حوارات عامة
الذاكرة واسترجاع التاريخ في مدينة الناصرية .. حسن علي خلف مؤرخا
ينهل من معينه الذي لا ينضب ويتصفح في أوراق صفائحه الصفر، ينشغل في دوامة البحث العميق في أغوار لايمكن التأكد منها إلا بالصبر والتأمل وكشف الحقائق عن طريق الدرس والتقصي والمتابعة، وهذا ما يفعله الأستاذ الباحث والأكاديمي والناقد حسن علي خلف وهو يدرس تاريخ مدينته الناصرية التي أنجبته ليكون لها ابنا وفيا يبحث في أعماق تاريخها ليعيد إليها جذوة الحياة ونضارة التألق من جديد .
حسن علي خلف باحث تاريخي ونسابة مشهود له باتخاذه من أوراق التاريخ التي يحتفظ في أصولها كأدلة صادقة للبحث عن أنساب العرب والعشائر وردهم إلى أصولهم عبر وثائق يمتلكها ويحرص على المحافظة عليها لإثبات الحقائق، لذا فأن أغلب شيوخ ورؤساء العشائر في المنطقة يلجأون إليه في أية حالة من حالات الاختلاف حول الأنساب .
حسن علي خلف أجتهد كثيرا وتواصل مع الناصرية طويلا وبحث عن أصولها وتاريخها ووثقه في كتاب متكامل في جزئيين وهو (المفصل في تاريخ الناصرية) إضافة إلى عدد من المؤلفات الأخرى منها (الأهوار، غرفة تجارة الناصرية والجود والأجواد في ديرة المنتفق) حول حكاية الأنساب وكتاب المفصل لنا وقفة للتأمل والحديث مع الأستاذ حسن علي خلف فأهلا وسهلا به .
- أهلا وسهلا بك أستاذ زيدان .
* ما حكايتك مع الأنساب وكيف توصلت إلى هذه الدرجة من المعرفة بها، حتى أصبح لك شأنا بين رجالات العشائر في المنطقة للاحتكام إليك حول الأمور التي يصعب التأكد من صحتها؟
- اهتمامي في الأنساب جاء منذ بداياتي الثقافية الأولى وقد ورثته عن والدي ثم طورته أكاديميا بالبحث والتقصي وجمع المصادر والمراجع وأحيانا البحث عنها والسفر إلى من يمتلكها خارج المحافظة لكي تستكمل الصورة واضحة، سيما وأنا لا أطمئن كثيرا إلى رأي واحد لذا فأني أجمع عدة أراء للاقتراب من الحقيقة في النسب، حتى وصلت إلى ما أنا عليه الآن.
* شجرة الأنساب التي يتخذها أكثر شيوخ العشائر مصدرا لأحقيتهم في المشيخة ويعلقونها في دواوينهم، ما مدى صحة التسلسل الهرمي لهذه الأشجار، علما أن أغلبها تنتهي إلى الرسول محمد (ص ) أو إلى آل بيته - لم تكن كل المشجرات دقيقة سواء في تسلسلها أو في انتمائها بسبب اختلاط المجتمع البدوي بالمجتمع النهري في الناصرية وغيرها من المدن الأخرى، وهذا الاختلاط ما زال مستمرا حتى يومنا هذا، وأغلب المشجرات التي أشرت إليها لم تكن من توثيقنا، وإنما نحن نبحث بحثا تاريخيا دقيقا لنقرب التائه إلى ما يبحث عنه تقريبا وليس بشكل مطلق كما يتصور الآخرون .
•هل أنت متأكد بأن المصادر التاريخية التي تعتمدها في تثبيت أنساب الأشخاص والعشائر هي صحيحة جدا، بحيث انك عندما تؤكد صحة النسب للأشخاص تكون قد أعطيتهم حقهم فعلا ولم تظلم أحدا أو تعطي لأحد آخر منزلة لا يستحقها؟
- لم يكن هنالك شيء مطلق بل إن جميع الحالات نسبية كما تعلمون، ونحن كما قلت لك لسنا كغيرنا من النسابين كوننا نعتمد البحث والتدقيق وجمع المصادر .. والمراجع التي نعتمدها في البحث هي أيضا غير مطلقة وغير مؤكدة، لذلك فأن البحث في النسب لدينا مضني جدا أو كثيرا ما نتحاشاه، خاصة عندما نشعر بأن طالب البحث هو غير عربي أو غير عراقي حتى، ولكنه أستعرب وتوهم أنه ينتمي إلى العرب، وهؤلاء كثر في منطقتنا وفي
مدينتنا على الأخص.
* هل البحث في الأنساب بالنسبة إليك هواية ومتعة أم أنها واجب وعمل؟
- إن البحث في الأنساب يأتي من باب اهتماماتنا بأشياء كثيرة منها السياسية والاقتصادية والتاريخ وعلوم القرآن والنقد، إضافة إلى الأنساب فهي لم تكن لإشباع رغبة بقدر ما هي تلبية لحاجة الناس ونحن لن نبخل في ذلك .
* هل تعتقد أن كتابك المفصل في تاريخ الناصرية وبجزئية قد أكتمل في بحثه عن تاريخ الناصرية وبالمستوى الذي لم يتوصل باحث آخر للبحث فيه، أم أن هنالك آفاق أخرى في هذه المدينة ما زالت قابلة للبحث والتنقيب عنها كتاريخ لم يكتشفه أحد من قبل؟
- المفصل في تاريخ الناصرية أنجزته بشكل عاجل وحاولت أن أضع يدي على بعض من تاريخ وتراث المدينة خشية الضياع في خضم ما يشهده العالم من قفزات نوعية في التطور والمعلوماتية، لذلك كرست خمس سنوات من وقتي للدرس والتتبع والبحث، لكي أضع يدي على الأهم من تاريخ هذه المدينة، ولا أدعي بأنني وضعت يدي على كل تاريخها فهو عريض وواسع وعميق وعلى أبنائها أن يبحثوا فيه وفاءا لهذه المدينة وتجسيدا لعمق انتمائهم إليها .
* في الجزء الأول من كتابك المفصل، جزء كامل عن الحضارة السومرية ومدينة أور التاريخية، ما علاقة الحضارة السومرية ومدينة أور بالناصرية
الحديثة، هل لأنها وجدت هناك أم أن الناصرية امتداد لها، علما إن الحضارات تقاس بما تركته للبشرية من أرث حضاري وليس للمدينة المشيدة حديثا على أرضها فضل يذكر ماذا تقول في ذلك؟
- بما أن الحضارات تقاس بحجم المنجز فأن مدينة الناصرية على حداثة إنشائها أثرت في مجرى تاريخ العراق الحديث والمعاصر بشكل كبير لذلك رأيت أن أوصل جذورها بجذور أختها أور يدفعني إلى ذلك بعض التسميات التي أطلقها الشعراء عليها مثل أم التاريخ وأم البشر وأخت أور، فوجدت في أن تكون الناصرية امتدادا لتاريخ المنطقة كشيء محبب وجميل، لهذا كرست القسم الأكبر من الجزء الأول لتلك الحضارة الخالدة التي من أبسط صفاتها أنها علمت الإنسان الحرف الأول .
* أنت عاصرت الواقع الثقافي والأدبي والفني في الناصرية منذ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، هل هنالك فرق بين ثقافة الأمس وثقافة اليوم وهل أن سعة النشاطات الثقافية والفنية والأدبية في تلك الحقبة أكثر من أنشطة اليوم أم العكس؟
- نعم أنا عاصرت الثقافة العراقية منذ ستينيات القرن الماضي، حيث كانت تملى على المثقف سواء بانبهاره بالفكر الشيوعي ومحاولة الانتماء إليه، أو أعجاب المثقف بالفكر العربي كونه نظرية جديدة في تلك الفترة تمجد الانتماء القومي، أو ما خالط هذا وذاك من تيارات عصفت بالثقافة العراقية ومدينة الناصرية مدينة عراقية تأثرت هي الأخرى بتلك التيارات وخاصة الوجودية والكافكوية والدون كيشوتية والميكافيلية والعبثية واللبرالية والبراكماتية، وقد راح ضحية هذه التيارات الكثير من الشبان فمنهم من قتل أو أعدم أو سجن لا لشيء فحسب وإنما لاعتناقهم تلك التيارات من مبدأ خالف تعرف، والأعتراضيون في مجتمعنا كثيرون جدا وفي مراحل مختلفة، وأنا أصنفك منهم يا زيدان حمود، ولا أعني بالاعتراضيين كونهم
مشاكسين، بل الذين يثبتون على رأي هم يعتقدونه صائبا وأنا أعتبر هذه الفئة، أي الاعتراضية فئة شجاعة وصاحبة إبداع .
.أما من حيث الكم والنوع في الثقافة فان حريتنا السابقة في التعبير كانت مأسورة، أما الآن فقد انطلقت من عقالها وأصبح لكل واحد منا الحق بأن يقول كلمته كما ونوعا وكيفا، لذا فأن كل مرحلة تعقبها مرحلة أنضج من فرط تراكم الخبرة ولاستفادة من إخفاقات الآخرين ونجاحاتهم .
* الناصرية وعلى أزمنة متعاقبة ترفد الوسط الثقافي والفني والأدبي في العراق والوطن العربي بأسماء مهمة، ما هو سر الناصرية الخفي في الثقافة والأدب والفن؟
- لاتختلف مدينة الناصرية بعطائها الأدبي والثقافي بالكم والنوع عن مثيلاتها من مدن الجنوب وقد تفوقها أحيانا والشواهد على ذلك كثيرة سواء في مجال الشعر أو الرواية أو القصة أو الفن التشكيلي أو المسرحي أو الغنائي أو النقد.
أما الأسباب في نظري فهي أن الناصرية مسكونة ببيئات ثلاث بيئة بدوية وبيئة أهواز وبيئة ريف ملاصق للمدن، فالمدن والريف الملاصق لها مستقرة أو شبه مستقرة أما البيئتان الأخريان فهما بيئتان متحركتان على الدوام صاحبهما مرتحل دائما وهذا الارتحال يولد نوعا من الحنين بسبب الفراق والمعاناة وهذه حوافز للأديب أو المثقف توفرها في المدن الأخرى أقل منها في الناصرية، لذلك فأن نتاجات الأدب فيها تنبع من واقع يعيشه ويحسه الأديب، إلى جانب ذلك فأن منشأ أكثر الحركات السياسية كان في الناصرية بما في ذلك الحركات الدينية وما رافق عناصر تلك الحركات من اضطهاد وتعسف وسجون وتشريد من قبل القائمين على شؤون الدولة في أوقات متعاقبة وهذه كلها هواجس دفينة تنبع من وجدان الأديب والمثقف في الناصرية حتى جاء نتاجه متميزا نسبيا .
* هل تعتقد أن أبناء الناصرية من الأدباء والفنانين والمثقفين الذين غادروها إلى البعيد هم أبناء أوفياء لها أم أن هنالك جحودا وعقوقا بحقها؟
- نعم إنهم ليسوا أوفياء فقط وإنما في غاية الوفاء فما أن تذكر الناصرية أمامهم في غربتهم حتى تفيض عيونهم دموعا، يقتلهم الحنين إليها ويلفهم الشوق إلى مرابع طفولتهم فيها، لا يغيب اسم الناصرية أبدا في جميع تجمعاتهم ومحافلهم الثقافية من اجل أن تكبر مدينتهم بهم ويكبروا بها وبتاريخها العظيم، إنهم كتلة من الوفاء، ولم يأخذ الجحود طريقه إليهم، بل لم يألفوه قطعا .
* أنت تتمتع بحس دعابة عالي ولك أصدقاء كثر وأغلبهم يختلفون فيما بينهم بالأفكار والاتجاهات وأراك منسجما معهم جميعا . هل صداقتك لشخص بمعزل عن أفكاره واتجاهاته؟ أم أن الأفكار والاتجاهات تزيد أو تقلل من قيمة الصداقة؟ وهل للصداقة عندك درجات؟
- لا شك أن أصدقاءنا كثر، ولكن هنالك فرق بين من تربطك معه معرفة وبين الصديق، فالصداقة أعمق من المعرفة، والأفكار والاتجاهات والرؤى
والاختلاف بها لا يفسد بيني وبين من أعرفهم، أنا أحترم جميع الآراء والأفكار بشكل عال وخاصة الصائب منها، وأقف من الحركات والأفكار السياسية على مسافة واحدة، ولكنني أميز منها الذي يخدم العراق وشعب العراق فأزيد من احترامي للأشخاص الذين يحملون تلك الأفكار، أما أنا شخصيا مستقل لم انتم إلى أي حركة سياسية، أما من جانب الدعابة فهي مدخل لافتتاح الأحاديث مع الأصدقاء وهي شيء محبب إلى النفس، فيها من
الطرافة ما يقلص المسافة بينك وبين صاحبك، حتى لا يشعر حيالك بالغربة أو الجفاء وهي تمارس مع من يستوعبها وليس مع الكل، فهنالك الفطن اللماح وهنالك بطيء الفهم، لكن على العموم وبفضل الله إنني أرتبط مع
الناس بعلاقات طيبة وخصومي هم الحساد فقط حيث الشجرة المثمرة ترمى بالحجر .
* هل لك طموحات سياسية أو أدارية أم أن هاجسك الوحيد هو الأدب والثقافة كطريق للبناء والوفاء لمدينتك وللعراق؟
- انتمائي إلى الأدب والثقافة يفوق عندي أعلى المراتب الإدارية والسياسية، وأنت تعلم جيدا المناصب الإدارية التي عرضت علي ولكنني ترفعت عنها وخاصة في هذا الزمن المرتبك الذي افتخر أن أكون فيه منتميا إلى مجموعة خيرة من المثقفين والكتاب والمؤرخين والنقاد لاستكمال بناء رسالة الإنسان وإتمام عملية مصالحته مع نفسه حيث إننا في العراق غرباء في وطننا .
* ما الذي تعنيه القراءة بالنسبة لك؟
- هنالك مثلا صينيا يقول (من لا يقرأ شيئا لا يساوي شيئا) وأنا لا أرتضي لنفسي أن لا أساوي شيئا، لذا أنا أقرأ كثيرا .. أقرأ في العمل، في الاسترخاء في السيارة .. ولكن هنالك قراءة منهجية تأخذ من وقتي يوميا من ساعة واحدة إلى ساعتين تقريبا لكي استطيع إكمال مشاريعي في التأليف، أما الكتابة عندي فهي منهجية أيضا وأخصص لها أكثر من ساعتين في اليوم الواحد .
* أنت تعتمد في أكثر كتبك وبحوثك ودراساتك على المصادر كيف يكون
اعتمادك على هذه المصادر وما هو المنهج الذي تتبعه في التأليف؟
- المنهج الذي أتبعه في التأليف أو في إعداد المحاضرات لإلقائها في الأماسي أو اللقاءات التلفزيونية، هو المنهج العلمي المستند إلى شروط وأركان البحث الصارم، كوني أتوخى الدقة في كل ما أقوله، وأعتمد مصادر موثوق بها، وأثق في المتقارب منها في حالة الشك في المعلومة أو الحدث التاريخي، لكي أصل إلى الحقيقة أوشبيهتها .
* أصبحت في الفترة الأخيرة ناقدا وقرأنا لك الكثير من النقود، ما ذا يشكل النقد بالنسبة لك وأي المدارس النقدية تعتمدها في دراساتك النقدية؟
- النقد كما تعرف هو من أصعب المهام وأشقها خاصة إذا كان نقدا تقويميا غير هدام، لا تطغي فيه الأنا ولا يتحدث الناقد فيه عن هوى النفس ولا ينظر إلى الموضوع وصاحبه نظرة فوقية، أو يتحول الناقد إلى واعظ، فالمدارس النقدية على اختلاف مدارسها واتجاهاتها إذا لم ترتقي بمستوى التطور العام للمجتمع، وما لم تفتح الأفاق أمام السياسي والمخطط لكي يسير في الاتجاه الصحيح، فهي بلا شك أعمال ناقصة ومبتورة، ومن قراءاتي الكثيرة للرواية والقصة والشعر، ومشاهداتي للفنون المسرحية والفنون التشكيلية والفنون الجمالية الأخرى التي تغرس الحب والجمال والألفة في النفوس أصبحت لدي ذائقة خاصة أرغمتني أن أطلع على مناهج النقاد ومدارسهم النقدية فوجدت فيها فنا رفيعا لا تملك حياله إلا أن تختزنه في ذاكرتك وتخوض في غماره بعلمية واثقة بعيدا عن المدح والإطراء الفارغ من محتواه العلمي من أجل المجاملة لا غير وهكذا نقد اعتبره هابطا يسيء إلى سمعة كاتبه أولا ويحط من شأن كاتب المادة التي مجدت ومجد صاحبها بهتانا ثانيا
* كلمة أخيرة قبل إكمال حوارنا هذا لو سمحت مشكورا .
- كلمتي الأخيرة لأخوتي المثقفين من الأدباء والفنانين وأنا أقترب من السبعين من العمر هو أن لا يتعجلوا الأشياء وأن لا يخوضوا في عمل قبل أن تنضج الفكرة لديهم، وأن لا يحرقوا المراحل ويبتعدون عن الأنا غير المحمودة وأن ينذروا أنفسهم للشعب وخاصة الفقراء منهم، وأن يبتعدوا عن المشاكسة وعن مبدأ (خالف تعرف) لأن من يعزف خارج الجوقة يتعب، ومن يسبح عكس التيار ينهزم واليد الواحدة لا تصفق .
في ختام لقائنا معك أستاذ حسن علي خلف الباحث التاريخي والنسابة المتميز والناقد والأديب لا يسعنا إلا أن نقول لك كان حديثا ممتعا غنيا وموسوعيا شكرا جزيلا لك .
حاوره: زيدان حمود
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1597 الاحد 05 /12 /2010)