أقلام حرة

مصعب قاسم عزاوي: جرائم الإبادة الجماعية

مصعب قاسم عزاوياهتمامي بكشف وتوصيف الحقائق كما هي فيما يتعلق بمجزرة الشعب الأرمني في العام 1915، لا يختلف كثيراً عن اهتمامي بكشف ورتق ثقوب الذاكرة التاريخية الإنسانية المهترئة التي يتسرب منها كل شيء لا يتماشى مع مصالح السادة الأقوياء والفئات المهيمنة على السواد الأعظم من بني البشر المفقرين المستضعفين.

والحقيقة أنني أنظر إلى الشعوب المظلومة بنفس المعيار، ولا أرى كثير فرق بين إبادة جماعية حدثت للشعب الأرمني المظلوم، أو تلك التي حدثت للمقهورين من غجر القارة الأوربية، الذين يعرفون بشعب «روما»، وأصلهم القديم يعود إلى بلاد السند وشبه القارة الهندية، والذين حلوا على القارة الأوربية إبان توسع الإمبراطورية التي أسسها الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، وهم الشعب الذي تعرض إلى مجزرة شنيعة لا تختلف في مستوى بشاعتها وحجمها المهول عن ذلك الذي تعرض له يهود القارة الأوربية إبان تغول الوحش النازي -الفاشي عليها.

وهو نفس الالتزام بإنصاف المظلومين الذي تعرضوا للإبادة جماعية، يستدعي الالتفات بنفس الدرجة إلى جرائم الإبادة الجماعية التي تعرض لها المظلومون في غير موضع من أرجاء الأرضين، سواء كان ذلك إبادة جماعية للمستضعفين من الأكراد على يد نظام صدام حسين أو الأتراك، أو الإبادة الممنهجة والتطهير العرقي لشرائح واسعة من أبناء الشعب السوري في مجزرة حماة في العام 1982 واستنساخاتها الشمشونية بدءاً من العام 2011 والتي لما تنته بعد، وكل إبادة للبشر المقهورين المستضعفين المفقرين كما كان في صبرا و شاتيلا أو تل الزعتر أو أيلول الأسود، وصولاً إلى إبادة الروهينجا في ميانمار، والإيجور في تركستان الشرقية، ومروراً بجرائم الإبادة الجماعية التي حدثت في إندونيسيا وتيمور الشرقية، وتلك التي حدثت في غير موضع من أمريكا اللاتينية كما كان الحال في تشيلي في العام 1976.

وخلاصة القول بأن واجب كشف اللثام وإظهار الحقائق بشكلها المنقى من تورية وتزويق الأقوياء المنتصرين على ضعف دماء المستضعفين وعيونهم التي لا تستطيع مقاومة مخارزهم واجب وفرض أخلاقي لا بد على كل قادر على القيام به عدم التأخر عنه، وإلا كان شيطاناً أخرس بامتياز.

ومن ناحية أخرى لا بد من التركيز على أهمية إبراز فظائع ما حدث من مجازر ضد الشعب الأرمني وغيره من شعوب العالم، لمواجهة احتكار آلة الإعلام المتسيدة كونياً للحق الحصري في الحديث عن الإبادة الجماعية الوحيدة التي لم تتسرب من شقوق غربال الحقائق التاريخية التي تستعمله لفرز ما هو جدير بالتغطية الإعلامية عن ذلك الذي لا يستحق سوى التسرب من شقوق ذلك الغربال إلى «مزبلة التاريخ» حسب ظنهم، واعتبار أن جريمة الإبادة الجماعية الوحيدة التي تستحق ذلك التوصيف هي جريمة حرق اليهود في محارق الغاز النازية إبان الحرب العالمية الثانية، والتي لا سواها مجزرة أو إبادة جماعية تستحق التغطية كذلك، وهو ما يستدعي استخدام فن الحذلقة اللغوية الذي يتقنه «وعاظ السلاطين» كما هو الحال بالنسبة «لمرتزقي الكتابة والإعلام» في توصيف كل المجازر وجرائم الإبادة الجماعية المهولة الأخرى غير تلك التي حصلت بحق اليهود، بأنها نزاعات وصراعات دموية يتساوى فيها القاتل مع الضحية، والظالم مع المظلوم.

ومن ناحية أخرى لا بد من نزع صفة الرتبة الحجمية في توصيف أي جريمة إبادة جماعية بحق أي مجموعة بشرية، والتي تعتبر أن إبادة مائتي ألف من البشر أكثر شناعة من إبادة مئة ألف منهم على سبيل المثال. إذ أن ذلك المنطق الحجمي منطق متهافت في جوهره يتفارق مع حقيقة أن بشاعة المجازر وعملية قتل أي إنسان تفصح عن أس بشاعتها من الناحية الأخلاقية في إزهاقها روحاً وإنساناً ذي أحلام وطموحات وتاريخ وآمال وأحباب يعيش من أجلهم، ويترحون لفقده ككل إنسان على وجه المعمورة، وهو ما يستدعي إعادة النظر بمفهوم المجازر الجماعية عبر إعادة الاعتبار إليها بكونها جرائم نالت من بشر من لحم ودم، مثلنا ومثل من سوف يأتون من بعدنا، وهي ليست مجرد أعداد وأرقام، الأكبر منها أكثر قيمة ويستحق الاعتداد به أكثر، وهي ليست مجرد أحداث تاريخية يمكن النظر إليها ببرود كما لو أنها حدث عابر، فهي جرائم شنيعة تمت في ظروف معينة، قادت وأفضت إلى الواقع الراهن الذي نعيشه بكل تناقضاته واختلالاته، وأن عدم مواجهة تلك الجرائم بذلك المنظار التاريخي، لتفكيك مفاعيلها الراهنة التي لا زالت مرتبطة بها، وتعيد إنتاج ارتدادات تلك المجازر والجرائم في وجدان أخلاف المجرمين والمظلومين على حد سواء، والذي ينظر كل منهم إلى تلك الجرائم بطريقة ذاتية محضة لا تسهم في تحقيق نموذج من الاعتراف بالخطيئة أينما حدثت تاريخياً في مقدمة لأجل تحقيق شكل من المصالحة الضرورية بين أبناء الجنس البشري إن كان مقدراً لذلك الجنس الاستمرار في نموذج حياته المعاصرة، وعدم النكوص عنها إلى مرحلة من حياة الشتات والهروب من كارثة للوقوع في أخرى أقله بسبب مفاعيل الكارثة البيئية المحدقة ببني البشر، والتي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تحققها الذي لا عودة منه.

 

مصعب قاسم عزاوي

 

 

في المثقف اليوم