حوارات عامة

حوار مع الشاعر العراقي عبد الجبار الجبوري

- في الابداع وفارق الكيل بأكثر من جنس تعبيري

في هوس بالحرف الثائر وطاقته الدفينة وقدراته على رسم ملامح بريئة ونزيهة للمغاير والاستثنائي والمختلف. في مزاوجة بديعة للخطابين الشعري والسياسي، نجد المبدع العراقي عبد الجبار الجبوري يبني مشروعه الأدبي العاكس لطقوس الاغتراب الفانتازي داخل النص فيطالعنا بأسفار سندباد حقيقي يسبق أحلام جيله بأميال من الرؤى وآفاق من الجمال.

إنها الترجمة الكاملة لهموم الذات المثقلة بهواجس الوطن .

الوجع العراقي كنواة لفسيفساء كلامية تنشقّ لتدهش عبر تجديد التحامها بالقضايا الإنسانية الكبرى الشاملة واللامّة انتهاء.

 

*في البدء، نود تلقّي فكرة عن منجزك منذ أول إصدار لك وحتى الآن . باختصار لو تكرّمت.

 ـ  بدايتي الأدبية كانت محاولات بسيطة في أواسط السبعينات، وأنا طالب إعدادي، وفي بداية الثمانينيات بدأت اكتب وانشر القصائد في جريدة الحدباء الموصلية، وصحف العاصمة، وفي عام 1987 أصدرت لي وزارة الثقافة والإعلام مجموعتي الشعرية الأولى (ما قاله السيف العراقي) وهو مجموعة قصائد تسجل حياة الجنود والمعارك والمواقف الإنسانية والبطولية وغيرها، واعتبرها قصائد حرب تعبوية، وأصدرت بعدها مجاميع شعرية مشتركة مع مجموعة شعراء من الموصل منها: – أفق – ألق - أغنيات الحرب- عشرة شعراء مقاتلين في الحرب باللغة الانكليزية من ترجمة الدكتور الناقد سلمان الواسطي، الصوت، ثم صدرت مجموعتي الشعرية الثانية عن اتحاد الأدباء العرب بدمشق بعنوان (رحيل امرأة اللوتس) ثم مجموعتي الثالثة (البحر ليس اسمي) عن دار نينوى في دمشق .

وتحت الطبع الآن سيصدر ديواني الرابع (تلوح لي بشالها الأبيض) عن دار تموز قريبا..

 

*لا شكّ في أن شطر الذات نصفين، لهو عمل شاق في الحقيقة ومكلف من حيث بذل الجهود المضاعفة وتكريس الحيز الزمني الكافي. أعني عملية المزاوجة بين الممارستين الشعرية والسياسية .أين يجد أديبنا ذاته أكثر؟

ـ حقيقة الفصل بين الخاص والعام أمر في غاية الصعوبة، ولاسيما وأنت تحمل على كتفيك هموم وطن مزقته الحروب والطائفية،وبقيت أطلاله راسخة في ذاكرة الجيل، لذلك أرى أن الكتابة في الخاص هو منطلق وديمومة للذهاب إلى العام، فأرواحنا التي خربتها الغربة والحرب،قد أيقن الحرف أنه لابد من أن يمسك بجمرتين في آن واحد، وهذه اللحظة تجعلني أوازن بينهما واعترف أنني امشي على حد السيف، لان الشعر هو انعكاس حقيقي لما يجري على الأرض وتشهده الميادين، ونقله إلى الورق إن كان شعرا عاطفيا، أو شعرا عن الوطن ولملمة جراحه، وفضح بشاعة الاحتلال وإفرازاته، لذلك أنا اكتب القصائد الشعرية تحت هاجس جراحات الوطن، وقصائد الحب تعطيني شحنات إضافية لأرتب قيافتي وأناقتي واذهب إلى الحرب كمقاتل يحمل بيده حرفا يطلق الرصاص على جسد الوحش "خمبابا "ليرديه قتيلا،من اجل أن تبقى الورود متضوّعة ويانعة في بساتين الوطن..

 

* لعلّ ابرز إفرازات مرحلة ما يصطلح عليه مجازا بثورات الربيع العربي،هذا الراهن الأثر فوضوية واضطرابا ودموية وانتشار للتيارات الإرهابية والفكرية الشاذة والمتطرفة. ومن ثم ذلكم الفيض من المرايا المواكبة للإبداع المضاد والمعارض للمشهد برمّته . كيف تقيّم التجليات الصارخة لموجة أدب الخراب؟

ـ أفرز الربيع العربي الكاذب سيلا من الأسماء التي تطبل لهذا الخراب، كما فضح الربيع إستراتيجية فاشلة كان يعول عليها الآخرون في تمزيق الوطن العربي كله ن وتحويله إلى دويلات طائفية وعرقية ودكاكين وفوضى خلاقة، وغزو العراق فضح هذا كله كما فضح زيف وتضليل الديمقراطية الأمريكية والغربية التي دعمت الربيع العربي،لذلك من الطبيعي أن ينجب الربيع العربي المزعوم طفله اللقيط الملفوف بعار العمالة والخيانة، هنا نحن لا نريد آن نمجد الأنظمة التي شاركت بوعي وتخطيط أو بدونه في تدمير العراق وإخراجه وإبعاده عن محيطه العربي، وفاتهم انه خربوا بيوتهم بأيديهم وألان،يعظون أصابع الندم، "ولات ساعة مندم "..

نعم الخراب كل شيء في أرض العرب،وكل مفاصل الحياة دخلها الماء الآسن والهواء الفاسد للربيع العربي الكاذب، وما نشاهده هو نتيجة طبيعة لخطيئة اقترفها العرب بحق أنفسهم حينما صدقوا كذبة الربيع العربي..

 

*إلى أي حدّ أسهمت المنافي أو تجربة الاغتراب في بعديه الروحي والمادي،في صقل وتطوير آليات الكتابة لديك؟

ـ الغربة محطة مهمة جدااا في حياتي، فمنها تعلمت الصبر والمطاولة، ومنها انصهرت روحي أكثر في الوطن حد الذوبان، والغربة والاغتراب صنوا شعري، اغترف منهما ما يشحن ويملآن روحي بهجة وحنينا للوطن الذي احمله كحقيبة تحت جوانحي وفي أعماق قلبي، في غربتي كنت وجها لوجه مع الحب الذي يؤطر روحي بالخيبة والحزن والأوجاع المستديمة، لذلك هجم بكل عنف على ذاكرتي وأيقظها من نوم عميق ومسح عنها غبار الحروب، فكانت قصائدي تلمع حروفها حبا وشوقا، وبهذا أنجزت في غربتي وتغربي مجموعتي الشعرية المكونة مما يفوق الأربعين قصيدة ومقاطع نثرية تزيد على الأربعمائة صفحة، سيتم صدورها قريبا عن دار تموز في دمشق، ومازلت نازحا، ما زلت نازفا شعرا وحبا، وأجزم أن فترة النزوح هذه أعادت ترتيب حياتي بشكل مختلف جدا،إذ أن تنقلي في المدن التركية الرائعة التي تعد جنائن على الأرض، هي فرصة لاستجلاب ما كان غائرا في أعماق التاريخ واستحضاره شعرا معاشا لديمومة آلام الغربة وتجلياتها وانطباعها على صفحات الروح كندب ظاهرة على يد القصيدة، وهذا ما تراه شاخصا على جسد القصائد التي تحكي ليالي البعاد عن الحبيبة وبساتين العشق ودوحة الشعراء..

 

*كونك محللا بارزا ومهتما محنّكا بالشأن السياسي، نريدك منك قراءة استشرافية للمشهد السياسي العربي وارتباطاته بتوجهات الدول العظمى، بخاصة ولاية ترامب المتهم بميولاته الأصولية حسب قناعات الكثيرين؟

ـ اعتقد أن الفترة المقبلة من تولى الرئيس ترامب ستكون أكثر جرأة ومصداقية في مواجهة الإرهاب بكل أشكاله، الذي يخرج من عباءة الإسلام السياسي، والذي يتشدق ويتبرقع بالإسلام . واعتقد أن فترة وعصر ترامب سيكون قاسيا على الأنظمة الإسلاموية التي تدعم بسخاء ولا محدودية الإرهاب وتعمل على تفريخه عبر فتاواها الرجعية والضيقة والمتحجرة . ولا استثني منها أحدا، ستكون حروبا من شكل أخر هو شكل صعود العلمانية واللبرالية وانحسار المد الإسلاموي . وهناك حروب محتملة ستشهدها المنطقة لمواجهة الدول التي تدعم الإرهاب وترعاه، وفي مقدمة هذه الدول إيران بعد إلغاء الاتفاق النووي الأمريكي –الإيراني، والطاقم الرئاسي المتشدد ضد الإسلام السياسي الذي هيأه ترامب لقيادة هو ما يوحي بكل هذا التحليل السياسي..

 

*ما موقفك من أصحاب نزعة الكيل بأكثر من جنس تعبيري بغية عولمة الصوت الشخصي وتمرير الرسائل الفنية والمعرفية والذود عن القضايا المصيرية والحساسة والنضال ضد الفساد بشتى أشكاله وأساليبه؟

ـ نحن في حرب دائمة مع الفساد في كل شيء، وأخطرها فساد العقول التي تسرطنت بأفكار القتل والذبح والخراب وتفتيت المجتمعات وتجزئتها، هناك من يحمل فأسه ويهدم ببناء الأمة، وهناك من يقدم دمه قربان لبناء صرح الأمة وترسيخ قيم المثل والأخلاق وعصرنة الواقع والخروج من قوقعة الماضي كفكر لا يماشي العصر والإصرار على اجترار التاريخ، وإسقاط أمراضه بقوة على حياتنا اليومية، وهو أسير التاريخ الملطخ بعار الحروب، دون التفكير بالمستقبل وتحولات التاريخ والاستفادة من دروس الماضي دون المساس بالثوابت القومية والوطنية والدينية والتاريخية كمنطلق نحو أفق الولادة والحداثة والتجدد..

 

*كلمة ختامية

ـ أحلم بوطن سعيد وآمن بعيدا عن الطائفية والانغلاق والتقوقع على الذات . وطن للتعايش والتسامح وبناء الدولة القوية المُهابة.

في المثقف اليوم