أقلام حرة

مضر الحلو: مآلات الخطاب الديني (2)

ولع غالبية الخطاب الديني بلغة التهديد، والوعيد والتخويف، والارعاب، والتركيز عليها، فقد أسهبوا في ترويع الناس بتفاصيل عذاب القبر والبرزخ بما لا حجة لهم به، معتمدين على روايات ضعيفة مهجورة، وقصص خيالية من قبيل عظم حجم الحيات والعقارب التي ستنهش لحم من يذنب ذنبا مهما كان صغيرا، وأنه يسلط عليه انواع من العذاب لو سلط على أهل الدنيا لضجوا منه! يحسب هؤلاء أنهم بكثرة تهديدهم ووعيدهم إنما يكرسون الحياة الروحية، ويثرون الحياة الأخلاقية، ولم يدركوا أنهم بذلك إنما يخرجون الله من قلوب الناس ليرسخوا مكانه الكراهيات، ويفشوا فيها التعصبات، وخلق طاعة لله تعالى قائمة على أساس الرعب منه لا محبته، والخوف من قسوته لا رجاء رحمته. نعم الخوف مع الرجاء تشكل احدى الخطوط المتقابلة في نفس الانسان المؤمن، تنظمان مسألة الطاعة له عزّ وجل، ولكنه أي خوف؟ إنه خوف الحب لا خوف الرعب وشتان بينهما، خوف من يحرص أشد الحرص أن لا يشهد منه حبيبه ما يسوؤه، لاخوف من يتوعدك أن يظفر بك وانت في أضعف حالاتك، اعزل لا حول لك ولا قوة، وهو جبار السماوات والأرض، العقل المطلق، والقوي القادر، ليصب عليك جام غضبه فيذيقك أصنافا من العذاب لا تحتمل كما لا تتناسب ومقام الربوبية بما يتحلى به من صفات الرحمة والشفقة واللطف! لكم أن تتصوروا حجم الخوف والقلق الذي يصاب به الكبار فضلا عن الأطفال وهم يستمعون الى هذا الخطاب الترهيبي في سنيهم الأولى، الخطاب الذي يبني فردا خائفا، مترددا في حاضره، ومهزوزا، مهزوما في مستقبله.

ناهيك عما يمارسه بعضهم من تضييق حريّات الناس المباحة إلى حدود قصوى، ما أنزل الله بها من سلطان. لدرجة أن بعضهم اعتبر ان مفهوم الحرية دخيل على الاسلام! متناسين ان ذلك انما يسهم اسهاما مباشرا في تشويه صورة الله الرحمن الرحيم عند المسلم، اضافة إلى تأزيم علاقته بربه، قال تعالى: "قُلْ يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيم‏" الزمر : 53. ورد في الاثر عَنْ الامام عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) قَالَ: " الْفَقِيهُ‏ كُلُ‏ الْفَقِيهِ‏ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِن

مَكْرِ اللَّه‏."

أنهك هذا الخطاب المفرغ من المعنوية أرواحنا، واستنزف قلوبنا، وعمل على رسم صورة مفزعة لله تؤدي إلى الغرق في القنوط والقلق والخوف، وكأن الإنسان المؤمن في معركة مزمنة مع الله ف( ليست المهمة الأصلية للأديان رسم صورة مرعبة لرب العالمين، وتحويل صورة العالَمَين - الدنيا والآخرة- إلى سجون أبدية ووضع الكائن البشري في قلق متواصل، وزرع الخوف في قلب الإنسان مما سيفضي إليه مصيره في القبر وعذابه، وجحيم العالم الآخر).

اراد الله تعالى ان تكون علاقة المؤمن به مشيدة على أساس من المحبة وحسن الظن "... يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ ..." المائدة: 54. وقوله تعالى: "... وَالَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ..." البقرة: 165. وعمل ايضا هذا الخطاب المأزوم على تفريغ الدين من قيمه الروحية كمحبة جميع الناس، وحب الخير لهم، والتوق إلى الجمال، والرحمة، والتسامح، ليحل محلها القبح والكراهية والاحقاد والعداوات وسوء الخلق.

يتبع..

***

مضر الحلو

في المثقف اليوم