أقلام فكرية

تجديد الخطاب العقدي في المدرسة الأشعرية (3)

محمود محمد عليفي هذا المقال نحاول أن ننهي حديثنا عن تجديد الخطاب العقدي في المدرسة الأشعرية، وهنا نقول: يعد الجويني أول من فتح الباب علي مصرعيه لتلميذه الغزالي الذي سيستخدم المنطق بشكل واضح في الدراسات الكلامية والفقهية . وهنا يمكن لنا أن ندرك إلي أي مدي ستكون حاجة الغزالي إلي المنطق، وإلي القياس الأرسطي بالذات، إنه سيكون في حجاة إليه لتقرير عقائد الأشعرية ضد المعتزلة الذين ظلوا متمسكين بمنهجهم المفضل " الاستدلال بالشاهد علي الغائب" وسيكون في حاجة إليه أكثر للرد علي التعليمة الباطنية الذين يبطلون الرأي والقياس، ويقولون بضرورة الأخذ من المعلم المعصوم، وسيكون في حاجة إليه أيضا لبيان تهافت الفلاسفة أنفسهم .

هذه الحجة الماسة إلي المنطق ستدفع الغزالي إلي تطويعه داخل الفكر الأشعري، إلي حد القول أنه هو القسطاس المستقيم، الذي عرض به القرآن العقيدة الإسلامية ورد به علي المجادلين الكفار، وأن أشكال القياس الأرسطي، هي نفسها " موازين القرىن "، كما أن الحاجة إلي المنطق ضريوة في علم الكلام لرد الضلالات والبدع وإزالة الشبهات وحراسة عقيدة العوام من تشويش المبتدعة والرد علي الباطنية .

فإعجاب الغزالي بالمنطق، ومحاولة ربطه بالدراسات الكلامية، جعل متأخري الأشاعرة يبدأون بحوثهم الكلامية بعرض المسائل المنطقية والمنهجية، والحديث عن طرائق العلم وأنواع الاستدلالات قبل الخوض في المسائل الكلامية، ومن هؤلاء " فخر الدين الرازي"، الذي استوعب الفلسفة المشائية الإسلامية، ثم كان أول من أدخل هذه الفلسفة في علم الكلام، ونتيجة لما قام به الرازي أصبح علم الكلام فلسفة، ويمكن القول بعبارة أخري أنه جعل تلك الفلسفة كلاما، وهكذا امتزج علم الكلام بالفلسفة .

وإذا كان الرازي قد أدخل الفلسفة في علم الكلام، فإنه علي ضوء الفلسفة المشائية السينوية، قد أعطي اتجاها جديدا لعلم الكلام.

فلقد ابتكر الرازي طريقة جديدة في تصنيف المؤلفات العقائدية، قبل تكوين المذاهب الكلامية الخاصة، حيث إستن في كتابه " المحصل " سنة في تبويب المشاكل الكلامية وتقسيمها، وسار عليها معظم من جاءوا بعده، من أمثال " الآمدي " و " البيضاوي" و" الإيجي"، وهو في الجملة ممتاز في التقسيم والتبويب، فهو إذا عرض لمسألة كلامية أو لمشكلة فلسفية استعرض وجهات النظر المختلفة فيها في تصنيف جامع، مع ربط محكم لكل ما يتصل بالموضوع من موضوعات أخري . وقد يجر الموضوع الكلامي أو الفلسفي إلي أبحاث لغوية أو تفسيرية في عرضه لها دون أن يفلت منه زمام، وهو إذ يناقش وجات النظر التي يعرض لها، يحدد موقفه الذي يعتقد أنه الحق، ويدافع عنه، وإذا كانت للرازي تلك القدرة الفائقة علي العرض والطلب، فإن القارئ الذي ليس له سعة إطلاع في مختلف العلوم قد لا يتمكن أن يلاحقه بفكرة في تقسيماته وتفريعاته وتشقيقاته .

ولذلك يمثل الرازي طفرة ممتازة ومرحلة متميزة في تطور كل من المذهب والمنهج الأشعريين، وعلي ارغم من أته قد خالف الأشعري والغزالي في بعض القواعد والأصول، فإنه تأثر ببعض آرائهم، وبخاصة في منهجه الجدلي؛ حيث يقوم جدله علي تعدد الأدلة مثل، وتسيطر عليه نزعة فلسفية مثل تلك التي توجد لدي الغزالي، وهو يستخدم التعريف والتقسيم كسابقيه ويهتم بالقضايا الشرطية " المتصلة والمنفصلة"، ويعرض الأفكار في أشكالها المختلفة، ويقلب الموضوع علي كافة وجوهه في كل معانيه، وهو يستخدم بكثرة هذا المنهج في واحد من أهم كتبه الجدلية وهو " اساس التقديس".

ويعتبر الرازي آخر ممثل كبير لمدرسة الأشاعرة، ولذين جاءوا بعده يتوخون منهجه ويبدو ذلك واضحا لدي "الآمدي" في كتابه " غاية المرام في علم الكلام"، وأيضاً البيضاوي في كتابه " طوالع الأنوار من مطالع الأنظار ".

وهذان الكتابان يمثلان أعظم دراسة تحاكي صنيع فخر الدين الرازي في كتابه " المباحث المشرقية" وكتابه "المحصل" .

كما نجد هذا الاتجاه أكثر بروزا عند متأخري الأشاعرة، وقد تمثل ذلك لدي " عضد الدين الإيجي (680هـ- 756هـ)" في كتابه " المواقف في علم الكلام "، وهو موسوعة كلامية فلسفية، استطاع من خلالها أن يقحم لموضوعات المنطقية واللغوية والميتافيزيقية في علم الكلام ؛ فقد تمكن الإيجي بقدرته الفائقة من تقديم نسق محكم مترابطة موضوعاته متبعاً المنهج المقارن بين المتكلمين بعضها ببعض، حقيقة لقد تضاءل موضوع العقائد، إذا قورن بما عرض له من موضوعات، مع أن العقائد هما موضوع علم الكلام، ومع ذلك فالقارئ، يستطيع أن يلمس الصلة الوثيقة بين الموضوعات الميتافيزيقية أو المنطقية أو الطبيعية، وبين علم الكلام، إلي حد يمكن معه القول بأن موضوعات أصول الدين، هي محور الموضوعات الأخري .

بل إن البحث في العقائد قد اقتضي منه تخليلاً منطقياُ فلسفياُ لموضوع الوحدة والكثرة ونظريتي: شيئية المعدوم والموجود، قد اقتضيا منه تفصيل القول في العلة والمعلول . وهكذا نجده في بقية المسائل التي عرض لها بالحث .

وهنا يتضح لنا مدي تطور الدراسات المنطقية في العلوم الكلامية عند الإيجي، ولقد قلده المتأخرون بدون أن يضيفوا تطورات في المنهج، وقد تمثل ذلك لدي " سعد الدين التفتازاني (ت: 791هـ - 1389م) صاحب كتاب " المقاصد "، وفي هذا الكتاب قامت الدراسات العقلية في العالم الإسلامي إلي أخريات القرن التاسع الهجري خلطت فيها الفلسفة خلطاً تاماً .

وفي القرن التاسع الهجري، نجد السنوسي (ت: 895هـ-1490م)، الذي يعد أكبر ممثل للأشعرية في شمال أفريقيا بعد المهدي بن تومرت (ت:524هـ) وكتابه " السنوسة" أو " عقيدة التوحيد" من متون ادلراسات الكلامية التقليدية في القرون الأخيرة، يقف السنوسي دائما إلي جانب الأشاعرة، ويرفض الآراء الأخري، يأخذ برأي الأشعري في الغالب، وقد يؤثر عليه رأي الباقلاني أو إمام الحرمين " الجويني" في بعض التفاصيل والجزئيات .

ويلاحظ بوجه عام، أن الأشاعرة المتأخرين يرددون آراء السابقين من أمثال الغزالي، والفخر الرازي، وقل أن يضيفوا جديدا في الدراسات الكلامية والمنطقية.

وحول الطرق التي عالج بها المتكلمون موضوعا المنطق اليوناني فيمكن القول بأنه: إذا كان الإسلام بعد فتحه العظيم للبلدان، قد واجه نحلا ومذاهب كثيرة، فإن تلك النحل والمذاهب كانت قد فلسفت مبادئها عشرات اللاهوتيين والفلاسفة، ولم تكن مجابهتها ومناقشتها أمرا سهلا، إن مجرد حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وتفسيرهما علي ظاهرهما المتلو، لم يكن كافيا لمواجهة المسارب العقلية الصحيحة والملتوية، وإثارتها لمئات من الأسئلة والقضايا الفكرية وكانت الحاجة ماسة إلي عقلية واعية ومنطق جديد يفهم كتاب الله وسنة رسوله، ويغوص في معانيهما ومقاصدهما ومراميهما، ويستخلص منهما ما أثاره أعداء الإسلام من البلبلة الفكرية والشكوك المطروحة والشبهات الكثيرة، ولا سيما أنها بداـ تجد أعوانا وعقولا ومسارب في حياة المسلمين .

كانت هذه هي الحاجة الفعلية التي دفعت معظم متكلمي وفقهاء الأشاعرة من أمثال " ابي الحسن الأشعري" و" الباقلاني" و" الجويني" و" الغزالي" و" الرازي" و"المدي" وغيرهم من أعلام المتكلمين، كي يواجهوا هذا الخطر الداهم بعد الجهد الذي بذله رجال المعتزلة الأوائل .

لذلك كله، استطاع علماء الكلام، وخاصة المتأخرون منهم، أن يرتبوا عقائدهم الدينية علي أصول عقلية، وأن يوجدوا لأنفسهم كلاما منطقيا مدققا، وأ، يتقنوا المجادلة والمناظرة، حيث وجدوا أنهم لن يتمكنوا من مجاراة مخالفيهم من المسلمين وغير المسلمين، ولن تتهيأ لهم الغلبة عليهم إلآ أن يهدموا مثلهم إلي دراسة الفلسفة والمنطق، ويستعينوا بها في دعم حججهم وتوقيه آرائهم، فالأدلة النقلية بظاهر نصوصها الدينية وحدها، قد تكون أحيانا غير كافية لإقحام الخصوم وإلزامهم الحجة، وما لم تضع هذه الأدلة صياغة عقلية، فإنها تظل تفتقر إلي البراهين العقلية التي تسنندها وتظهر صحة القضايا التي وضعت البراهين لإثباتها .

وهكذا أقبل علماء الكلام علي دراسة الفلسفة والمنطق، كيما يتأتي لهم أن يحاربوا خصوم الدين الإسلامي بنفس سلاحهم، ويخاطبوهم باللغة التي اعتادوا عليها وألفوها.

ولعل هذه الحاجة الماسة إلي المنطق، هي التي دفعت الغزالي إلي ربط المنق بالدراسات الكلامية، ومن مظاهر ربطه المنطق بالدراسات الكلامية كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد"، والفكرة الرئيسية التي يدور حولها هذا الكتاب، هي وجوب استخدامنا لعقولنا عند فهمنا لنصوص الشرع، وذلك بأن نلتمس بين الطرفين ( أعني المنطق والفقه) طريقا تصان فيه أحكام الدين وأحكام العقل معاً، فلا يصح، من جهة أمن نجمد النصوص جمودا يجعلنا في تناقض مع منطق العقل .

كما لا يصح من جهة أخري أن نذهب مع منطق العقل إلي حد خروجنا علي النصوص الدينية، ولقد ختم الغزالي كتابه بفقرة تلخص موقفه هذا إذ قال في تلك الفقرة الخاتمة لكتابه:" ولنختم الكتاب بهذا، فقد أظهرنا الاقتصاد في الاعتقاد، وحذفنا الحشو والفضول المستغني عنه، الخارج عن أمهات العقائد وقواعدها، واقتصرنا من أدلة ما أوردناه، علي الجلي الواضح الذي لا تقتصر أكثر الأفهام عند دركه .

وكان من أهم العبارات دلالة ومن أقواها توضيحا لموقفه، هي كذلك من أهداها لنا نحن في عصرنا هذا، الذي أخذنا نتخبط فيه بين غلو المتطرفين وإسرافهم في تضييق الخناق علي أنفسهم وعلي الناس جميعا، هذه العبارات:" فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن، مثاله مثل المتعرض لنور الشمس، مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور علي نور " .

وهكذا أخذ الغزالي في كتابه هذا، يعاود العقل مرة بعد مرة في وجوب التوفيق بين نصوص الشرع من جهة، وبين مقتضيات العقل أو المنطق من جهة أخري، وإذا كان الغزالي قد ربط المنطق بالدراسات الكلامية، فإن هذا المنطق لم يكن إلا المنطق الصوري القائم علي القياس لا المنطق المادي القائم علي الاستقراء ؛ فقد تحدث الغزالي عن نقاط الضعف في الاستقراء مبينا عدم صلاحيته في المباحث العقلية، فبدأ بتعريفه بأنه " تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها علي أمر يشتمل تلك الجزئيات "، ثم نسبته لجزئيات أخري لم تكن في نطاق البحث مما يجعل نتيجته ظنية ؛ وذلك لأنه لا يصلح في المباحث الإلهية، نظراً لاختلاف طبيعة كل من الغائب والشاهد، وقد عبر عن هذا المعني بوضوح تلميذ الغزالي وهو الآمدي، إذ يقول:" فلا يخفي أن ما حكم به علي أحد المختلفين غير لازم أن يحكم به علي الآخر، لجواز أن يكون من خصائص ما حكم به عليه، دون الأخذ وذلك كما إذا كمنا علي الإنسان بأنه ضاحك مثلا أخذ من استقراء جزئيات نوع الإنسان، فإنه لا يلزم مثله في الفرس لمخالف له في حقيقته" .

غير أن مثل هذا الاستقراء غير ممكن في مجال الإلهيات، إذ كيف يتناول البحث والنظر هذا (الغائب) المتعالي علي وسائل الإدراك العادية؟ وحين يقدر لنا إدراك حقيقته فما أغنانا عندئذ عن تتبع أي جزئيات أخري في الواقع (الشاهد)؛ أي أن الآمدي يريد أن يقول أن هذا المنهج فيما يتصل بالمباحث الإلهية غير ممكن وغير مفد أيضاً، وحتي ولو كان ممكنا ( ولو قدر أن ذلك غير محال، فالاستقراء إما أن يتناول الغائب أو ليس، فإن تناوله فهو محل النزاع ولا حاجة إلي استقراء غيره وإن لم يتناوله، بل وقع لغيره من الجزئيات فهو لا محالة – استقراء ناقص، وليس بصادق كما بيناه، وهذا لا محيص عنه " .

وقد كرر الآمدي هذه الوجوه من النقد في مواضع عديدة من كتابه " غاية المرام في علم الكلام ".

وبعد هذا النقد الدقيق للاستقراء، يتوجه الغزالي إلي المنطق الصوري القائم علي التصورات والتصديقات، أعني المنطق الذي يكون مستقلا عن كل مضمون للمتكلم والفقيه والمحدث والمناظر في الآراء والديانات والأهواء والمقالات، لأن مهمته الوقوف علي كافة الحقائق وتمييزها من الأباطيل .

ومن أجل ذلك اتجه معظم مكلمي وفقها الأشاعرة، بعد الغزالي إلي إدخال بعض التعديلات علي موضوع المنطق، وحذف بعض كتب " الاورجانون العربي"، حتي يصلوا إلي المعني الصوري الخالص، حيث تكون عنايته متجهة نحو دراسة صور الفكر.

وقد عبر ابن خلدون عن هذا الأمر بوضوح في الذي عقده عن المنطق في مقدمته، حيث قال:" .. ثم جاء المتأخرون، فغيروا اصطلاح المنطق وألحقوا النظر في الكليات الخمس ثمرته، وهي الكلام في الحدود والرسوم نقلوها من كتاب البرهان، وحذفوا كتاب العبارة الكلام في العكس، لأنه من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه، ثم تكلموا في القياس، من حيث إنتاج المطالب علي العموم لا بحسب مادته، وحذفوا النظر فيه بحسب مادته، وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشعر والسفسطة، وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما، وأغفلوها كأن لم تكن، وهي المهم المعتمد في الفن، ثم تكلموا فيما وصفوه من ذلك كلاما مستبصرا ونظروا فيه، من حيث أنه فن برأسه، لا من حيث أنه آله للعلوم فطال الكلام فيه واتسع، وأول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب (الرازي)، ومن بعده أفضل الدين الخونجي وعلي كتابه معتمد المشارقة لهذا العهد، وله في هذه الصناعة كتاب " كشف الأسرار "، وهو طويل، واختصر فيه مختصر " الموجز"، وهو حسن في التعليم، ثم مختصر " الجمل " في قدر أربعة أوراق، وأخذ بمجامع الفن وأصوله، فتداوله المتكلمون لهذا العهد، فانتفعوا به، وهجرت كتب المتقدمين، كأن لم تكن، وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته " .

من هذا النص نستطيع أن نتبين موقف المتأخرين، فبينما أخذ الفلاسفة المشاؤون المسلمون (أعني الفارابي وابن سينا) المنطق علي أنه صوري ومادي معاً، نقول بينما كان موقف الفلاسفة المشائيين " المتقدمين " هو هذا، وهو أمر يمكن استنباطه من هذا النص، كان موقف المتأخرين مناقضاً لذلك، فقدوا أخذوا يدخلون بعض التعديلات علي موضوع المنطق، ويحذفون بعض محتويات الاورجانون، حتي يصلوا بالمنطق إلي المعني الصوري الخالص ؛ حيث تكون عنايته متجهة نحو دراسة صور الفكر.

ولهذا السبب غير المتأخرون اصطلاح، عما كان عليه عند المتقدمين وحذفوا الكتب التي كانت تتحدث عن المنطق بحسب مادته ولم يبقوا إلا علي تلك الكتب التي تؤدي إلي إنتاج المطالب علي العموم .

وهكذا اصطبغت الدراسات المنطقية بالصبغة الصورية الخالصة علي يد المتأخرون، وهو أمر كان له أثره علي طبيعة الدراسات المنطقية في الإسلام، إذ بدأ واضحاً لدي المتأخرين تحرير الدراسات المنطقية من الفلسفة، فالمنطق ليس جزء من الفلسفة، بل آلة للبحث العقلي بوجه عام، وهو آداة تعليمية ضرورية لجميع النظم المعقولة .

ونجد في مقدمة ابن خلدون وصفا لعملية الاستئناس الديني للمنطق ذكره نيقولا ريشر حيث قال:" إن علماء الكلام الحاليين منذ الغزالي، قد اعتبروا أفكار المناطقة عن التوافق العقلي أفكارا صحيحة، ولذلك قرروا أن المنطق لا يتعارض مع العقائد الإيمانية، حتي رغم أنه يتعارض مع بعض الحجج القائمة عليها، والواقع أنهم قد وصلوا إلي أن مقدمات علماء الكلام التأمليين كانت خاطئة لأن حجج علماء الكلام الـمليين علي القواعد الإيمانية استعاضت عما ثبت صحته من الحجج الأخرى بالتأمل، أو بالتفكير التمثيلي (أي القياس)، وأقروا بأن هذا لا يتعارض مع أي وجه مع القواعد الإيمانية السلفية، وهذا ما قال به فخر الدين الرازي ومن قبله الغزالي، ومن تابعهم من معارضتهم .

ولقد قيل أن الفلسفة ليست وحدها التي هي بحاجة إلي المنطق، بل تحتاجه الرياضيات ويحتاجه الطب، بل يحتاجه حتي القانون وعلم الكلام ذاته، وكان هذا الأمر واحدا من الموضوعات لكتاب "ابن رشد (ت: 595هـ)"، وهو " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال "، ولقد أصح الرأي القائل بأن المنطق هو أداة يمكن تطبيقها بصورة شاملة لتمييز طرق التفكير الصحيحة من الطرق المغالطة، رأيا شائعا علي نطاق واسع، ومعترفا به من ثقاة الكتاب والباحثين والمؤرخين، من أمثال " ابن خلدون"، ولكن مما لا نزاع فيه أن أهم عامل منفرد أدي إلي الاعتراف بأهمية المنطق، وقبوله من الناحية الدينية، كان تدعيم الغزالي لهذا الرأي، فقد أكد أن المنطق هو آلة الفكرة، فهو لا ينطوي علي أي محتوي مذهبي من أي نوع، وبالأولي فليس فيه خطر علي الدين، فهو في الواقع الآداة التي يمكن وضعها لخدمة الأغراض الدينية، فلا وسيلة هناك للوصول لعلم إلا بالمنطق، فالمنطق ليس مقبولا من الناحية الدينية فحسب، بل هو في الواقع أمر جوهري .

إن فصل المنطق عن الفلسفة جعل منه علما آليا ؛ بمعني أنه ليس من علم القاصد، بل من علوم الوسائل التي لا ينبغي التوسع في دراستها علي حد تعبير ابن خلدون .

فقد ميز ابن خلدون بين صنفين من العلوم "علوم مقاصد"، وهي مقصورة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة، وعلوم آلية وكون وسيلة لعلوم المقاصد، كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة، وربما كان آلة لعلم الكلام، ولأصول الفقه علي " طريقة المتأخرين".

ويري ابن خلدون:" بأنه لا حرج من التوسع والتفريع في علوم المقاصد، أما العلوم الآلية، فلا ينبغي أن ينظر فيها، إلا من حيث هس آلة، لأن المتكلمين اهتمامهم بعلوم المقاصد أكثر من اهتمامهم بوسائلها، فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل، فمتي يظفرون بالمقاصد ".

والان، قد نستطيع بنظرة شاملة في طريقة الأشاعرة في المنطق أن نقول بأنه مما لاشك فيه أن متأخري الأشاعرة، وبخاصة الغزالي، قد اهتم اهتماما كبيرا بالدراسات المنطقية، ولكن يبدوا أنه منذ نهايات القرن السادس الهجري، بدأ الحماس للتأليف والشروح يفتر شيئاً فشيئاً، وبدأ الاهتمام بالدراسات المنطقية الجادة، يفقد الكثير من الأنصار والمدافعين، ويبدو أن الذين كان عليهم الاهتمام بالمنطق في ذلك الوقت، وكانوا كثيرين، قد وجدوا أمامهم تراثا ضخما، من الترجمات والشروح تكفل به الأجداد، فما كان منهم , إلا أن راحوا يلخصونه، ويكتبون مادته المنطقية بغية حفظها، وبذلك افتقدنا الدراسات الجادة التي كنا نراها عند الغزالي .

ولا ينبغي إغفال الدور الهام الذي قام به الفخر الرازي في القرن السادس الهجري، حيث حاول أن يعيد إلي الأذهان أمجاد مدرسة الغزالي المنطقية، إلا أن الحال لم يستمر بعده، ولم تجد الدراسات من يواصل هذا الاتجاه في شكل متطور.

ويجدر بنا أن نشير إلي الطرق التي انتهجتها مدرسة الأشاعرة، لتناول موضوعات، فعلي سبيل المثال استعمل الغزالي في تفصيله للمعاني وشرحه لألفاظ المنطق " المنهج التحليلي " الذي يرتكز علي ما أسماه المناطقة المسلمين " مباحث الاستدلال"، وهي تقوم علي أسس تحليلية طبقها الغزالي لتقصي معالم المنطق الارسطي وأبعاده . ولقد درج شراح أرسطو علي هذا المنهج، وبخاصة الفلاسفة المسلمون، أمثال الفارابي وابن سينا عندما تناولوا المنطق الصوري وفسروه .

وها نحن نذكرها هنا لنبين كيف تناول علماء الكلام هذا المنهج، وذلك فيما يلي:

- السبر والتقسيم: اتبع مفكروا علماء الكلام، هذا المسلك في عرضهم وشرحهم لمختلف قضايا الفلسفة والكلام والشرع، فقد استعمله في كتابه " البرهان في أصول الفقه"، بقوله:ط وهو أن يبحث الناظر عن معاني مجتمعه في الأصل ويتتبعها واحدا واحدا، ويبين خروج آحادها عن صلاح التعليل، إلا واحدا يراه ويرضاه" .

ولقد ساير الغزالي أستاذه الجويني في هذا المسلك، فقد تكلم عنه في معيار العلم: ثم في كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد "، عندما عرض لمناهج الأدلة بقوله معرفاً هذا المسلك:" هو أن يحضر الأمر في قسمين، ثم يبطل أحدهما، فيلزم منه ثبوت الثاني ".

وهذا ما فعله أيضا الفخر الرازي، كلما كانت تطرح أمامه مشكلة فيحللها من جميع جوانبها متتبعا دقائق معانيها، إلأي أن يخرج برأي ينتقيه أفضل برهان يفند رأي المتكلمين، أن يثبته، ثم يصل في النهاية إلي الاستنتاج، وبهذا تنحل الحيرة فيكون قد طرح الحل النهائي بعد سبر جميع الحلول وتقسيمها .

- المقابلة والحذف: ويستعملها كبار علماء الكلام أيضاً في عرضهم لمنهجية تلخيص المنطق اليوناني، حيث نراهم يقابلون بين رأي " الفارابي وابن سينا "، فيحذفون منها البرهان الأضعف، ليحتفظوا بالأجدر والأفضل، ويظهر ذلك واضحا، حين يعرض الفخر الرازي لقيمة علم المنطق، حيث يعرض لرأي" الفارابي "، ثم رأي " ابن سينا"، ثم يحللهما ويقابل بينهما، وأخيرا يختار الرأي الذي يراه صحيحا، يقول " كان الشيخ " أبو نصر الفارابي " يسميه رئيس العلوم، وكان الشيخ " أبو علي ( يعني ابن سينا) ينكر هذا الرئاسة . ويقول: إنه كالخادم للعلوم، والآلة في تحصيلها . وهذا البحث أيضا لفظي . فإن الرئيس إن كان هو الذي يينفذ حكمه علي غيره، ولا ينفذ حكم غيره عليه .فالمنطق رئيس العلوم بأسرها لأن حكم المنطق ناقد في كل العلوم، وشئ من العلوم لا يجري حكمه فيه وأن كان شرط كونه رئيسا أن يكون مقصودا لذاته، فالمنطق ليس كذلك .

وهناك وجه آخر لهذه الطريقة هي " طريقة القابلة " بين الآراء والنقاش الذي جري حول مسائل المنطق الأرسطي، فنجد " الفخر الرازي" في كتاباته المنطقية يقيم حوارا غير مباشر يمر عبره بين أرسطو وشراحه المسلمين أو بينه وبين هؤلاء الشراح، مستندا إلي ما كتبوه حول منطق أرسطو، ويبدو ذلك واضحا حين يناقش ويحاور المناطقة في قضية تعريف اللفظ والمركب حيث يقول:" اعلم أن الحكيم " ارسطاطليس " قال:" اللفظ المفرد هو الذي لا يدلنا جزء منه علي شئ أصلاً . فأوردوا عليه سؤالاً . وقالوا: هذا يشكل بقولنا " عبد الله " فإنه لفظ مفرد، مع أن له جزئين، وكل واحد منهما دال علي معني . وأجاب المناصرون لقوله عن هذا السؤال بجواب حق . فقالوا إن قولنا " عبد الله " قد يذكر ويراد به جعله اسم علم .وقد يذكر ويراد به جعله نعتا وصفه . فإن أردنا به الأول، فهو لفظ مفرد، ولكن لا يبقي لشئ من أجزائه دلالة أصلا . لأن العلم هو اللفظ الذي جعل قائماً مقام الإشارة إلي ذلك الشخص المعين، من حيث أنه ذلك المعين، ولهذا قال النحويون "أسماء الأعلام" لا تفيد فائدة في المسميات البتة، بل هي قائمة مقام الإشارات، وإذا كان كذلك، فقد ظهر أن " عبد الله " إذا جعل اسم علم، فإنه لا يكون لشئ من أجزائه دلالة علي شئ أصلاً أما إذا أردنا أن نجعل قولنا " عبد الله" نعتا وصفه . فهو بهذا الاعتبار مركب لا مفرد . وهذا جواب عن السؤال المذكور:

ومن الناس من ترك تعريف اللفظ المفرد بذلك الوجه، بل هذا: هو الذي لا يدل جزء من أجزائه، علي جزء من أجزاء معناه . وهذا القائل إنما اختار هذا الوجه فرارا من ذلك السؤال . فإن قولنا " عبد الله " إن كل واحد من جزئه علي شئ، لكنه لم يدل شئ من أجزاء هذه الكلمة علي شئ من أجزاء هذا المعني . لأن هذا اللفظ إذا جعل اسم علم، كان مسماه هو ذلك الشخص ولا يمكن أن يقال: إن قولنا " عبد" يدل علي بعض أجزاء ذلك الشخص . وقولنا " الله" يدل علي نعته الآخر . فثبت أن قولنا " عبد الله" لا يفيد شئ من أجزائه شيئا من أجزاء معناه . وأعلم أن اختيار الشيخ الرئيس ( يعني ابن سينا) في "الشفاء " و" الاشارات" هو الوجه الأول، واختياره في هذا الكتاب هو هذا الثاني . ولا منافاه بين القولين، لأن لكل أحد أن يفسر لفظه بما شاء .

مما سبق يتضح لنا الكيفية التي عالج بها الأشاعرة موضوعات المنطق اليوناني، وقد تأثروا فيها بفلاسفة المسلمين، وبخاصة ابن سينا .

 

د. محمود محمد علي

قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم