أقلام حرة

الحرية والاستقامة

مجدي ابراهيمفي سبيل الحرية؛ هذا اللحن الشّجي النّدي بذل الباذلون وسعهم وأكثر لمعرفة سرّ الإنسان، ولا يزال أمام الإنسان شوط واسع المدى كيما يتحرّر ويقف بالمجهود أمام نفسه أولاً ليعيش الفكرة في بعدها العملي التطبيقي واقعاً محققاً بالفعل. وفي طريق الحرية الإنسانية كان الإيمان بالروح هو أول خطوة صحيحة؛ لأنه هو أول من عَلّم الإنسان التبعة "وإنّ كل نفس بما كسبت رهينة". وهذا هو أساس التكليف وأساس الحقوق إذا حَسُن استخدام التكليف مع الإيمان بالروح.

ليس هذا فقط، ولكن الإيمان بالروح يوحي إلى العقل عقيدة المساواة بين جميع الناس أمام الله وأمام شريعة الله. وبفقدان هذا الإيمان الروحي تفقد المجتمعات الإنسانية شريعتين مهمتين أولهما: شريعة التكليف الذي يأتي من طريق التبعة. وثانيتهما : شريعة الحقوق التي تقوم عليها الديمقراطيات الحديثة اليوم. ومع فقدان الإيمان بهاتين الشريعتين يفقَد الروح الإنساني حريته على الإطلاق؛ ويفقَد معه الدلالة على وجوده فيكون عرضة لسفه الأخلاق ونزع الإنسانية من المجتمعات. والأصلُ في هذا هو الاستقامة على الأمر: أصل الإيمان الروحي وأصل الجهاد في سبيله مشروط بشرطه لا يتعداه إلى سواه. وبفقدان أصل الاستقامة يفقَد الخُلق الإنساني وجوبه في الحياة كونه واقعاً فيها مُحَقِقاً لوجودها.

من الوجهة الأخلاقية، سألت نفسي : كيف يتمُّ التعامل مع سفهاء الآدميين ممَّن يمتلكون سلاطة اللسان وقذارة الجنان وسوءة الضمائر ونذالة الأخلاق أو ما شئت أنت أن تضيفه ممّا هو قطعاً لا يسرّك ولا يسرّ أحد تخلق بأخلاق الأحرار؟

فكانت الإجابة عندي ببساطة شديدة أنها : الحريّة !

الإنسان لا يكون إنساناً إلَّا بين الناس. نعم يُفهم من هذا، أن الإنسانيّة لا تتحقق إلا ممارسةً بين الناس؛ فالمنعزل عن الناس لا يَفهم من الإنسانية سوى قشورها ولا ينفذ منها إلى اللباب، ولا يدرك منها إلا صورتها الخارجيّة بغير تحقيق، لكنه إذا هو انخرط مع المجموع، رأي شدّة الأمر تعلو على الفاعليّة المُحققة بمقدار ما تعلو على الصبر العادي، فهو بحاجة إذْ ذَاَكَ إلى أن يُقاوم كل مظاهر السلب والانحراف وعَسَفَ المظاهر والسلوكيات المقزّزة، يراها بادية من غير خفاء في ترّهات المجموع.

وهذه المقاومة، تُظهر ممّا لاشك فيه معدنه وتُجلى أصالته، هل يستطيع أن يتحلّى بمجمل القيم الصامدة أم سيتخلى من فوره عند أول أزمة تقابله عرضاً في الطريق، عن كل ما يؤمن به، مبادئ وأخلاق؟

المقاومة مشروطة بالفاعليّة، والفاعليّة قدرة وحيويّة واقتدار، وحركة باطنة تتحرر فيها الروح وتتحقق مع دوام المباشرة.

وبالجملة؛ فلا يكون الإنسان إنساناً إلا بين الناس، هو مبدأ لا يتأتّى إلا بالحريّة، بمعنى تحرير الإنسان عن كل نوازع الشر والحيوانيّة واتصاله بمصادر الإلهيّة فيه، فلن يكون إنساناً، وهو يُعطي الفرصة سانحة للأغيار أن يدفنوه حيّاً بين صراعاتهم ومكاسبهم ودحرهم للقيم الإنسانية العاملة، أو لنزوع حيواني يفعل فيه هو نفسه الأفاعيل، ويُرْديه صريعاً مع الأهواء القاتلة تغالبه ويغالبها؛ فلا ينتصر عليها إلا بمقدار ما لديه في الغالب من حكمة : إخلاص المرء لعقله، وبذله الجهد للتفكير بنفسه، هنالك تتجلى قيم الحرية في أعلى مستوياتها، إنها (أي الحريّة) ازدهار العقل في أنفسنا، وهى أيضاً تربية وإصلاح لغيرنا؛ لأن الحريّة الشخصية لا تنفصل عن حرية الغير؛ فكما تطالب بالحرية لنفسك، فليس من حقك أن تجور على حرية الآخرين، أو تقلل من شأن هذه الحريّة لهم، وبما أن للحرية متنفّساً عاماً وإنسانيّاً، فالعبيد وحدهم هم من يضيّقونها ويذلّون الإنسان بحرمانه منها.

أوّل حادثة قتل حدثت في التاريخ الآدمي عجز معها الأخ أن يُواري سوءة أخيه كانت من أجل الحريّة، حرمان الآخرين منها، واستباحة دمائهم وأرواحهم إذا هُم طالبوا بها. ومنها حَلَّ العنف محل التسامح، وسقطت الحرية في ظلال العبودية السياسية، وسادت شريعة الغاب في أكثر الدول تقدّماً، فأصبحت الحكومات الديمقراطية شكلاً قائماً بغير مضمون لأنها فقدت شريعة الحقوق كما فقد الآدمي في ظلها شريعة التعبة المسئولة فلم تعد الحرية قائمة بوجه من الوجوه؛ لأنه لم يعد هنالك إيمان بالروح.

وقد تظل العلاقة بين الحرية والاستقامة أظهر العلاقات ذات الروابط المشتركة، تعطي الأولى مساحة لتحديد الفعل الإنساني على شرط الاستقامة، وتأخذ الثانية نشاطها في ظل الحرية، فليست الحرية فوضى قادحة في الفعل الإنساني ناكبة الطريق إليه، ولكنها ملكة عقلية تنتظم السلوك المقرر وفق الاستقامة. والاستقامة تعتمد على مضمون ديني، تستند إليه وتأخذ منه وتعطي صاحبها على أساسه، أي تعتمد على الكتاب الكريم وسنة رسول الله صلوات الله عليه فيما خاطبه الحق تعالى واسْتقم كما أُمِرْتَ؛ وهذا عندي هو ما يميّز مضمون الدين الإسلامي عن غيره من أنواع الديانات الأخرى : مدارس كانت أو آراء.

وإذا انفصلت الاستقامة عن الحرية وعملت هذه الأخيرة عملها بغير حدود ولا شروط، وبغير قواعد يتأسس الفعل عليها في العقل الإنساني، أصبحت فوضى ولها بالفوضى نسب عريق، وصارت بعينها هى القيد الذي يحدّ من عمل الإنسان ويعوق حريته إلى منتهاه؛ إذْ يصبح من الواجب عليه كسره وتجاوزه إلى حيث الاستقامة. فالفارق كبير جداً في مجال القيم بين القيود الحاجزة عن العمل، الحاجبة للحرية، وبين القواعد التي تتأسس على فعل الاستقامة كونها التزماً يُقَرَّر في جوف الضمير. الأولى كسرها والارتفاع عليها واجب. والثانية؛ لأنها بنت الاستقامة؛ فالالتزام بها شرط العمل النافع والإرادة الفاعلة في كل حال.

الحرية ليست فوضى ولا هى بالقيد، ولكنها تصبح فوضى في إطار العمل الفاسد مع غياب الاستقامة؛ تصبح عبودية لأنها تحوّل الفعل الإنساني من القاعدة إلى القيد : من حالة الالتزام الذي يصدر عن الاستقامة، وهو هنا القاعدة، إلى حالة القيد الذي يفرضه التحجير كما تفرضه العبودية بكل أطيافها وألوانها، وهو هنا دعوى الحرية بغير قواعد من شروط الاستقامة على الأمر. في الحالة الأولى : يكون النشاط الإنساني مدعاة للفوضى والتخريب؛ لأنه عبودية لا يصدر عن قاعدة ولا عن استقامة.

وفي الحالة الثانية : تتصدَّر الاستقامة حرية الالتزام وفق مقرراته؛ فيجيء الفعل الإنساني نشاطاً مثمراً نافعاً بكل تأكيد. وقس على هذا المقياس كل صنوف النشاط الإنساني في مجال القيم، وفي مجال الحياة على كافة أنشطتها الفعالة.

ظل النموذج الأمريكي هو هو النموذج "البطل" الذي نعتبره حَسَناً في طريق الحكومة الديمقراطية كما نعتبره أساس تطبيق القيم. ولكن التاريخ يقول لك إنّ التحريض باسم الدين كله كان في الغرب خُلقاً لا مندوحة لنا بوصفه خُلق العبيد : التاريخ الأوروبي الأمريكي الشمالي - على الرغم من اعتناق المسيحيّة - ليـس إلا تـاريـخ الـغـزو والأبـَّهـة والتكبر والجشع. وأعظم قيمنا - كما قال عظمائهم - هى أن نكون أقوى من الآخرين، وأن نغزوهم ونقهرهم ونستغلهم. وهذه القيم تتطابق مع المثل الأعلى "للرجولة". فليس رجلاً إلّا من كان قادراً على القتال والغزو والقهر، وأي شخص غـيـر قـادر على استخدام العنف إنْ هو إلا شخص ضعيف؛ أي "ليس رجلاً".

لسنا بحاجة إلى إثبات أن تاريخ أوروبا هـو تـاريـخ لـلـغـزو والاسـتـغـلال والقوة والإخضاع والقهر. لا تكاد توجد فترة أو مرحلة من التاريخ الأوروبي إلا كانت هذه سماتها. ولا يستثنى من ذلك طبقة ولا جنس. لا توجد جريمة إلا ارتكبت؛ بما في ذلك عمليات الإبادة الجماعية لشعوب بأسرها مثل ما حدث للهنود الحمر. حتى الحروب الصليبية التي جعلت من الدين سـتـاراً لها لم تكن استثناءاً.

فهل كان الدافع لهذا السلوك اقتصاديّاً أو سياسيّاً فحسب؟ هل كان تجار العبيد وحكام الهند وقتلة الهنود الحمر، والبريطانيون الذين أجبروا الصينيين على فتح أبواب بلادهم لتـجـارة الأفـيـون، ومـثـيـرو حربين عالميتين، وأولئك الذين يحضِّرون لحرب عالمية ثالـثـة .. هـل هـؤلاء مسيحيون مؤمنون حقاً ؟!

هل يُقاس القتل في تاريخ الإسلام بمثل هذا التاريخ الدموي قديماً وحديثاً ؟!

أمّا قديماً فعرفناه. وأمّا حديثاً فلن يتجاهله سوى مخبول : الإرهاب صناعة أمريكية في الأساس هدفه تحقيق المصلحة بقتل العالم الثالث، والعرب خصوصاً؛ بسبب مصالحهم التي لا تنتهي، ولئنْ كان هناك إرهاب باسم الدين، فهو أيضاً صناعتهم : فن ذبح حرية الآخر واستعباده، وتشريده وامتصاص دمائه.

فقتل ما يقرب من مليون عراقي هو صناعة أمريكية، وقتل الفلسطينيين وذبحهم والتنكيل بهم وتشريدهم هو صناعة أمريكية إسرائيلية بسلاح أمريكي ومعونة أمريكية، ودعم المجاهدين الأفغان باسم الدين هو صناعة أمريكية، ودعم مجاهدي العراق والجزائر وليبيا وسوريا من خلال عملائهم في الوطن العربي مثل الخليج العربي والأردن كيما نقتل أنفسنا بأنفسنا باسم الدين، وإشعال الفتن الطائفية مصلحة لهم هو صناعة أمريكية؛ وحرب العراق وإيران من قبل كانت أيضاً مصلحة لهم، وأخيراً عصابة داعش التي هى صناعة أمريكية بامتياز، ثم ماذا؟ ألم يقتل الأمريكان أبرياء بسب استعمارهم للدول والشعوب : الهنود الحمر أصحاب أمريكا الأصليين، وقنبلة هيروشيما، وحربهم على دولة ضعيفة مثل فيتنام وقتل ثلاثة مليون شخص، وحرب كوريا الشمالية، وقتل ثلاثة مليون آخرين.

من ذا الذي صنع الإرهاب واغتال الحرية الإنسانيّة؟ العرب والمسلمون هم الذين صنعوا الإرهاب والقتل والتشريد أم أمريكا والغرب؟ الغرب الذي جعلنا متخلفين ووقف ينظر إلينا ضاحكاً على تخلفنا : ألا توجد مسكة من إنصاف عند من يلعق على الدوام قاذورات الغرب؟ وكم من عملية إرهابية في الخليج والأردن ومصر وسيناء أيضا كانت، وربما لا زالت، تلعب ذات الدور القذر لصالح المستعمرين؟ هل هناك أخلاق فرضتها الحريّة لأكبر الدول غير ما فرضت من أخلاق العبيد؟

وكما يكون للأحرار أخلاق، كذلك يكون للعبيد أخلاق : أخلاق العبيد هى التنازع والشقاق والانقسام والعنف والاستقتال والتشريد وسفك الدماء وإرهاب البشرية تحت مطالب كلها، كلها، ترابيّة. وأخلاق الأحرار هى الاستقامة، والتسامح، والمحبة، والمشاركة الوجدانية، والتعاطف الإنساني، والتسامي فوق الزائل الفاني، والعروج صعداً لكشف حقيقة البذرة الإنسانية.

فمن فَقَدَ هذه الأخلاق فَقَدَ معالم الإنسانيّة بكل ما يُقرب إليها من نسب أو صلة.

إذا كان الإنسان لا يكون إنساناً إلاّ بين الناس، فلا يصحّ أن يكون له من غرض سوى تكمّلها النفسي، أو بعبارة أخرى : تكميل الإنسانية في نفسه، وفي غيره من الناس.

فالحريّة التي يتخذها مستنداً له تنعكس بالإيجاب على تكميله النفسي في حالة "الاستقامة" ثم تكميل الآخرين كذلك؛ لتعكس كمالاً في مستوى القيم لديه فيما لو صدقت النيّة وصحّ العزم وتمّ، من ثمّ، طريق التحرير في ظلال الاستقامة على الأمر، وتحت شروطها، ومع موجباتها كما سنتها شريعة الملأ الأعلى.

 

د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم