أقلام فكرية

حسين علاوي: كانْت وتأويل الدين

حسين علاوي

منذ الإغريق والجدل حول الدين وتأويله يتقاسمه عدد كبير من الفلاسفة بين رافض يصفه بالأساطير.. ومتأمل يعتبره حاجة روحية لا يستغني عنها الإنسان.. ولا شك أن الدين نشاط بشري قدّم مساهمات كبيرة للحضارة الإنسانية.. ومشروع حقق وظيفة اجتماعية وثقافية لا غنى عنها.. وكما يقول راندال: (إن للبعد الديني خاصية تبرز في اختيار البشر للعالم، وفي روعة النظرة التي ترى وراء الواقع مملكة الخيال الكاملة والأبدية).. لكنه يعتقد أن كلمة الدين استُعملت كرديف لتحل مكان كلمة (إله) في سياقات وحواريات تتعلق بالإله ووجوده وصفاته وغاياته وأفعاله.. كما تعنى بالدين وطبيعته ووظيفته وأشكاله وقيمه العملية.. (أنظر: فلسفة الدين، جون هيك، 139).

بل إن بعض الأديان السماوية جعلت من الله تعالى بشَراً يتحاور ويجلس في خيمة بالقرب منهم، ويواكب أوضاعهم بتفاصيلها دون الآخرين من بني البشر..

ورغم أن كانت ينكر أو يقلل من الأديان السماوية.. إلّا أنه سعى إلى إقامة دين إلهي حقيقي، لا يستند إلى أفكار رجال الدين التقليدية.. ولا إلى التواريخ المعهودة للأديان.. وإنما يعتمد على النوازع الخلقية السامية الكامنة في أعماق الإنسان، والتي ترفعه إنْ التزمها إلى مصاف الملائكة..

حاولَ كانْت أول الأمر إقامة أسس منطقية معقولة تثبت وجود الله بصورة لا تقبل الشك.. ولمّا رأى أن الأسس التي كان سابقوه من الفلاسفة الميتافيزيقيين تتهاوى عند نقده لها، صمّم على ترك المجال الميتافيزيقي المحض (أي الخالص)، الذي هو بطبيعته خارج نطاق العقل البشري، وحاول إقامته على قوانين عقلية حقيقية مستمَدة من الأخلاق.. حيث أكد على استحالة البرهان الأنطولوجي (الميتافيزيقي المحض) على وجود الله.. معتبراً أن فكرة وجود الله هي كمال لا يمكن بلوغه.. كما رفض جميع البراهين التي كان الفلاسفة قد تواضعوا عليها، كالبراهين التأملية، والغائية، والاستشراقية.. وقد انتهى إلى أن الكائن الأسمى يبقى في التأمل المحض للعقل، مثالاً أعلى فقط؛ لاستحالة ارتكازه على منطق العقل النظري.. (أنظر: نقد العقل الخالص، 679-701).

إلّا أنه يعتبر أنّ ديناً يُعلن الحرب على العقل من دون تفكر في العواقب، سوف لن يتمكن مع طول المدة من الصمود أمامه.. ويقترح علينا أن نفتح العقل على الدين، والدين على العقل.. بحيث نستطيع أن نعتبر أحدهما دائرة أوسع للإيمان، ينطوي في ذاته على الآخر بوصفه دائرة أضيق من الأولى، يدور كل من العقل والدين حول مركز واحد.. وعلى الفيلسوف أن يكشف النقاب عنه.. (الدين في حدود مجرد العقل، 14)..

ويرفض أن يكون دين لشعب دون آخر.. بل يعتبر أنه دين الطبيعة البشرية.. أو الدين الذي يليق ليس فقط بالجنس البشري، بل بالكائنات عامة.. والمشكلة عنده كيف تخرج الإنسانية من دين الشعائر إلى دين العقل.. ومن دين تاريخي خاص بشعب دون آخر.. إلى دين عقلي كوني لكل الشعوب.. (أنظر: المصدر نفسه، 15).

وقد حاول كانت تفسير الأحداث الدينية التاريخية عل نحو رمزي جديد.. فيفسر الخطيئة الأصلية (سقطة آدم) على أنها تعبير عن التعارض الأصلي القائم بين الإرادة والحساسية، أو بين مملكة الحرية ومملكة الطبيعة.. ويفسر فكرة (المسيح) أو (ابن الله) على أنها مجرد تعبير عن المثل الأخلاقي الباطن فينا.. وحين يتحدث عن المعابد، فيعتبرها مجتمعات مثالية.. ويُدين تفرق الناس شيعاً وأحزاباً في مثل هذا المجتمع المثالي الذي يقوم على ثبات القانون الأخلاقي، ما دام الإله الوحيد الذي يخضع له أفراد هذا المجتمع إنما هو ذلك الأب اللامرئي الذي يدينون له بالطاعة باعتباره المثل الأعلى للأخلاق.. فإنَّ الإيمان العقلي سيكون حتماً هو الرابطة الوحيدة التي توحد شملهم.. ويُدين كانت المسيحيين على نسيانهم للرسالة التي جاء المسيح من أجلها، وهي تحقيق ملكوت السموات على الأرض.. فيقول: (فها إننا نرى ملكوت الكاهن، قد أقيم بيننا بدلاً من ملكوت الله).. زِد على ذلك المذهب والقومية والجماعة قد حلّتْ محل الحياة الصالحة.. وبدلاً من أن يكون الناس مرتبطين برباط الدين، نراهم اليوم منقسمين إلى ألف مِلة ونِحلة.. ولم يصدّق كانت بالمعجزات معتبراً إياها غير قادرة على البرهنة على الدين.. وإننا ليس بمقدورنا أن نعتمد على الشهادة التي تدعمها.. وتوقف العمل بالقوانين الطبيعية.. (أنظر: كانت والفلسفة النقدية، د. زكريا إبراهيم، 240).

وقد اعتبر الكثير من الفلاسفة أنَّ كانت أخرجَ الدين من فضاء الملّة إلى أفق المواطَنة الكونية.. فبعد أن كان الدين مِلَل ونِحَل، أو دين عباد فقط، إلى دين عقل محض، أي دين الحرية.. وهو معنى الحداثة الدينية التي تنقلنا من دين الاستبداد الروحاني القائم على الأوهام الدينية من جنس الحماسة والخرافة والإشراق والخوارق.. إلى دين الجماعة الكونية القائم على العقل الأخلاقي المحض، وعلى حسن تدبير للحرية الأصلية في الإنسان نفسه.. (أنظر: كانط راهناً، د. أم الزين بنشيخة المسكيني، 547).

فكانت يستعمل الدين هنا استعمالاً تنويرياً جذرياً، أو يذهب بالتنوير في مجال الدين إلى مداه الأقصى حتى وإنْ اقتضى به الأمر إلى التضحية بالديانات التاريخية بوصفها خارجة عن حدود العقل.. يقول كانت: (إنَّ ديناً يُعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه)..

فكانت استخدم العقل ضد الخرافة.. والنقد ضد الحماسة.. والحرية ضد استبداد رجال الدين المتعصبين.. وهذا شعار الحداثة الدينية التي بدأها اسبينوزا قبل كانت.. إلّا أنَّ ما يفرق بينهم أنَّ اسبينوزا يقبل الأناجيل بوصفها موضوع علم وتفسير، آملاً أن يجد فيها براهين ضد المؤمنين بها، من أجل تحريرهم من الخرافة.. فإن كانت فيستغل احترام العوام للكتب المقدسة من أجل توجيهها وجهة أخلاقية محضة، والارتقاء بها إلى مستوى الواجب الأخلاقي، حيث لا حاجة للإنسان إلى أي عون خارج عن قدراته الأصلية فيه وحريته التي له في تدبير مصيره بنفسه.. (المصدر نفسه، 57).

ويعتبر كانت في افتتاحية كتابه "الدين في حدود مجرد العقل" أنَّ الشر محركاً للدين ودافعاً للتفكير فيه في آنٍ.. ويقول: (لو كان ما في طبع البشر خير خالص لَما احتاج الإنسان إلى واجب يُلزمه، ولا إلى سيّد يحكمه، ولا إلى أي دين يخضعه).. وهو ما أحرج تأويلية ريكور وتفكيكية دريدا على حد سواء.. فإذا كان ريكور يقول بأنَّ الدين علاج للشر الجذري.. فإنَّ دريدا يذهب إلى أنَّ تاريخ الشر وتاريخ الدين وتاريخ العقل أمر واحد.. ويدعو إلى تفكيكه، وذلك للفرز بين الفكري والإنساني.. ويقصد به الإرهاب والقتل على الهوية الدينية، والذي كان منذ نشأة الأديان وما زال.. وسقوط الضحايا الأبرياء..

ورغم أنَّ كانت يشك في صلاحية الأدلة الفلسفية على وجود الله.. إلّا أنه لا ينكر وجود الله ذاته.. فهو ينقد طرق الإثبات.. ويعتبر أنَّ الوازع الأخلاقي في النفس الإنسانية مسلّمة على وجود الله.. وإنَّ الكون بما فيه من تقدير وتدبير وهداية، يدل على وجود صانع له.. وإنَّ وجود الله يُعد موضوعاً من الموضوعات التي يفرضها العقل العملي.. وإنْ تعذر الوصول إلى فكرة واضحة عن الله.. لأنَّ الله منزّه عن عالم الظواهر.. وإنَّ معرفتنا محدودة قاصرة لا يمكن أن تتجاوز هذا العالم الظاهر..

 

حسين علاوي

 

 

في المثقف اليوم