي " E. Goblet d`Alviella "، وذلك فى كتابه " Ce que l`Inde doit a la Grece ؛ أى – هذا ما تدين له الهند لليونان،وقد طبع هذ الكتاب فى Paris سنة 1926.

ولم يستطع مؤرخ المنطق الهندى Vidyabhusana  أن يتحرر من هذا التملق الفكري للغرب ممثلاً في المنطق الأرسطي، فقد ذهب في مقال له بعنوان " أثر أرسطو في تطور نظرية القياس في المنطق الهندي  "Influence of Aristotle on The Development of The Syllogism in  Indian Logic " وهذا المقال نشره لأول مرة بـ The Journal of Asiatic  society of Great Britain and Ireland، ثم أعاد نشره فى كتابه "تاريخ المنطق الهندى، ملحق B " ؛ وفى هذا المقال يزعم "فيديابهاسونا" أن المنطق الأرسطى الذى أضطلع" أندرونيكوس الرودوسى" بنشره ضمن كتابات أرسطو الأخرى فى القرن الأول الميلادي، قد انتقل إلى مكتبة الإسكندرية عن طريق " كاليماخوس Callimachus " الذي كان أميناً لمكتبة الاسكندرية، ومنها وصلت كتابات أرسطو المنطقية إلى الهند عن طريق "سوريا Syria " و " سوسيانا (فارس) Susiana " و " باكترا Bactria " و " تاكسيلا Taxila " فى  ثلاث فترات:-

الفترة الأولى، وقد امتدت من 175 قبل الميلاد إلى 30 قبل   الميلاد، وذلك حين احتل اليونانيون الأجزاء الشمالية والغربية للهند وجعلوا عاصمتها "ساكالا Sakala "، وهى إحدى مدن البنجاب Punjab، ومن أهم أعمال أرسطو التي وجدت طريقها إلى الهند في تلك المرحلة هو كتاب "الخطابة" Rhetoric الذي ساهم بدور فعال في صياغة  القياس الهندي ذي القضايا الخمس.

الفترة الثانية، وقد امتدت من 39 قبل الميلاد إلى 450 بعد الميلاد، وذلك حين كان  الأساتذة الرومان فى الإسكندرية وسوريا وفارس على اتصال بالهند من خلال الطلاب الهنود الذين جاءوا لطلب العلم والثقافة اليونانية، وقد تمكن هؤلاء الطلاب من نقل معظم كتب المنطق الأرسطى إلى الهند، ومن أهم أعمال أرسطو التي وجدت طريقها إلى الهند ؛ كتاب التحليلات الأولى، وكتاب التحليلات الثانية،وبعض أجزاء من كتاب العبارة، وقد قرأ تلك الكتابات كل من جوتاما اكسباندا وناجورجونا وفاسوباندا وديجناجا وذراماكيرتى.

الفترة الثالثة، وقد امتدت منذ45 ميلادية إلى 600 ميلادية، وفيها انتقلت كل كتابات أرسطو المنطقية إلى الهند عن طريق  المدارس الفارسية السريانية، وبالأخص مدرسة "جند سابور"  Gundeshapour التي تأسست في سنة350م.

ثم يؤكد  " فيديابهاسونا " بعد ذلك الأثر الأرسطى في تطور نظرية القياس في المنطق الهندي،فيقول:" ولكي أثبت أن هناك أثراً أرسطياً على القياس الهندي،فإنني أود أن أشير إلى أن المنطق الهندي قد عالج ثلاثة موضوعات  قبيل القرن الثاني للميلاد:الموضوع الأول،وهو فن المناقشة  أو المناظرة.والموضوع الثاني،هو سبل المعرفة الفعالة، ويسمى Pranava، ويشتمل الموضوع الثانى على الاتجاهات التي تتماشى مع النظام الديني والاجتماعي الهندوسي والبوذي والجينى .والموضوع الثالث، ويدور حول دراسة المبادئ الفلسفية التي كان يتم اقتراحها من وقت لآخر قبيل القرن الثاني للميلاد. والموضوع الرابع والأخير، ويدور حول هو مبدأ القياس .والموضوع الأول والثاني والثالث من إبداع الهنود. أما الموضوع الرابع فقد انبثق خلال القرن الأول للميلاد نتيجة التأثر بنظرية القياس الأرسطية ؛ ولكي أوضح ذلك فإننى سأقوم بتحليل مبدأ القياس فى المنطق الهندى والمنطق الأرسطى جنباً إلى جنب طبقاً للقواعد التى تحكمهما " .

ثم يقدم لنا "فيديابهاسونا"  فى تحليله لمبدأ القياس نماذجاً مختارة من المناطقة الهنود الذين تأثروا بالقياس الأرسطى فى دراساتهم لمبدأ الاستدلال،وذلك على النحو التالى:

1- يرى " فيديابهاسونا" أن دعاة الـ "Caraka Samhita " قد استعاروا كثيراً من المفاهيم المنطقية الأرسطية،وبالذات من كتاب "الخطابة"، ويبدوا ذلك واضحاً فى حديثهم عن البراهين والبراهين المضادة.

يؤكد " فيديابهاسونا " أن "جوتاما أكسباندا " قد ذكر فى كتابه:الـ " نيايا سوترا " قياساً يتكون من خمس قضايا وصيغة هذا القياس تكون على النحو التالى:

أ- الدعوى المثبتة ( " هذ التل يوجد به نار" ).

ب-الأساس العقلي ( " لأنه يوجد به دخان " ).

ج-المثال ( " حيث يوجد دخان توجد نار كما فى المطبخ لا كما فى البحيرة على سبيل" ).

د-التطبيق على الحالة المعطاة (" وهذا التل ينبعث منه دخان كالذى يصاحب النار باستمرار").

هـ- النتيجة ( " إذن هذا التل يوجد به نار" ).

يزعم " فيديابهاسونا " أن هذا القياس هو  قياس مستعار من أرسطو، حيث تناظر القضية الثالثة من هذا القياس المقدمة الكبرى فى القياس الأرسطى، كما تناظر المقدمة الثانية والمقدمة الرابعة، المقدمة الصغرى، وتناظر المقدمة الأولى والمقدمة الخامسة، النتيجة فى القياس .

3-يرى " فيديابهاسونا " أن "ناجورجونا" و "فاسوباندو" و " ديجناجا " قد استعاروا الكثيرمن الأفكار الأرسطية،ويبدو هذا واضحاً فى دراستهم للقياس المنطقي، حيث يؤكد " فيديابهاسونا " أنهم سعوا  إلى اختصار القياس ذى القضايا الخمس إلى قياس ذى ثلاث قضايا، حيث اعتبروا أن وجود ثلاث قضايا فى القياس ضرورياً وكافياً لاستدلال حقيقي، وذلك بعد قراءتهم العميقة للتحليلات الأولى لأرسطو.

يرى "فيديابهاسونا" أن عالم المنطق البوذى "ذراماكيرتى"، قد اعتبر أن وجود قضيتين ضروري فقط فى القياس، حيث أن النتيجة مفهومة ضمناً فى المقدمتين، وأن من الممكن ألا تعبر عنها باللفظ . وعلى سبيل المثال يكفى أن نقول "حيث لا توجد نار لا يوجد دخان، وفى هذا المكان يوجد دخان ". وهكذا ليست هناك أية حاجة للتعبير عن النتيجة نفسها (نتيجة لذلك فى هذا المكان توجد نار ). فالقياس ذو القضيتين عند ذراماكيرتى كما يؤكد فيديابهاسونا هو بعينه ما يسميه أرسطو القياس المضمر (انتوميما) من الدرجة الثالثة .

وقد أثارت أقوال " فيديابهاسونا " ردود فعل واسعة النطاق بين معظم مؤرخى المنطق الهندى ؛ فنجد مثلاً  على سبيل الثال لا الحصر أن  المفكر المنطقى الهندى "بريمل كريشنا ماتيلال" Bimal Krishna Matilal  يرفض بشدة ما ذهب إليه " فيديابهاسونا " فى فكرة الأثر الأرسطى فى تطور نظرية القياس فى المنطق الهندى، وقال أنها فكرة مستحيلة، وأنه لم يحدث قط لا من قريب أو من بعيد أن فيلسوفاً واحداً من فلاسفة المنطق الهندى قد عرف المنطق الأرسطى، كما أن أعمال أرسطو المنطقية لم تترجم على الأطلاق  إلى اللغة الهندية سواء إلى اللغة السنسكريتية Sanskrit أو اللغة البوذية Pali أو اللغة الهندية الحديثة Prakrit فى ذلك الوقت ؛ كما أنه حتى فى النصوص الفلسفية أو الدينية أو الأخلاقية نادراً ما نسمع عن فلسفة أو فيلسوف يونانى ". ويستطرد "ماتيلال" فيقول " إننا لا ننكر أن المناطقة الهنود فى معالجتهم لمبدأ الاستدلال قد توصلوا إلى أفكار تشبه إلى حد قريب ما عالجه أرسطو فى التحليلات الأولى ؛ وهذه الألفة وإن كنت أنظر إليها على أنها ألفة غير مريحة Uncomfortable Affinity ؛ إلا أنها لم تكن وليدة التأثير الأرسطى.

وإلى قريب من هذا الرأى، ذهب المفكر الأنجليزى "أرثر برايدل كيث" Arthur Berriedale Keith، حيث قال: " إن مبدأ الاستدلال فى المنطق الهندى وخاصة فى مراحله الأولى قد نما نمواً أصيلاً بدون أى مؤثرات أرسطية.أما ديحناجا الذى بدأت القاعدة المنطقية للقياس تتضح على يديه فيشتبه أن هناك أصول يونانية لديه، ولكن حتى هذه الأصول لم تتضح بعد " .

ومن ناحية أخرى، يذهب المؤرخ المنطقى الألمانى " بوشنسكى" إلى أن المنطق الهندى قد تطور تطوراً طبيعياً بعيداً عن أى مؤثرات أرسطية، ويتضح هذا من المقارنة التى أجراها بينه وبين  المنطق الأرسطى،حيث يقول:" العلاقة بين أفلاطون وأرسطو في المنطق اليوناني تماثل العلاقة بين الـ"نيايا سوترا" وذراماكيرتى  فى المنطق الهندي، باستثناء أن الـ"نيايا سوترا" ليست فيها فكرة القانون أو الصياغة النظرية التي فتح بها أفلاطون الباب لنشأة المنطق الغربي .وهذه الفكرة هى التى تسببت في سرعة ظهور الصيغة المنطقية في الغرب . لكن في الهند تطور المنطق تطوراً بطيئاً  خلال قرون عديدة تحت عباءة المنهجية . ولكن هذا التطور التدريجي الطبيعي هو الذي يجعل المنطق الهندي مهماً من الناحية التاريخية، ومع قلة معرفتنا بهذا التطور، إلا أننا نستطيع الوقوف على أهم مراحله .ترتيب هذه المراحل ليس واضحاً كل الوضوح،ولكن حدوث هذه المراحل وأحياناً العلاقة الزمنية بينها أمر يكاد يكون مؤكداً".

وانطلاقاً من ذلك يمكننا القول بأن  مبدأ الاستدلال فى المنطق الهندى  قد تطور تطوراً طبيعياً بعيداً عن أى مؤثرات أرسطية أو غير أرسطية، ويتضح هذا من خلال الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: وفيها تم تأسيس قاعدة القياس الصورية على أساس إعطاء الأمثلة، وذلك من خلال النيا يا سوترا.

الخطوة الثانية: وفيها طور  "ديجناجا"  هذه القاعدة إلى قاعدة قياسية صورية أطلق عليها " الترييروبيا Trairupya " ومعناها "عجلة الأسباب Wheel of reason .

الخطوة الثالثة: وفيها طور ذراماكيرتى التمثيل  تطوراً جذرياً من مجرد عرض الأمثلة إلى مقدمة عامة.

الخطوة الرابعة: وفيها تم اختصار قضايا القيا س إلى ثلاث قضايا .كما ظهر التمييز بين استدلال عن طريق الشخص نفسه Inference For One's Self واستدلال عن طريق الآخرين Inference For The Sake of Others .

الخطوة الخامسة: وفيها ظهر مفهوم القانون العام، وقد كان له معنيان:الأول هو " لا يحدث في أي مكان أو سياق آخر " الذى نجده فى المصطلح الجينى Anyathanupapannatva،والثانى هو "الشيوع الذى نجده فى المصطلح البوذىVyapti   .استخدم المصطلحان فى القرن السابع، ولكن كانت هناك مقدمات  لظهورهما لدى " براساستابادا " و" ديجناجا " . ومن فقد وصل المنطق الهندي إلى مستوى المنطق الصوري عندما ظهر فيه مفهوم القانون العام.كما واصل مناطقة النافيا نيايا استخدام الأمثلة،وذلك لمجرد أغراض التوصيل والتواصل .أما الصيغة القياسية فلم تكن تحتاج إلى أمثلة،بعد أن تطورت واتضحت، وأصبحت كلمة "مثال" تشير إلى مجرد علاقة كونية عامة.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم