أقلام حرة

درصاف بندحر: النجم الهادي

يقول الشاعر اللبناني وديع سعادة في قصيد له بعنوان الإنشقاق:

تدوس في طريقها كلَّ شيء، القافلة.

تمعسه بصمت، بعمى.

سَيل الجماعة جارف. قافلة الجماعة ماعسة.

تسحق الفرد ومأواه الضيّق للسهو أو النوم.

كيف يمكن إنقاذ الزهرة الداخلية في هذا الجرف؟

هذا البهاء اليتيم كيف يمكن إنقاذه؟

***

دايفيد إميل دوركايم (David Émile Durkheim)‏ عاش بين سنة 1858 وسنة 1917. هو  فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي. أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث.  يرى دوركايم  أن سلب الناس حرياتهم الفردية، وجعل سلوكهم في الحياة سلوكا جبريا، لا حول لهم فيه ولا قوة ولا اختيار. (والجبرية بالنسبة له ليست من قبل خالق قادر مهيمن)، كما يرى الجبريون فيما يتعلق بالدين، إنما هو من قبل وهم غير معروف الصفات سماه « العقل الجمعي».

والمقصود بالعقل الجمعي هو الفعل الإرادي للتماثل مع الجماعة وهو يشمل حتى تلك الأفعال التي يظنها المرء خاطئة، أو غير ضرورية، أو غير عقلانية لكنه مع ذلك  يمارسها، كي لا يصنف خارج المجموعة وضد الخط العام.

فقد لا يكون الإنسان مقتنعا بلبس الثوب الأبيض في حفلات الأعراس أو العقال مثلا، لكنه يلتزم بارتدائها، تحاشيا للتمايز عن الجماعة.

إن انصهار عقل الفرد في العقل الجمعي يجعل الإنسان يتحرك بعيدا عن ذاته، سجينا داخل أسوار الخوف.. الخوف من أن يكون منبوذا..مطرودا من مملكة التماثل.

أما أولئك الرافضين للعقلية  السائدة في مجتمع ما والذين يختارون الإنحياز لقناعاتهم  فهم يدفعون غاليا ثمن اتساقهم مع ذواتهم.

 لعل ما لاقاه "ابن رشد" أحد أهم الفلاسفة المسلمين خير دليل على ذلك.

ولد هذا العلامة، نابغة عصره، في قرطبة سنة 1126م ونشأ في بيت علم من بيوت الأندلس. كان السبب في اتهام "ابن رشد" بالكفر والزندقة والخروج عن الملة يتعلق  بردّ فعل متزمت تجاه الفلسفة عامة. هو  لم يرض أن يخضع للعقل الجمعي المسيطر وخاض في سبيل ذلك حربا ضروسا مع أصحاب الفكر والسلطة. كان يقول " الحَسَن ما حَسَّنه العقل، والقبيح ما قبَّحَه العقل". موقفه هذا لم يرض المتلاعبين بعقول العامة

الذين يكتفون من النص بظاهر اللفظ والمعاني الأولى. ذهب "ابن رشد" إلى ما وراء اللفظ من معنى فمال إلى البحث عن المعاني الثواني ليؤكد أن ظاهر الشرع، حين يخالف البرهان والعقل، يجب تأويله حتى يتفق معهما.

تم التنكيل بهذا العلامة فحوصر وطرد من المسجد وأحرقت كتبه.

لقد توهم أعداءه أنهم بهذا يتمكنون من محو أثره لكنهم نسو أن للحق اجنحة تجعله يسمو ويطير حيث الخلود.

كذا كل المتلاعبين، كل الظالمين والمستبدين .. يتوهمون أن ضرباتهم قاضية لكنهم في الحقيقة  يخطئون التقدير ولعل أكثر من يوقعهم في خطأهم هذا هم أولئك الذين لا يبغون من الحياة سوى حماية رؤسهم بدفنها في التراب.

يتناسى كل ظالم أن هناك دائما من لديه القدرة على إنقاذ زهرته الداخلية على حد قول الشاعر..

يتناسى كل ظالم أن لكل قطيع نجمه الهادي.

***

درصاف بندحر - تونس

في المثقف اليوم