أقلام حرة

قاسم الكفائي: فاجعة العصر

قاسم محمد الكفائيفي الحادي عشر من سبتمبر عام2001 وقع ذلك الحدث الكبير الذي هز ضمائر البشرية جمعاء حين ارتطمت طائرتان مدنيتان ببرجي منهاتن في نيويورك الأمريكية  وفق خطة دقيقة، مُعدة عمرُها أكثر من عامين أو ثلاث. الجاهلون من أهل السياسة والمذاهب التكفيرية حسبوه انتصارا، وربحا كبيرا القصد منه ضربة كبرى وُجهت الى الإدارة الأمريكية، أما العارفون الإنسانيون وأهل الدين المعتدل الذين يعرفون دينهم حق معرفته عدّوه عملا إرهابيا برقى الى الجريمة العظمى واعتبروه خسارة تتبعها خسائر على الفاعل والمسبب. نتيجة هذا الحدث تهدمتا البرجان واحترقا بمن فيهم من مدنيين عزّل، وبما أنهما يعتبران مركز التجارة العالمي فكانا يضمان آلاف المتبضعين من رجال ونساء وأطفال كانوا بصحبة ذويهم، كذلك فيهما مكاتب للمحامين، وأهل الإختصاص، ولتجارة، وكافة المهن والأعمال الأخرى. ومن الضحايا كذلك ركاب الطائرتين الأبرياء (أنا شخصيا دخلت هذا البرج عام 1997 بغرض التبضّع).

الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن تلقى نبأ التفجير الإرهابي بذهول وصمت وقد اغرورقت عيناه بالدموع تغمره الحيرة، لكنه كان بارعا في إدارة الأزمة والتصبر حال ورود الخبر. لقد اجتهدت وكالة المخابرات الأمريكية في البحث لمعرفة الفاعل، حينها خاب ظنها عندما تأكدت أن له علاقة بحلفائها التقليديين، كانت زمرة من الشباب هم المنفذين ممن تنعموا برعاية المملكة السعودية حين اختارتهم طلابا لدراسة الطيران في أمريكا وتم استقبالهم بسعة صدر في أهم مدارس تعليم قيادة الطائرات. هذه الحقيقة كانت صدمة قاتلة لكل أجهزة الإستخبارات الأمريكية وقد خيّبت ظنَهم بحليفهم التقليدي، وشككت بالآخرين من حلفائها في دول الخليج بأعلى درجات الشك والريبة. فالكم الهائل من المعلومات التي على رفوف وفي مخازن المخابرات الأمريكية عن سلوك وتوجهات حكام المملكة ودول الخليج يجعل من السهل معرفة خفايا الحدث وإن تغلف بشيء من التخفي والتمويه على المسبب الرئيسي.  

في الأبراج المحطمة كان الدخان يتصاعد لأسابيع والجثث تحت الأنقاض ورجال الأطفاء عجزت عن إتمام المهمة بما يتمنوه فمات منهم الكثير نتيجة إخلاصهم بعملهم واندفاعهم لإنجاز مهمتهم بأقصى درجات المسؤولية. في تلك الحالة المزرية التي لم يشهد عصرُ الطائرات لها مثيلا ولا الأبراج خططت الإدارة الأمريكية بصمت للرد على المصدر الحقيقي لهذه الجريمة ولابد له أن يتناسب مع موقعه وإمكاناته (تشليح على الآخر) أما بياناتها التي أطلقتها على الرأي العام فلا تعدو أكثر من ذر الرماد أو مزحة تتستر بها على الحقائق ثم اكتفت بالوعيد ودفع الثمن. لكنها حسبت لأهالي الضحايا ألف حساب بغرض الإبتزاز أولا، وورقة ضغط أخرى لتحريك ملف الجريمة متى شاؤوا ووفق حساباتهم هم.

وفي تلك الحالة أيضا قررت الإدارة الأمريكية حجز كافة الأموال السعودية المودَعة لدى بنوك نيويورك والتي تقدر ب 700 مليار دولار مع أطنان الذهب. فكل ما للسعودية من مال وذهب صودر بصمت مطبق حتى أن حكومة المملكة لم تطالب أمريكا ولم تسأل عن دولار واحد ولا قيراط ذهب لإسترجاعهم الى يومنا هذا. لقد أضافت حكومة المملكة عرفانا آخر على ما صودر منها بأن أعلنت رسميا وقوفها الى جانب حكومة وشعب أمريكا في مواجهة الإرهاب (بيانات رسمية تستخدمها الدول للتمويه والتستر والهزيمة)، وأعلنت فتح بوابات المملكة لأي غرض يخدم الولايات المتحدة الأمريكية (نفط مجاني لمدة خمسين عاما). ومن قصص الحضيض التي واجهة عائلة آل سعود أن الأمير الوليد بن طلال زار خلال الأسبوع الأول من وقوع الجريمة الإرهابية عمدة نيويورك وشاطره أحزانَه وتأسفاتِه ثم سلمه رصيدا بمبلغ عشرة ملايين دولار إعتبرها تبرعا فرديا غير رسمي. نظر عمدة نيويورك الى قيمة الرصيد المكتوبة ثم نظر الى الأمير ثانية بازدراء وتهكم ليعيد اليه – خرداواته - (هذا الأميرالغبي لا يفقه لغة الصمت الأمريكي وهي لغة التشليح الأمريكي). فبإعلان المملكة وقوفها الى جانب أمريكا ضد الإرهاب توافدت وفود الرياض على واشنطن فتسلمت من إدارتها رسالة بخط أحمر مفادها (تشلحوا...أي كل ما تحت أرضكم من خيرات هو ملكٌ لنا). دول مجلس التعاون الخليجي ارتفع عندها الضغط البدوي وأخذت تتوسل أن يرضوا بقيمة المبلغ الذي تحدده واشنطن إما نقدا، أونفطا وذهبا، أوسياسة وقواعد عسكرية. إسرائيل من جهتها فرحت بوقوع هذه الجريمة كونها تفكر وتتحدث بلغة المصالح وشرعنة الإحتلال والوجود وليس لغة الإنسانية، فكان نصيبها منها أن عززت مبدأ السلام (الإستسلام) الفلسطيني الإسرائيلي وفق مقررات أوسلو. وافق سرّا جميعُ المرتهَنين برضى وغضب أمريكا وصارت حكومة تل أبيب تبني المستوطنات بإسلوب جديد يؤدي الى التضييق على الشعب الفلسطيني وعزله على شكل (حضائر) ليأتي السائح ويتعرف على الإنسان الفلسطيني في حضيرته وكأنهم سكان أطلال... كان هنا بشر في سالف الأزمان، مازال التضييق جار الى هذه الساعة.

المخابرات الأمريكية أعدّت فاتورة مفتوحة بخسائرها نتيجة هذا العمل الإجرامي الذي تعرضت له أبراج منهاتن وآلاف الأرواح البشرية من المدنيين الغير محاربين داخل المبنييَن وكذلك المدنيين المارة وطواقم الإنقاذ وباقي المباني العامة التي تأثرت بقوة التفجير ما يعني أن المملكة ستدفع كلَّ خيراتها فوق الأرض وتحتها مقابل السكوت المؤقت الذي فيه يدوم بقاء العرش السعودي لنصف قرن قادمة، أي بعد إنجاز مهمة الإبتزاز. أما أهالي الضحايا الأمريكيين وغيرهم فهم لا يعنون بشيء مقابل هذا الكم الهائل من الإبتزاز وقد تظهر لهم بعض التعويضات بين الحين والآخر كورقة تحركها قنوات مرتبطة بالإدارة والمخابرات في واشنطن ضد المملكة فيما بعد وبحسب الحاجة، لكنها لا ترقى الى حقيقة الخسارة التي واجهوها بشريا ومعنويا. الناس أحبتهم أعزاء عليهم ولن تعوضهم الأموال المدفوعة من خزينة مملكة آل سعود سوى أن يُساق ملك السعودية وولي عهده وبعض الوزراء ورؤساء المباحث وشخصيات دينية أخرى الى المحاكم الجنائية العليا لنيل العدالة من هؤلاء خونة الإسلام ونبيه الأكرم وأعداء الإنسانية جمعاء.

هذه الجريمة التي نحن بصددها، وهذا السلوك الشرير الذي تمارسه الإدارة الأمريكية بسلب خيرات الشعوب وما زالت بغير وجهة حق كلها يرفضها الإسلام المحمدي الأصيل ويعتبرها جريمة يعاقب عليها لأن الإنسان الذي قتل نتيجة العمل الإرهابي مهما كان دينه وتوجهاته الفكرية والثقافية هو بحسب النظرة الموضوعية للإسلام أخ في إنسانيته للإنسان المسلم، والتاريخ الإسلامي حافل بالقصص والروايات كيف عاش اليهود والنصارى في ظل المجتمعات الإسلامية وكيف أن لأهل الذمة اليد الممدودة والسطوة في بعض مفاصل الحكومات المتعاقبة عبر مراحل متعددة من تاريخ الحكومات العربية والإسلامية.

إن الإسلام المشوّه الذي رسمته المؤسسات الصهيونية إبتداء من القرن السابع عشر الميلادي على الخصوص قد أضرّ بالمجتمعات الإسلامية وبأوطانها فكان مشروعا صهيونيا ناجحا في عملية الهدم كون المنفذين ووسائل التهديم هم من داخل حصننا. مازال الى اليوم هذا المشروع قائما تتواصل فيه تلك المؤسسة بتأسيس المذاهب المتطرفة، وتعيين الأنبياء الجدد والمرسلين والمصلحين، أو بناء أفكار وتأسيس جمعيات ودعم عقائد منحرفة. كل هذه تظهر في المجتمع المسلم عندما تطأ قدم الجندي البريطاني أو الأمريكي أو الفرنسي على الأرض الطيبة لشعب مسلم مسالم، وهو يصارع ظروف الحرب، أو الحصار الإقتصادي المفروض عليه. فكان أخطر مشروع قامت به وزارة المستعمرات البريطانية في الربع الأخير القرن السابع عشر هو صناعة المذهب الوهابي على أرض بلاد الحجاز وقد رعته ووجهته وجندته من أجل ذاك لهدف الشرير ألا وهو تشويه الإسلام المحمدي، وتفكيك المجتمع الإسلامي. النتائج ظهرت بعد قرن وسبعين عاما تقريبا حين قضى عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود على خصومه في الحجاز واستولى على الحكم بمساعدة عنصرين مهمين هما الحكومة البريطانية وعلماء المذهب الوهابي الذي تأسس تحت إسم محمد بن عبد الوهاب. ثم تجلت النتائج أكثر في السنة الأولى من الألفية الثالثة الميلادية بأن حفنة من أتباع هذا المذهب تجبروا على سيدهم وقاموا بتلك الجريمة المروعة بحق الأبرياء في البرجين التجاريين والطائرتين المدنيتين. وقد يتوهم الكثير أن القاعدة وقائدها أسامة بن لادن ينتهجان خطا دينيا يمثل الإسلام والمسلم بينما الحقيقة هم طلاب ذاك المذهب المنحرف المصنوع صهيونيا، فليس لهم من صلة بجوهر الدين الأصيل ولا يمثلونه ما عدى المظهر وطرهات محراب العبادة، الضال والمضل.

لقد حان الوقت أن تبدي الإدارة الأمريكية موقفا عزيزا وشجاعا في التعامل الجاد مع هذا الملف من أجل إنصاف جميع أهالي الضحايا ورد الإعتبار لهم ولأبنائهم الضحايا. فابتزاز المال ليست هو المعيار الأهم في تعيين حرمة دم الإنسان الأمريكي، ولم يكن مؤثرا في توظيف مهمة إسترداد كرامته، لأن الحل الأنجع كما أشرنا سلفا هو سَوق جميع المتورطين من آل سعود بفاجعة العصر الى المحاكم الدولية الخاصة، ومحاربة المذهب الوهابي المتطرف وطمره تماما في مزبلة المذاهب المنحرفة، كذلك الأهم هو تغيير نظام آل سعود واستبدالة بنظام علماني وطني معتدل.

 

قاسم محمد الكفائي

 

 

 

في المثقف اليوم