أقلام حرة

سياسة النفاق من ميكافيلي الى ترامب

حاتم حميد محسناحدى المفارقات المحيّرة في اللحظة السياسية الحالية هي التأييد الحماسي الذي يتلقاه الناس السيئين من الناس الطيبين. لا أحد لديه فكرة طيبة عن دولاند ترامب كرجل طيب الاّ ترامب نفسه. شخصيته تتكون بشكل كبير من أربعة آثام من مجموع الآثام السبعة في الفكر المسيحي وهي: الجشع والغضب والفخر والنزوة المفرطة. مع ذلك، العديد من المسيحيين المحافظين في امريكا يعتبرون انفسهم موالين مخلصين لترامب. هم ربما لايتركونه وحيدا مع بناته لكنهم لا يمانعون في وضع البلد كله بين يديه.

ما يحدث هنا هو نوع من النفاق، أي ان الصفات التي نعجب بها ونبحث عنها لدى اصدقائنا وزملائنا ربما هي غير هامة وقد تعطي نتائج عكسية لدى قادتنا السياسيين.

ان تاريخ الفلسفة فيه القليل من التأييد لهذه الرؤية. بدءاً من افلاطون الذي اعتقد ان الدولة يجب ان يحكمها الفلاسفة. وفي اوربا وما ورائها كان من الشائع الإصرار على ان الحاكم التام هو الحاكم الفاضل . هذه الرسالة تكررت عبر القرون في مختلف الثقافات بما سمي – "نصائح للامراء" وهي مجموعة نصائح للحكام صاغها العديد من المؤلفين مثل نظام الملك السلجوقي، و المسيحي البيزنطي اغابتوس، وفيلسوف روما تلميذ توما الاكويني، و الشاعر المسيحي دي بيزان في القرون الوسطى الذي كتب تفسير للامير المسيحي الفاضل. هذه النصوص توضح في الاساس كيف يمكن ان يستفيد الامير شخصيا، ويرى دولته وشعبه يزدهران لو اتّبع مرشدا اخلاقيا صارما، يجسد العدالة والسخاء والرحمة.

مع ذلك، المساهمات الأكثر شهرة في هذا النوع من الادب هو كتاب الامير لنيكولا ميكافيلي (1532)، الذي خرق التقاليد الاخلاقية. بالنسبة لميكافيلي الحاكم الجيد يجب ان يتصرف كالشخص السيء، واحدى ادّعاءات ميكافيلي الاساسية هي ان سمات الشخصية الجيدة تقليديا يمكن ان تكون في الحقيقة ذات نتائج سيئة للقادة السياسيين. الامير يجب "ان يتعلم كيف ان لايكون خيّرا"، وان يستعمل الخداع بكفاءة ويكون قاسيا وذو مصلحة ذاتية لكي يحافظ على سلطته. يقول ميكافيلي انه من الأحسن للحاكم ان يكون محبوبا ومخيفا، ولكن اذا توجّب عليه الاختيار فمن الاحسن اختيار الرهبة على الحب.هو يعرض امثلة تاريخية ليبيّن كيف ان السخاء والعطف المفرط يقودان الحاكم الى الندم، وكيف يمكن ان تكون البربرية المنتقاة مفيدة. كان هناك ، مثالا عن الامير غير النزيه الذي عيّن وزيراً لفرض سياسات قمعية، وحالما ترك هذا العمل التأثير المقصود لدى الناس، جرى قطع الوزير الى نصفين ووُضع امام الجمهور لإثارة الهلع والاستياء العام.

وعندما يأتي ميكافيلي للسلوك الخاص، هو يبتعد عن المؤلفين الكلاسيكيين مثل سيشرون الذي اصرّ على ان الحكام يجب ان لاينغمسوا في خطايا الجسد. تلك لم تكن مشكلة لدى ميكافيلي طالما لايؤثر ذلك على الطموحات السياسية للامير.

ميكافيلي يبدو كأنه يحلل نجاح ترامب السياسي قبل خمسة قرون، عندما يكتب بان "منْ يخدع سوف يجد دائما اولئك الذين يسمحون لأنفسهم ليكونوا ضحية للخداع"، او ينصح الامير ليتصرف بسرعة وبشكل غير متوقع لكي "يُبقي أذهان الناس مشوشة و مندهشة ومنشغلة في مشاهدة النتيجة".

وحول نفس الاسلوب ، يمكن للمرء تصوّر ترامب ذاته حين يقول ان "من الافضل ان تكون متهورا بدلا من ان تكون حذراً .

لكن من جهة اخرى، ميكافيلي سيكون اقل اهتماما بالرئيس الحالي للولايات المتحدة. سلوكه ربما نسميه "ميكافيليا"لكن ما نفهمه من العبارة كما يبدو تبسيط لتعاليم ميكافيلي. ميكافيلي لم يهمل فكرة "الفضيلة" وانما يفهمها ليس كاتّباع للاخلاق التقليدية وانما كمقدرة على الاستجابه لمد الخير والشر لكي يمكن تحقيق المجد، طالما هو أعتقد ان الهدف من القيادة السياسية الفعالة هو الفوز بالمجد للقائد وللدولة. الامير الكفوء يرى "الشر الضروري"هو فقط لأنه ضروري ولا يمكن ابدا اختياره اعتباطيا، او العمل لأجله. الامير مجبر على القيام بالاشياء السيئة لأنه محاط بالناس السيئين الذين هم مستعدون للقفز على اي ضعف او تنازل. الافعال الشريرة تُنفذ جيدا عندما تتم بسرعة وبكفاءة، تتبعها عودة الامير الى السلوك الاخلاقي بأسرع ما يمكن. احد الاسباب لهذا هو ان الامير يجب ان لا يكتسب ابدا سمعة الفجور والتي هي في تناقض حاد مع هدف تحقيق الشهرة والمجد. هو يجب ان يتصرف بعظمة وجاذبية وروح وشجاعة. يجب ان لا يحيط نفسه بالمدّاحين. كذلك ستكون علامة على القيادة الرهيبة لو عيّن الامير مستشارين ثم يتخلص منهم لاحقا، طالما هذا يبيّن انه غير حكيم في خياره الاصلي.

يبدأ ترامب في بيان انه ليس ميكافيليا جدا في هذه المسألة، وهو الانطباع الذي يتأكد عندما ننظر الى الاهتمام الذي يضعه ميكافيلي على الوحدة المدنية. من بين الاهداف القليلة التي تبرر القسوة لدى الحاكم هو تأسيس الوحدة بين الناس. ميكافيلي يتحدث عن هانيبال القائد الكبير في قرطاج كنموذج: تعامله القاسي مع جنده مترافقا مع الفضائل الاخرى، ضمن له ان يبقى جيشه مخلصا وملتزما . الامير الحكيم يريد التأكد من ان كل شعبه خلفه، او على الأقل ليس ضده. اذا كان من الافضل ان تكون مهابا اكثر من ان تكون محبوبا، فمن الأسوأ جدا ان تكون مكروها. لذا فان ميكافيلية الامير سوف لن تستغل ابدا الانقسام بين الشعب طالما هذا حتما يشجع الأعداء الذين سوف يخططون لإسقاطه، وهو الامر المألوف دائما.

 

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم