اخترنا لكم

الفصل السابع والسبعون .. عصر الانحطاط من إسلام الزوايا إلي إسلام الطالبان

 الحلول محل الدولة في حل مشاكل الناس وممارسة السلطة. لماذا؟

 

لان الدولة كانت ضعيفة جدا أحيانا ولم تعد قادرة علي القيام  بواجباتها بل وأصبحت غائبة تماما عن بعض المناطق ولاوجود لها فيها.

 

وكان ذلك بعد انهيار السلطة المركزية والدخول في عصر الانحطاط. وعلي هذا النحو راح ينتشر التدين المدعو بالشعبي. وراح هذا التدين يغذي المخيال الجماعي للناس. وهو مخيال قابل لتصديق أي شيء وبخاصة المعجزات والحكايات الخارقة للعادة وسير الاولياء الصالحين والقديسين الخ. فالناس كانوا بسطاء مساكين دراويش.

 

ولذا فان هذا المخيال كان جاهزا للاستخدام وقابلا للتلاعب به من قبل مشائخ الطرق بسبب اعتماده علي الثقافة الشفهية لا الكتابية لان الناس ما كانوا يعرفون القراءة والكتابة كما ذكرنا. كانوا في معظمهم أميين. وحدهم المشائخ كانوا يعرفون القراءة والكتابة.

 

كانوا هم مثقفي ذلك الزمان اذا جاز التعبير. ومعلوم ان الحكايات التأسيسية الموجودة بنسخ متعددة تلعب دورا كبيرا في تشكيل كل الذاكرات الجماعية. ونقصد بالحكايات التأسيسية هنا قصص الانبياء والصحابة والائمة وظهور الاسلام وسوي ذلك.

 

كما ونقصد بها مختلف تراثات المذاهب او الفرق الاسلامية المنكفئة علي ذاتها والمتخاصمة في معظم الاحيان. انه إسلام الطوائف والمذاهب، إسلام العصر السكولائي الانحطاطي الاجتراري والتكراري لا إسلام العصر الذهبي الذي أصبح بعيدا وراءنا. وهو الاسلام الذي ساد بعد سقوط بغداد والبويهيين واستلام السلاجقة الاتراك للحكم ثم السلطنة العثمانية بعدئذ.

 

وهذا النوع من "الاسلام" هو الذي أصبح يشكل الأغلبية. بل وأصبح مهيمنا من الناحية السوسيولوجية أي العددية علي كل المجتمعات الاسلامية او المدعوة كذلك بدون أي تدقيق آخر حتي يومنا هذا.

 

وهذا الاسلام السوسيولوجي هو الذي اصطدم به المستشرقون لاول مرة عندما زاروا بلداننا. انه أول ما رأوه ودرسوه ووصفوه بصفتهم علماء في الاتنولوجيا ومؤرخين. نقصد بالاتنولوجيا هنا علم دراسة خصائص الشعوب. لقد درسوه من خلال تلك النظرة النمطية المعروفة للعلم الوضعي الذي ساد القرن التاسع عشر.

 

وهي نظرة استعلائية واحتقارية في الواقع علي الرغم من أهميتها المنهجية والعلمية في البحث والدراسة الموضوعية للظواهر. فلها ايجابياته وسلبياتها. ولكن بما أن الاسلام كان جامدا آنذاك وفقد حيويته التاريخية منذ زمن طويل فانهم اعتقدوا انه كان دائما هكذا وشكلوا عنه صورة سلبية جدا.

 

وعندئذ شاعت الكليشيهات المعروفة عن الاسلام في الغرب: كالانغلاق والتخلف والتواكل والايمان بالخرافات والغيبيات والاستسلام للمكتوب وسوي ذلك. وأصبحت كلمة إسلام في ذهنهم مرادفة لكلمة الجهل والتعصب. ونسوا أن الاسلام كان غير ذلك في عصره الذهبي.

 

 وينبغي العلم بان تجليات الاسلام منذ عام 1950 وحتي اليوم ليست إلا عبارة عن توسعات أسطورية ايديولوجية وتاريخية بشكل أقل أكثر فاكثر عن الاسلام الطرقي الصوفي بكل أنواعه. انه الاسلام المفتقر فكريا الي أقصي الحدود والمنقطع كليا عن المناقشات الفلسفية واللاهوتية الكبري التي سادت في العصور العباسية والبويهية الاولي المبدعة.

 

 هذا هو الاسلام الذي ورثناه او فتحنا أعيننا عليه لاول مرة. انه ليس اسلام الجاحظ والتوحيدي ومسكويه والمعتزلة والفلاسفة والادباء والشعراء الكبار. ثم جاءت حروب التحرير الوطنية وراحت تدين في خطاباتها شعوذات الاسلام المرابطي وخرافاته وشعبويته.

 

ثم أدانته بعنف ايضا لانه تعاون مع النظام الاستعماري او استخدم كأداة من قبله. ولكن مفارقات التاريخ شاءت ان يعود الي الواجهة من جديد وان يستعيد مكانته واحترامه بدءا من سنة 1980 وما تلاها. لقد أعادته نفس أنظمة جبهة التحرير الوطني التي كانت قد أدانته في البداية فور استلام الحكم بعد رحيل الاستعمار. لماذا أعادوه الي الواجهة؟ لكي يحاربوا به الاسلام الاصولي الصاعد الذي أصبح يهدد الانظمة الحاكمة.

 

والواقع أن الفشل السياسي والاجتماعي والاقتصادي للأنظمة التي استلمت الحكم بعد الاستقلال  أجبرت هؤلاء الذين أرادوا استئصال إسلام الزوايا الصوفية الطرقية بتهمة التعاون مع الاستعمار الي اعادة الاعتبار إليه من جديد. لقد راحوا يستخدمونه هم بدورهم كأداة لمواجهة المد الزاحف للاصولية الراديكالية والشعبوية المتزمتة للطالبان وأشكالهم.

 

 ومعلوم ان هؤلاء راحوا ينفصلون كليا عن الفتوحات الايجابية للفكر الإسلامي الكلاسيكي المبدع عن طريق إحلال الموضوعات التبجيلية والشعارات الايديولوجية محلها. ثم عن طريق التركيز علي الفعالية السياسية للاسلام الاصلي الصافي المطهر من كل التأثيرات الخارجية كما يزعمون. وهذا ما يدعي عموما بالدين العتيق.

 

وبالتالي فلاعلاقة لاسلام الطالبان او سواهم من الحركات الظلامية الحالية بالفكر الإسلامي الكلاسيكي إبان عصره الذهبي الخلاق.

بقلم : محمد أركون ( كاتب ومفكر جزائري )

الراية القطرية

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1106  الاحد  12/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم