حوارات عامة

السماوي يحلم بعراق يخلو من المحتل والتكفيريين واللصوص الجدد ..

samawiالشعر العراقي ينز حزناً واحتراقاً ولهفة وعطشا، انه شعر تنضوي تحت عباءته الاف الآهات التي تئنّ وتحنّ الى مرفأ وجود يكتنفه السراب، الشعراء العراقيون احترفوا التشرد على أرصفة الغربة، وذاقوا مواجعها، وتلمسوا عتمة طرقاتها، فكان صوتهم مختلفاً، وسمات وجوههم مختلفة، وحناجرهم مبحوحة ومجروحة كصوت ناي شجي في ليلة مقمرة على ضفتي دجلة والفرات.

شعراء العراق أيتام وجودٍ يبحثون منذ جلجامش عن خلود طارئ وحياة مصادرة، كلهم هكذا، من بدر شاكر السياب الى سعدي يوسف مرورا بالجواهري والبياتي والحيدري والعزاوي والنواب.

يحيى السماوي أحد هؤلاء الشعراء الذين دوخهم الشعر ووقعوا صرعى في دروبه الموحشة، ومنذ ديوانه «عيناك دنيا» الذي نشر عام 1970 الى ديوان «نقوش على جذع نخلة» الفائز بجائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، مايزال يئنّ تحت وطأة جراح عراقية أبلغ من أية  لغة، ومعه كان لنا هذا الحوار:

? من أنت ؟ ومتى حللت ضيفا على هذه الأرض ؟

? أنا ابن أم ٍ قروية ٍ وأب كان يبيع البرتقال على أرصفة المدينة.. طردتني أمي من رحمها ظهيرة يوم السادس عشر من شهر اذار عام 1949 لأطلق أول صرخة احتجاج، ومن ثم لتتوالى هذه الصرخات حتى اللحظة انتصارا للحق والجمال في حربهما العادلة ضد القبح والظلم بأشكالهما المختلفة: الديكتاتورية.. الضغينة.. الاحتلال.. الطائفية.. فتاوى التكفير .. خنق الحريات الشخصية .. سكاكين المحاصصة في اقتسام بقايا فتات السلطة، التماسيح من اللصوص الجدد،  وكل ما من شأنه تشويه الحياة.

? ما الذي قاد الشعر اليك، أو قادك الى الشعر؟

? المصادفة وربما المشاكسة البريئة لصبية حسناء.. وربما هما الاثنان معا..فالمصادفة حدثت حين طلب منا مدرس اللغة العربية «الأستاذ شمخي جبر» كتابة موضوع في درس الانشاء والتعبير عنوانه كان بيت شعر النابغة الذبياني:

لا مرحباً بغد ٍ ولا أهلاً به

انْ كان تفريق الأحبة في غد ِ

فوجدتني أمضي الليل وأنا أحلب ضرع الكلمات، حتى اذا أصبحت، كنت قد ملأت صحن الورقة بنحو ثمانية أو تسعة أبيات أخرى ساذجة لكنها كانت سليمة الوزن والنحو (هذا ما قاله المدرس حين قرأت أمام الطلاب ما كتبته وكنت انذاك في الصف الثاني المتوسط).. يومها أعطاني المدرس درجة كاملة، ومن ثم أهداني ديوان الرصافي وكتاب النظرات لمصطفى لطفي المنفلوطي.... لكن أبياتي هذه عرف بأمرها (خالي رسول) رحمه الله «فأهداني»  عدة صفعات ورفسات وهو يحاول معرفة البنت التي تغزلت بها ظناً منه أنها إبنة جيراننا، وبالتالي فإن التغزل بابنة الجيران مثلمة للشرف ... لم تشفع لي دموعي، ولا ارتجاف مفاصلي خوفا ً من يده الثخينة وأنا أعوي مثل جرو صغير!

وأما المشاكسة البريئة، فهي أنني ـ  وقد خـُيِّـل لي أنني شاعرـ  فقد كتبت عدة  قصائد قصيرة ساذجة أيضا عن طالبة حسناء في ثانوية البنات، كنت أبكـِّر في الخروج  من البيت الى المدرسة لكنني لا أدخل المدرسة إلآ  بعد أن تكون هي قد دخلت مدرستها وأسْمَعتها شيئاً مما توهّمتـُهُ شعرا. ومن حسن حظي أنها كانت تستحسن ما أكتب وتعتبره شعرا (لعلها كانت ساذجة مثلي أيضا) .. جزى الله تلك الحسناء خيرا، فقد حملتني على كتابة الكثير من القصائد لكنها كانت السبب في تقريعي الدائم من المدرسين، بسبب تأخري عن دخول الصف أسوة بالطلاب الاخرين نتيجة انتظاري الطويل لها وأنا أقف مثل شرطي المرور على مقربة من بيتها البعيد عن مدرستي ولم أكن أملك دراجة هوائية مثل بعض الطلاب من ذوي النعمة ..

? وبعد؟ ما ذكرياتك عن تلك المرحلة؟

?  كبر الصبي الذي كنته، فصار فتىً ... وبات معروفا في مدينته كشاعـر وخصوصا بعد فوزه بجائزة الخطابة والإلقاء ـ وربما كنت الطالب الوحيد الذي كان يقرأ ما يكتبه هو وليس مايكتبه له مدرس اللغة العربية ـ .. فطبع أول ديوان شعر وهو في المرحلة الثانوية من دراسته.. وكان قبل ذلك قد نشر الكثير من القصائد في صحف بغداد مثل صحف «كل شيء» «أبناء النور» «الشعب» «الراصد» وصحف أخرى لا أتذكرها... ثم انتمى الى «اتحاد الطلبة» المحظور، ونال أول صفعة من شرطة الأمن، وعرف  التحقيقات الأمنية لأول مرة (كان أفراد شرطة الأمن في ذلك الزمن طيبين يكتفون ببضع صفعات أو الضرب غير المبرح بالعصا وأحيانا بالتهديد فقط)، فرحل الى مدينة الديوانية ليكمل دراسته في ثانوية التحرير...  في الديوانية بدأ ت فسيلتي الشعرية بالنماء، حيث  أولاني مدرس اللغة العربية الأستاذ  حاكم مالك الزيادي  اهتمامه وكان لي أصحاب وزملاء وأصدقاء رائعون أثرياء بفقرهم الجميل يكتبون الشعر ويعقدون اللقاءات في مقاهي المدينة لقراءات نتاجاتهم أو مناقشة ما قرأوا من كتب، أمثال الأصدقاء رحيم صالح وزعيم الطائي وعذاب الركابي وكامل سرمك وجبار سمير وعلي الشباني وسعدي السماوي وكزار حنتوش ... وفي  الديوانية  صرت قريبا من مدينة كربلاء حيث سأطرق باب دار الشاعر الكبير محمد علي الخفاجي لأعقد على يديه قِران تلمذتي فتعهّدني برعايته ووجدت فيه الأخ الكبير والصديق والأستاذ معا ً ولولاه لبقيت فسيلتي  يابسة كقرون الوعل .

في تلك المرحلة وما أعقبها من سنوات قليلة، سيبدأ هذا الفتى الذي صِرته أولى صداقاته الثرية مع المكتبة ليغدو كما لو أنه جزء من أثاثها... وسيلتقي أصدقاءه الرائعين الذين كانوا أثقف شباب السماوة.. كانوا يكتبون الشعر ويرسمون اللوحات الفنية ويقرأون المنشورات السرية ويشتمون حزب البعث ويطلقون النكات على ميشيل عفلق .. يُلقـِّبون صدام حسين بـ «طحيور» وأحمد حسن البكر بـ «أبوالهوايش» وحزب البعث  بـ«حزب البعـر»... هؤلاء الأصدقاء الرائعون كانوا أثقف مني  وحالتهم المعيشية أفضل مني.. لهم مكتباتهم الخاصة وأحلامهم الرومانسية بإقامة مملكة الشعر... منهم «يحيى صاحب»، «عباس حويجي»، « محمد جسوم الليثي»، «صادق صاحب»، «ناظم السماوي» (الله لا ينطي ناظم السماوي...  تحمّلت بسببه طنـّا ً كاملا من الجلاليق والراشديات بمعاونية أمن السماوة حين زرته في بيت شقيقه  وقرأنا قصائدنا الجديدة ولم أكن أعرف أنه كان مُراقـَباً من قبل شرطة الأمن منذ خروجه من سجن نقرة السلمان) وغيرهم مثل أحمد سعيد وابراهيم خضير الخياط .. كنا نتبادل الكتب ونقيم ما بيننا حلقات النقاش والنقد الأدبي.. وطبعا كان لابدّ من ختام أي لقاء بيننا، بشتم «طحيور» و«حزب البعر» و: «أبو الهوايش» حتى لو كانت تـلـك الـلقاءات لـتناول «العسل المرّ» و«السمك المسقوف والقزالقرط » في بحيرة «ساوة» .. ثم كانت الذكريات الأكثر فرحاً ووجعاً وعذاباً حين عملت في مهنة التدريس في مدينة السماوة حيث سألتقي أعذب الأصدقاء منهم «سليم الشيخلي» و«عبدالله فليفل» و«حسن عبود» و«ستار الشيخ» و«عادل البغدادي وعلي شريف » وها أنا :  فارقتك في مقتبل الوجع الصوفي قبل أكثر من ثلاثين عاما، لألتقيك وقد بلغنا من الغربة عِـتِيـّـا.

? وماذا عن الغربة؟

? ثمة مصادفة... فقد طردتني أمي من رحمها في اذار... وفي شهر اذار من عام 1991 طردني الخوف من رحم وطني... فقد كنت من بين أول المشاركين في الانتفاضة الجماهيرية المسلحة... كنت مشاركا بالبندقية قبل القلم كخطيب... وكدت أستشهد خلالها... وحين فشلت الانتفاضة اضطررت للهرب من العراق.. لجأت الى منطقة سفوان.. ومن ثم الى معسكر رفحاء في السعودية لأقيم فيه نحو أسبوعين لأغادره الى مدينة «جدة» محررا سياسيا وثقافيا في اذاعة «صوت الشعب العراقي» المعارضة لنظام صدام حسين.. على مدى نحو ست سنوات أعددت عشرات البرامج السياسية ونشرت في الصحافة مئات المقالات من بينها مقالات تتضمن وثائق عن المقابر الجماعية كنت قد حصلت عليها عندما استحوذنا على مقر مديرية أمن المثنى ومقر فرع المثنى لحزب البعث خلال الانتفاضة الجماهيرية... خلال وجودي في جدة نشرت سبع مجموعات شعرية وأقمت عشرات الأمسيات في النوادي الأدبية وشاركت في عدد من المهرجانات الثقافية العربية. ومن المصادفات أيضا، أنني هاجرت لاجئا الى استراليا في شهر "آذار"  من عام 1997حيث أقيم حاليا بانتظار أن يُردَم مستنقع المحاصصة الطائفية، ويتحرر العراق من الاحتلال الأمريكي لأطوي خيمة غربتي فأقيم في وطني الذي لا أملك فيه غير بضعة أمتار من أرض مقبرة عائلية بعدما سرقني صديق كنت قد استودعته بيتا وبستانا و«مكتبتي الضخمة» في السماوة فباع كل ما أملك  حين عـرف أن عودتي الى العراق في ظل النظام الديكتاتوري المقبور، تعني تأرجحي من حبل مشنقة ٍ تنفيذا لحكم اعدام غيابي بُلـِّغ به أشقائي الذين تحملوا تبعات موقفي من النظام...  الأنكى من ذلك أن ابن هذا اللص قد سرق مخطوطة ديوانٍ  كنت أخفيته ضمن مكتبتي فإذا به  ينتحل قصائدي ويقرأها  بين الآخرين على أنها من شعره مع أنه لا يعرف الفرق بين ميزان حمودي البقال وميزان الفراهيدي ولا بين الشعر والشعير ..

? وكيف تقضي أوقات فراغك في مغتربك؟

? باستحضار «السماوة» الى «أديلايد» عبر فضاء الأخيلة... وبمصِّ دمي وأنا أتشظى شوقاً الى غد ٍ يكون فيه العراق خيمة محبة تخلو من الظلاميين والتكفيريين والارهابيين، ومن الدبابات متعددة الجنسية واللصوص الجدد الذين لهم طبع التماسيح يسرقون أكثر مما تتحمله خزائن بيوتهم، ففتحوا حسابات سرية في الخارج... وليت لهم طبع العصافير التي تسرق من البيدر على قدر احتياج الحوصلة..

من حسن حظي  ـ وهو سيئ في الغالب ـ  أن في استراليا شعراء وأدباء عراقيين وعربا مبدعين حقا أتـواصل معهم عبر لقاءات ٍ وزيارات أو مهاتفة ً أو قراءة ً .. من بين الذين أحرص على قراءة نتاجاتهم مثلا خالد الحلي وحسن النواب ومكي الربيعي  وأفضل فاضل وجمال غمبار وكريم الثوري ومصطفى المهاجر وسلام دواي وشوقي مسلماني وأنطوان القزي ووديع سعادة وحسن ناصر حسين وجمال حافظ واعي وفاضل الخياط ودينا سليم وجهاد الأطرش ووديع شامخ ونجاة منسي وسوسن السوداني ونوال الغانم. كما ألتقي أصدقاء رائعين لهم دفء خبز  مساءات السماوة ونقاء ندى صباحات  ربيعها  كصديقنا  المشترك الأستاذ جبار عبد جاسم  وحمودي الدايني وطارق الحارس والسيد كاظم الموسوي والشاعر الأسترالي روب ووكر والشاعر التشيلي خوان ريكادو (وجميعهم من الجنس الخشن والعياذ بالله) . . 

? ما الشعر بالنسبة لك؟

? هو المرض الوحيد الذي أسأل الله عدم الشفاء منه لأنه المرض الوحيد الذي يمنح روحي العافية ..

 

? وما الوطن؟

? هو الناس والأرض معا... لا يكون الوطن وطنا إلآ  بوجود المواطنين... ولا يمكن للمواطنين أن يكونوا مواطنين من دون الوطن... هما ضفتان لنهر واحد  فلا ثمة نهر بضفة واحدة.. انهما متحدان ببعضهما اتحاد العطر بالوردة والجفن بالأهداب .. كل منهما مبرر لوجود الاخر.. لذا أرى أن العراق لن يكون وطناً حقيقيا ما لم يكن خيمة محبة للجميع وليس مسلخاً طائفيا أو مِكـَبَّـاً لنفايات الإرهاب أو مرعىً لخنازير البنتاغون أو مجموعة «مواعين وصحون وشوكات وملاعق وسكاكين» على مائدة المحاصصة .

? تتسيد القصة المشهد الأدبي... هل تعتقـد أن شـمس الشعـر الى أفول؟

? القصة ضرب من ضروب النثر.. فم الأدب يتكون من شفتين اثنتين: شفة النثر وشفة الشعر.. فهما توأمان  خرجا معا من رحم الإبداع الانساني.. كلاهما يستفيد من الاخر.. يكمل الاخر ولا يلغيه.. ثمة مواضيع لا تستطيع القصيدة الإلمام بها أو التعبير عنها، فتكون القصة أكثر جدارة في التعبير عنها.. وثمة مواضيع أخرى يكون الشعر أكثر نجاحا من القصة في التعبير عنها... أنا لا أستطيع رسم تفاصيل ومآسي السنوات الثماني في حرب صدام على إيران أو خطيئته باحتلال الكويت وما تبعها من انعكاسات سلبية على العراق  في قصيدة... ولا ثمة قصيدة يمكن أن تتسع للجرائم البشعة التي ارتكبها جيش الإحتلال الأمريكي في العراق ..  لكن القصة أو الرواية تستطيع ذلك... والقصة قد لا تنجح مثل القصيدة في رسم ذلك الخدر الأسطوري لعاشق قطف من حديقة ثغر حبيبته أول وردة قبلة..  والأم لاتستطيع هدهدة طفلها في حضنها أو في مهده بتلاوة رواية أو قصة لكنها تستطيع ذلك بترنيم قصيدة ..

? الواقع والثقافة: هل تراهما مختلفين؟ أم متفقين؟

? من المفارقات أن أمة» إقرأ» هي من بين أقلّ الأمم قراءة.. نحن يا صديقي نثرثر أكثر مما نقرأ.. ونغفو أكثر مما نفكر .. ونأمل أكثر مما نتأمّل ..  ونطبع كتبا أقل الاف المرات من عدد «العرقجينات» التي نستوردها من بنغلادش .. واذا طبعنا، فكـتـب الطبخ والأزياء هي الأوفـر حظا في الـبـيع ولا عـجـب ما دام أن «هيفاء وهبي» أكثر شهرة في أمتنا العربية من «أحمد شوقي والجواهري والمتنبي وأبي تمام معاً.. واذا لم تصدقني فاسأل عشرة شبان من شبّان أمتنا العربية عن «البحتري» و«نانسي عجرم» ... أجزم أن مالا يقلّ عن سبعة من هؤلاء الشبان سيعرفون اخر أغنية لنانسي عجرم، وقد يظن خمسة منهم أن» البحتري» هو أكلة شعبية أو نوع من أنواع السمك البحري.. 

? هل توقعت فوز ديوانك «نقوش على جذع نخلة» بجائزة البابطين لأفضل ديوان شعر؟

? أصدقك القول يا صديقي: لو كنت يائسا من الفوز، لما جازفت بدفع أربعين دولارا قيمة فاتورة البريد عن ارسال خمس نسخ من الديوان للجنة الجائزة... لقد سبق لي وحزت جائزة الشعر في كلية الاداب وعلى مدى أربع سنوات متتالية خلال دراستي الجامعية.. وحزت جائزة دار المنهل لأحسن قصيدة عام 1991 وجائزة نادي المدينة الأدبي لأحسن قصيدة عام 1992ومن ثم جائزة أفضل ديوان شعر في الملتقى الثقافي العربي في أبها عام 1992 عن ديواني «قلبي على وطني» ..   وحزت عام 1998 جائزة مؤسسة ابن تركي للابداع الشعري برعاية جامعة الدول العربية عن ديواني «هذه خيمتي.. فأين الوطن»..

الحق أقول: انني كنت أتوقع الفوز وليس اليقين من الفوز بها... مجرد توقع فحسب.. جائزة البابطين يا صديقي احدى أهم الجوائز العربية للإبداع ويكفي أن الذين هنأوني بفوزي بها ومن بلدان عديدة أكثر عشرات المرات من عدد الذين قدموا لي التهنئة بزواجي (أسأل الله ألآ  تقرأ زوجتي هذه الفقرة وإنْ كان فرحها بفوزي كبيرا ـ ربما كان سبب فرحها أنني وعدتها  في حينه أن أشتري لها سيارة حديثة بمبلغ الجائزة ـ .. أما اذا حدث وقرأت هذه الفقرة، فسأزعم أن صديقي الشاعر القاص سليم الشيخلي هو الذي وضع الجواب من عنده استكمالا لمشاكساته القديمة في مدينة السماوة حين كان يلجأ الى تدبير المقالب بعد كل هزّة يهزه بها مدير التربية أو شرطة أمن المثنى) .

? يبدو أن هناك انحسارا للشعر.. هل هو ربيع القصة؟

? هو ربيع القصة.. لكنه ليس خريف الشعر.. العصر الراهن عصر قصّ ٍ نظرا للواقع العربي المتخم فجائعية واحباطاً في ظل ما يجوز لي تسميته بـ «عصر الردة الدولية وعولمة الجريمة » و«أمركة الكرة الأرضية»  .. ولأن مساحة القصيدة أصغر من أن تستوعب تفاصيل هذا الواقع الكارثي فقد أنابت القصة عنه في تسجيله... خاصة وأنّ القصيدة العربية تفتقر الى شعراء ملحميين كهوميروس أو فيرجيل والفردوسي ..

? كيف ترى المشهد الشعري العربي الان؟

? أراه مريضا لأن الواقع العربي مريض.. يتعافى الشعر حين تتعافى الأمة.. الشعر انعكاس للواقع القائم أو المتخيّل.. وإلآ  ما تفسيرنا لعظمة وقوة الشعر في العصر العباسي الثاني، وانحطاطه في عصر ما أسماه مؤرخو الأدب «عصر الفترة المظلمة»؟ ثمة سبب اخر أسهم في نكوص القصيدة العربية في المرحلة الراهنة.. هو: كثرة الطارئين على الشعر الذين أتاحت لهم الشبكة العنكبوتية فرصة نشر هذيانهم وثرثرتهم التي توهّموها شعرا.. تصفحْ المواقع وستجد الكمّ الهائل من هذا الغثّ تحت مسمى الشعر لمتشاعرين ينصبون المضاف اليه ويرفعون المفعول به في كتابات لا تعدو كونها هلوسة وبخاصة الكتابات التي يزعم أصحابها أنها قصائد نثرية وما هي من الشعر بشيء... تصوّر أن أحدهم نشر صفحات يصل طولها بضعة أشبار  محتواها «حكي» يخلو من البلاغة والبيان والخيال والموسيقى الداخلية.. «حكي» على غرار: «قلت للبحر أنت واسع فقالت لي الموجة أنت دمعتك لامعة وكانت الحورية تضحك وهي تأكل ساندويشة من نبات السمك » .. هل هذا شعر؟ أم أنّ كاتبه بحاجة لمراجعة طبيب نفسي؟.. لم أنقل النص حرفيا خشية الظن أنني أنتقد هذيانه... فالنص الحرفي كان أكثر ركاكة والله... نص مليء بجمل مثل « قلت لها.. قالت لي..غفونا واقفين على رؤوسنا تغطينا أشجار جنة الجحيم .. » وجمل عديدة أخرى لا تختلف عما يكتبه «كتاب العرائض» وطلبة المدارس المتوسطة في درس الانشاء والتعبير.. مثل هؤلاء قد أسهموا في افساد الذائقة الشعرية وليس في نكوص الشعر فحسب.

? هل أفهم من ذلك أنك ضد قصيدة النثر؟

? لا قطعا... أنا من عشاق قصيدة النثر التي تستوفي شروطها.. بل وأكتب النص النثري  ولي فيه ثلاث مجموعات هي «جرح باتساع الوطن» و«مسبحة من خرزالكلمات و شاهدة قبر من رخام الكلمات وثمة رابعة معدة للطبع اسمها مناديل من حرير الكلمات » تعمدت أن أضع تحت العنوان على الغلاف جملة «نصوص نثرية» .. فأنا لا أخجل من نثري... ثمة نثر أجمل من الشعر... ليس بالشعر وحده يخلد النص... الجاحظ لم يكن شاعرا لكنه بقي وشما منقوشا في ذاكرة الخلود الأدبي وقد حجبت شجرته الإبداعية مئات الشعراء الذين نسيهم التاريخ الأدبي مع أنهم كانوا من بين مجايليه... حبي لقصيدة النثر جعلني أنصب فخاخي لاصطياد قصائد محمد الماغوط وأدونيس وسركون بولص ووديع سعادة وعباس بيضون وسيف الرحبي وهادي الناصر وفائز الحداد وناهض الخياط وجواد الحطاب وعدنان الصائغ ةغيرهم ... هؤلاء أحرص على قراءة شعرهم أكثر من حرصي على قراءة ألف شاعر من شعراء القصيدة العمودية ( طبعا لا أقصد شعراء القصيدة العمودية المذهلين كمحمد البغدادي وحسين القاصد ومثلائهما من المجددين في البنية الفنية للقصيدة العمودية )... شروط الشعر ليست الوزن والقافية.. ولو كان الأمر كذلك لاعتبر النقاد ودارسو الأدب «ألفية ابن مالك» أو«الاجرومية» شعرا..

? متى تكتب القصيدة؟

? الشعر كالمرض أو الأحلام: يأتي دون موعد مسبق.. فهو حصان عصيّ الترويض... كرامته واعتداده بنفسه تجعله يأبى الإنقياد لمشيئة الفارس... فهو الذي يحدد وقت ومكان المضمار بل ونوع العدو خبباً أو سريعا.. طويلا أو قصيرا.. وافرا أو هزجا.. هذا الحصان الكريم هو الذي يقود الفارس واذا حاول الفارس إرغامه على العدو، فإنه سيرمي به من على سرجه وقد يرفسه  فيطيح به من على ظهره ممرّغا بسخرية الذائقة الأدبية، وهذا ما يفسّر الكثير من القصائد الرديئة التي كتبها أصحابها حين شاؤوا هم وليس حين شاء الشعر ..  الشاعر الذي يزعم أنه يكتب الشعر وقت يشاء هو ليس بشاعر ... والذي يزعم أن لكتابة الشعر عنده طقوسا  معينة هو كاذب أيضا  (أو هذا على الأقل بالنسبة لي شخصيا ... فلا طقوس معينة لكتابة القصيدة عندي ... يحدث أحيانا أن أجلس في حديقة بيتي أو في منتجع باذخ الجمال وأنا أمدّ  صحن ورقتي مستجديا ً الشعر أن يتصدّق عليّ ولو ببيت واحد  فيأبى ـ بينما يفاجئني أحيانا وأنا أقود سيارتي أو متدثرا بالأغطية منتصف الليل ... بل لقد كتبت إحدى أجمل قصائدي الغزلية  حين كنت موقوفا بضع ليال ٍ في مرحاض مهجور في مديرية أمن بلدة السماوة ...

? أين تضع نفسك في خارطة الأجيال الشعرية؟

? لا أضعها في أيّ مكان منها.. ولسبب جوهري هو أن هذه الخارطة غير موجودة أساساً أو لأنني لا أؤمن بوجودها.. هل يمكنك وضع الجواهري ضمن جيل الأربعينيات أو السبعينيات وهو الذي استمر عطاؤه حتى أواخر جيل التسعينيات وسيبقى حاضرا  ماعاش الشعر ؟ وماذا عن المتنبي والبحتري وأبي تمام الذين لازالوا حاضرين في عصرنا الراهن وسيبقون ما بقي الشعر؟

? وماذا عن «الأدب الفحولي» و«الأدب الأنثوي» ؟ أقصد تقسيم الأدب الى أدب رجالي وأدب نسوي؟ فقد بدأنا نسمع مصطلحات فضفاضة مثل الشعر النسوي والقصة النسوية والأدب الذكوري..

? لنشطب على هذه المصطلحات.. كفانا ما فينا من تجزئة... لقد قسّم الاستعمار أمتنا الى أرخبيل دويلات هشة.. وقسّمونا الى «مشرق عربي» و«مغرب عربي» .. وفي العراق قسّمونا الى» شيعة وسنة» و«عرب وأكراد» وما الى ذلك من تسميات تمزّق الكيان الواحد المتحد..

دمع المرأة لا يختلف عن دمع الرجل.. وكرامتها لا تختلف عن كرامته.. وليس ثمة فارق بين دم المرأة المُـسال من جرحها عن دم الرجل المسال من جرحه... أحلامهما واحدة ومصيرهما واحد.. ينهلان من نهر واحد ويحدّقان في فضاء أمنيات واحدة... هما الطرفان الوحيدان اللذان  تتشكل منهما المعادلة الانسانية.. لذا أنا أؤمن بوجود أدب ٍ إنساني وليس بأدب ذكوري وآخر أنثوي ... لو دققنا في مضامين قصائد ونصوص شاعرات وأديبات  مثل نازك الملائكة ولميعة عباس عمارة ووفاء عبد الرزاق وفليحة حسن ورسمية محيبس وسمرقند وصبيحة شبر وخلود المطلبي وسوسن السوداني  ـ كمثال وليس حصرا ـ فإننا سنجد فيها معاناة الإنسان لمجرد كونه إنسانا  بمعزل عن جنسه ... والأمر نفسه بالنسبة لقصائد هادي الناصر وحسين القاصد وسعدي عبد الكريم وفاروق طوزو وعبد الكريم كاصد ومحمد علي الخفاجي وأحمد مطر وحميد الخاقاني كاظم الحجاج وتوفيق محمد  وفائز الحداد وسلام كاظم وكزار حنتوش وبقية قبيلة الإبداع من أحفاد كلكامش .

? لقد أصدرت سبع  عشرة مجموعة شعرية وكتابا واحدا في النقد والبحث الأدبي .. فهل أنصفك النقاد؟

? أظن ذلك... فقد كتب عني كبار النقاد في الوطن العربي، وتناولت تجربتي المتواضعة بحوث ودراسات جامعية اكاديمية لنيل درجة الماجستير... ثمة أمر مهم وهو : إن تجربتي الشعرية مازالت في طور التكوين ولم تكتمل بعد ، وستكتمل حين أغفو إغفاءتي الأخيرة، وعند ذلك   تكون رحلتي قد وصلت نهايتها وأُغلِقَ سطرُ حياتي بنقطة الختام ـ حينها يمكن أن يقول النقد كلمته الأخيرة .

? كنت قد أدنت خطيئة الديكتاتور المقبور صدام حسين باحتلاله دولة الكويت الشقيقة... فما الذي تقوله للشعب الكويتي الان؟

? أقول له: نحن كنا ضحية جلاد واحد لم يجدْ مَنْ يؤويه سوى حفرة تشبه «السبتـتـنـك» فانتهى به المطاف الى بئس المصير... رحل الجلاد تحفّ به اللعنات.. وبقي المجلود وقد تعافى أو يكاد.. فلكم تهنئة صادقة بحجم نخيل العراق وسهوبه وجباله ووديانه مع الأمل بأن تضعوا حدّا لمسألة التعويضات التي أنهكت جياع العراق ومعوزيه المنهكين أساسا بفعل سياسة صدام ومن ثم بفعل الحيتان  من اللصوص الجدد .. لا أقسى من أن تقول للجائع جُعْ وللعريان ِ تعرَّ .. الشعب العراقي كان ضدّ خطيئة صدام في احتلال الكويت فلا تحمّلوه عِقاب جريمة لم يرتكبها إنما هو كان أساسا أحد ضحاياها ..  مع التمنيات لكم ولنا بغد أبهى ... وأن تكون أرغفتكم وأرغفتنا أكبر من الصحن، والصحن أكثر سعة من المائدة..

? أخيرا: هل من جديد؟

? ثمة رغيفان ورقيّان جديدان بدأت تهيئة أحدهما للذهاب به إلى تنور المطبعة الشهر القادم، لأردفه بالثاني بعد شهور قليلة .

                                    

أجرى الحوار : سليم الشيخلي

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1506 السبت 04/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم