مقاربات فنية وحضارية

المرأة الكائن الأسمى.. قراءة في رسومات تحرير علي

81 تحرير علي 1تحرير علي أكاديمي وفنان تشكيلي بصري، يُشاكس المعنى المرسوم للمرأة سلفاً في مُحيط حياتنا المُجتمعي التقليدي، ليكسر نمطية المُعهود السائد في مورثنا الذي لا يرى في المرأة سوى إناء لتفريغ الرغبة الرجولية، أو التعامل معها على أنها إنسان من درجة أدنى..

رسومات تحرير علي تمنح المرأة قيمة جمالية وأخلاقية أكثر تسامياً وتضحية من الرجل.

لم يتعامل تحرير علي في تشكيلاته اللونية مع المرأة مثلما أظهرتها التقاليد على أنها أسيرة لرغبات الرجل وأهوائه ونزوعه المرضي في تحصينها وتقزيم دورها في الحياة التي لا مكان له فيها ولا وجود لولاها.

إلهام التشكيل في رسومات تحرير علي أنثى، مرة تكون الحبيبة، وأخرى تكون الأخت، أو الأم، وهي الأم التي تخط ريشته أفراحها قبل الألم في تنويعاته الحسية واللونية..

الألوان في رسوماته تتراقص ليس كما الطير مذبوحاً من الألم، إنما تتراقص فرحاً وتزدهي تشكيلاتها بحسب روحيته الباحثة في الألم عن الأمل.

لم يتعامل مع الألوان بحُكم صنعته وهو المُتقن لها، بل تعامل معها وفق ما تشي له روحيته الحالمة بغدٍ جديد للمرأة العراقية.

كل من له شغف بسيط في الفن يستطيع كشف مُضمرات لوحات تحرير علي حينما تكون المرأة ثيمته لتوصيل رسالته، فهو الباحث عن تجلياتها في الرسم، وهو الساعي للدفاع عن حضورها الذي يفوق حضور الرجل في الحياة، فهو لا يدعو للتساوي بين الجنسين وتلك دعوات يتبناها فلاسفة وفيلسوفات الأنثوية أو النسوية، بقدر ما هو يسعى للكشف عن تجليات لها في الحياة عبر التشكيل تتجاوز بها حضور الرجل وفاعليته، سواء بكمية الحنان والحُب، أو بحجم ما تحمله من الألم الذي تُضمره ساعة شدَة لتمنحنا حياة أفضل.

81 تحرير علي 2

إن المرأة (الزوجة) أو (الحبيبة) أو (الأخت) وتتويج حضورها في (الإم) إنما هي تتويج لمعنى الأنسنة الحقة التي تُجيد التعبير عنها المرأة لتتجاوز تصنيفاتنا الجنسانية في التمييز والأهلية التي يدعيها الرجل على المرأة تعبيراً لفظياً، ولكنها أحسنت التعبير عنه سلوكاً ومُمارسة.

فمن منَا يستطيع تصور حياته بلا إمرأة، زوجة أو حبيبة، أو أختاً أو بنتاً؟!.

أظن أن المرأة هي من تُعلمنا التضحية والإيثار، والصبر على مضان الحياة وقهرها، فلكم مثال يُحتذى في أمهاتنا وصبرهنَ وجلدهنَ وإيثارهنَ وسهرهُنَ وتضحياتهُنَ بسنين العُمر في أوان الحرب، فلم يشتكينَ من فقدانَ أزواجهنَ أو أولادهنَ من ضنك العيش كثيراً كي لا يجعلنَ الأبناء يشعرون باليُتم والخُذلان!.

تضحيات المرأة العراقية فاقت كل التصورات، فما كان من تحرير علي سوى الحُلم في فضاء التشكيل وترك ريشته تختار الألوان لترسم لنا لوحاتاً حالمةً مثل روحه لتشكيل حياة ترنو النساء فيها والفتيات للجمال فأجاد التعبير وأحسن الصنعة، فكشفت ريشته عن أحلامالنساء التي تكتنزها روحه التوَاقة لرسم خريطة المحبة داخل اللوحة بكل غنجها وأنوثتها، وإن كانت لوحاته تشي بأن تأطيره لها إنما هي من مُقتضيات شروط عرض اللوحة على الجدار، ولكنها ستبقى قيوداً تُقيَد رغباته في كسر نوازع الاقصاء للمرأة في مُجتمعاتنا التي تُخبرنا عنها رسوماته في هيامها بالحُرية وكسر كُل الأطر المُجتمعية المُصطنعة في الموروث السائد عن المرأة.

81 تحرير علي 3

لم يَحترّ تحرير علي كثيراً في تصنيف نفسه سواء أ كان من الفنانين الذين يُمكن أن يُصنفهم النُقَاد على أنهم يُدرجون تحت مُسمى اتجاهات الحداثة أو ما بعدها،.

إن تشكيلاته اللونية ونزوعه التجديدي تجعلني من الذين يجرأون على ادراجه من ضمن تشكيل ما بعد الحداثة، فهو لم يشغل نفسه بمقولات الحداثة في البحث عن إنصاف للمرأة ومساواتها بالرجل، وتلك من مساعي التشكيل والفكر الحداثي، بقدر ما هو يصنع لوحة تحمَلُ في تشكيلاتها اللونية ما ينتصر به للمرأة بوصفها كائن يرسم التكوين الطبيعي للحياة التي فيها المرأة صانعة لمباهجها، وتتحمل مآسيها، وليس على الرجل سوى الترنح والتباهي برجولته الفارغة من الصبر على صعاب الحياة التي كفته المرأة حق التفكير بها وفيها.

81 تحرير علي 4

رغم أن هُناك الكثيرين من الرجال يرتكنون على الدين في الحياء من المرأة، لكن التاريخ والنص المُقدس لا يتحملان ارتكاسية الرؤية وتراجع الفهم لقيمة المرأة بقدر ما يتحمله المُفسرون، ولست هُنا بمعرض الدفاع عن النصوص المُقدسة في دفاعها عن المرأة وقيمتها في الحياة بوصفها مدرسة التربية ومصير الأمم في تقدمها وتراجعها، ولكن يبدو لي أن تحرير علي قد تمكن من تحرير نفسه من التفسيرات المُسبقة للدين التي تمتهن المرأة وتحط من قدرها.

لوحات تحرير علي صرخة انصاف للأنثى (المرأة) لتجاوز تصويرها مُجرد جسد قابل للبيع والشراء في سوق النخاسة الجنسي بوصفها أمة أو جارية أو مُلك يمين.

إن تحرير علي يرسم المرأة بأبهى صورة تتجلى فيها الأنوثة فتُحدثنا عن حكايات شهريار وشهرزاد، وتُحدثنا عن قيس وليلى، وعنتر وعبله، وروميو وجوليت، وعن كل حكايات الحُب العُذري في النظر للأنثى على أنها عامل من عوامل البعث والتجديد للرؤية الحيوية..

لقد تفانى تحرير علي في رسم المرأة، بألوان الطيف وابتكارته خارجه، فالمرأة حانية، والمرأة مُحبة، والمرأة غزالة نرنوا للحاق بها وهي تُسرع الخُطى للصعود في عوالم المحبة كي تكون أيقونة للتوَق والعشق، والمرأة عنده قيثارة سومرية تحملها وفُستانها الأحمر يحمل شفرة التعبير عن شغفها بالحبيب وقيثرتها موسيقى عشق مُعتق سومري صادق، فالمرأة ن أحبت بصدق أجادت العزف على وتر المحبة.

تعامل تحرير علي مع المرأة بوصفها جسداً، فكان لفُستانها الأحمر الأثير في رسوماته دلالة رمزية على أنها أنثى وأنوثتها طيبة تختزن في طبقاتها بركاناً سيثور ويصهر صلادة الصخر التي يدعي الرجل أنه يكتنز صفاتها.

81 تحرير علي 5

الصخر بكل صلادته تنخره مياه الشلالالت والسواقي، بل وتنخره مياه التنقيط بعد حين!، وحُسن النساء إن لم تليق به وصف الشلالات، فهي ببعض مفاتنها يليق بها وصف:

(ناكوط حبَ) عساها ابخت كلمن يكسره.

لقد كسر تحرير علي الحبَ كي يفيض محبةً مثل أنثى الغنج يليق بها فتتكسر على صخرتها كل الآهات..

الصخرة أنثى في تشكيل تحرير علي، فصلادتها تتكسر من فرط التغنج في العشق وفيضها الرامي للمحبة والسلام، فمن لوحات تحرير إمرأة تحط على رأسها حمامة السلام فتستريح. إنها رسالة منه على أن الحرب يتفاخر بها الرجال، وإن كان بعض منها سببها إمرأة، ولكن السلام يليق بالأنثى، فهي حمامة بيضاء يرنو السلام إليها وتهدأ النفوس بُقربها وتستكين.

مرة يُصورها على أنها حمامة ومرة يُشكل الألوان لترسم عصفورة تتهادى على يديها، لتزدهي لوحته بالفرح: إمرأة بتراجي ذهبية، تركبُ قارب النجاة وعلى يديها عصفور بهجته في اللوحة ومُساكنته للأنثى والتغريد على يديها بألوان زرقة وصباح واشراق إنما تُعيدنا لاستنهاض كُل التفسيرات لحضارة سومر وتبنيها للمرأة بوصفها أيقونة للخصب والنماء.

المرأة تعزف شجن الشوق والتوق بلباسها الأحمر وهي يُلامس شفتيها الناي، أي موسيقى هذه تلك التي تعزفها أنوثة الأرض؟ كي تُعيد للأرض صيرورتها وديموتها، لتجد سماء اللوحة شمس وزرقة بهيجة وبيتٌ تُشرق ألوانه وكأن الشمس قد سكنت فيه بلمسة ريشة فنان يمنحنا الألق وسط حياة زاد فيها القلق.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم