حوارات عامة

نضال برقان في لقاء ثقافي مع الأديب والباحث بكر السباتين

"الكاتب الملتزم يجب أن يكون صاحب رؤية متكاملة ويهتم بقضايا مجتمعه وأمته"

ما بين أسئلة المشهد الثقافي المحلي من جانب، والمشهد الثقافي العربي من جانب آخر، نطوف بمعية أحد كتابنا المبدعين، هو أو إحدى كاتباتنا المبدعات، مما يتيح لنا سبر أغوار مشاغل ومختبرات المبدعين، والاستماع لأصواتهم الداخلية، ورؤية المشهد الثقافي من حيث ينظرون، وصولا إلى تحقيق فهم وتفاعل وتواصل أكثر إيجابية بين الطرفين، إضافة إلى محاولة جادة لتحريك الساكن في المشهد الثقافي وجعله أكثر تفاعلا وتأثيرا ...

وفي الحوارية الآتية نحلّ ضيوفا على الأديب بكر السباتين...

*جهود حثيثة وكبيرة يبذلها الأردن، نصرة لأهلنا في غزة، على الصُعد كافة، من الجهود السياسية في مختلف المحافل الدولية لوقف العدوان، إلى المستشفيات الميدانية في الضفة والقطاع، إلى جانب إيصال المساعدات بكل السبل المتاحة، في موقف يعكس وحدة الصف ووحدة الدم بين الشعبين الشقيقين، ترى كيف تقرأ كل تلك الجهود؟

- كل جهود الدعم الأردني الآمنة مطلوبة وهذا من  صميم السياسة الأردنية تجاه القضية الفلسطينية، رغم أنها تحتاج لأكثر من ذلك من باب الواجب  الأخلاقي وتلبية لنداء الوحدة بين الشعبين وأمنهما المستقبلي، ومن منطلق أن الأردن أيضاً في دائرة الاستهداف الإسرائيلي التمددي فلا بد من الوقوف الفعلي إلى جانب غزة التي حركت الضمير العالمي في سابقة غير مشهودة واتخاذ خطوات سياسية باتجاه حشر الاحتال الإسرائيلي في الزاوية وخنقه اقتصادياً وسياسياً دعماً لغزة التي تموت ببطء.

فغزة تستنجد وتحتاج لفتح معبر رفع حتى تتدفق المساعدات بشكل فاعل والضغط على الاحتلال لوقف عدوانه التطهيري على الفلسطينيين.

* هيئات ثقافية كثيرة من حيث العدد، في مختلف مدن المملكة، منها ما هو رسمي ومنها ما هو أهلي، ترى، وبحسب ما ترى شخصيا، ما مدى فعالية تلك المؤسسات، بوصفها مراكز تنوير وتثقيف، على أرض الواقع؟ ومن ثَمّ كيف تنظر إلى وزارة الثقافة وما تقوم به بهذا الصدد؟

- في ظل غياب استراتيجية ثقافية ذات محددات واضحة تحت إشراف وزارة الثقافة الأردنية، فإن حالة نسبية من التسيب ستطغى على المشهد الثقافي، كأنها حمّى ستظهر أعراضها على عناصر الثقافة متمثلة بالكِتاب، والمثقف المُنْتِجْ، والمتلقي المُسْتَهْدَفْ من الرسائل الأدبية، والجهات الرسمية والأهلية الراعية.

وكلما تردّى الواقعُ الثقافي، سَيُهَمَّشُ دورُ الهيئات الثقافية النائية بنفسها عن ممارسة الدور الثقافي الجاد المناط بها من خلال تفاعلها مع المنجز من ناحيتي المحتوى والتقنيات الفنية، وقد تتحول إلى مقاهي للتسلية تمارس فيها الثرثرة وتضم المتنطعين وأنصاف المثقفين من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وعابري السبيل.

ونستثني من ذلك بعض الهيئات المرموقة التي تلتزم بدورها الجاد وتحترم عقل المتلقي وتؤثر عليه، وعلى رأسها رابطة الكتاب الأردنيين كجهة تمثيلية معنوية ونقابية للكاتب الأردني.. أضف إلى ذلك إتحاد الكتاب الأردنيين وغيرهما من الهيئات الثقافية الأهلية الجادة التي تتفاعل مع النخب الأدبية باحتراف وتقدير.

وزارة الثقافة من جهتها تقدم الدعم والرعاية -المنقوصة نسبياً- للثقافة والمثقفين المنتجين من خلال عدة مبادرات على نحو دعمها للمؤلف بنشر كتاب له كل عامين؛ لكن الكاتب يطمح بأن يكون الدعم سنوياً، وأن تعود الوزارة إلى برنامج التفرغ الأدبي وتوسيع دائرة استقطاب الكُتّابِ للمشاركة في مجلة أفكار والنشاطات الأخرى.

ولا ننسى إطلاق الوزارة مشروع إصدارات مكتبة الأسرة الأردنية في إطار استراتيجية التنمية الثقافية عام 2008، الذي يهدف إلى توصيل الكتاب من دون مشقة إلى المواطن وبسعر زهيد، عبر إقامة مهرجان القراءة للجميع. وتغطية قطاعات المعرفة الإنسانية بسلاسل من المعارف المختلفة التي تخدم جميع أفراد الأسرة، والمساعدة على تنمية مهارات القراءة لدى كل أفراد المجتمع الأردني، وتشجيع إنشاء المكتبات المنزلية. وهذا دور تفاعلي يسجل للوزارة كبادرة حداثية تستحق التقدير.

بقي التنويه إلى ضرورة توفير الحماية للكاتب عند مقاضاته على المحتوى بالتنسيق بين وزارة الثقافة ودائرة المطبوعات والنشر.

ونتمنى أن تحظى الرابطة بدعم مالي أفضل من قبل وزراة الثقافة، إلى جانب البحث الجاد عن مداخيل مالية أخرى، وهناك جهود تبذل في هذا الاتجاه؛ على أن لا تخضع الرابطة لأية جهة داعمة محتملة قد تؤثر على استقلالية قراراتها.

* تحديات جمّة تواجهها المجتمعات العربية، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، ترى هل تنتظر دورا ما للمثقف، في (الاشتباك) مع تلك التحديات، أم لعلها ليست مسؤوليته؟

- المثقف الذي يساير الظروف ليس خلّاقاً ولن يكون قادراً على التأثير الإيجابي واجتراح الحلول وقد يكون عبئاً على المشهد الثقافي كونه يتصرف من موقع القطيع، ومصاباً برهاب المجهول، ومقيداً بالمحاذير الأمنية والاجتماعية والطائفية.

فالاشتباك من صفة الكاتب الجاد صاحب الرؤية والثوابت والأهداف التي يدافع عنها، ولا يكسره الخوف أو تحوله الإغراءات إلى كاتب مسحج مأجور.

* المشهد الثقافي الأردني مكتظ بالغث والسمين فهل تصف لنا هذا المشهد وهل من نظرة استشرافية للمستقبل؟

- مع وجود الفضاء الرقمي المستباح الذي وفر لكلِّ من تحدوه الرغبة في الكتابة فرصة الانتشار بدون قيود، بغض النظر عن الجودة والأهداف والأدوات الفنية والأخلاق، إلى جانب عجز الأجهزة الرقابية على التحكم بما يفيض من منشورات وفق معايير فنية وأخلاقية لا تقيد الحرية أو تثير الخوف؛ فتوقع في ظل ذلك أن تعمّ الفوضى الهدّامة، ومحاولات قتل الشخصية بين الخصوم، وإثارة الفتن الطائفية التي ستحول الاشتباكات الثقافية إلى معاول هدم في معارك عبثية... وهي حالة تسود العالم الراهن ومنها الأردن.

ومن باب الحصانة الثقافية نريد المثقف التفاعلي مع المجتمع؛ ليبقى على تماس مع هموم المواطن، كهدف لمشروعه الثقافي، وأن لا يكون مطواعاً لما يُطلب منه؛ بل ناقداً بنّاءً وشخصية اشتباكية لا تلين بما يخدم القضايا السياسية والاجتماعية التي ينبري للدفاع عنها، على أن يظلَّ خارج الاصطفافات الإثنية القائمة على إثارة الفتن والنعرات.

* ما مفهوم الكاتب الملتزم مجتمعيا في نظرك؟

- كي يستحق الكاتب صفة الإلتزام لا بد أن يكون صاحب رؤية متكاملة، ويمتلك أدواته الفنية والأخلاقية لحمل رسالته التي تفرض عليه الاهتمام بقضايا مجتمعه ووطنه وأمته وحقوق الإنسان، وتلزمه هذه الصفة بأن يطور فكرته ويبسطها، باستخدام أدواته الفنية والكتابية، لإيصال ما لديه بأسلوب وشكل سليم ومؤثر، دون أن يقتحمَ بسلافتها عقلَ المتلقي والسيف البتار في يده.

وانطلاقاً من مبدأ الالتزام فإن عليه واجب التبني لقضايا المجتمع والأمة من باب الالتزام -على نحو مناصرة الكاتب الأردني للقضية الفلسطينية ورفضه للاحتلال- وأن يحافظ على استقلاليته المعنوية ليغرد خارج القطيع، فلا بد من صوت يعلو على الثرثرة والثغاء.

* ما علاقة المثقف المنتج بالجهات الرسمية؟ هل تجمعهما علاقة تعاضد أم تضاد؟

- يبدو أن العلاقة بين المثقف والسلطة وفق ما يراه كثيرون، علاقة فيها كثير من الملابسات، وتتحكم بها مشاعر الريبة والتوجس وافتقاد المصداقية، وإصابة كلِّ طرفٍ منهما، برهابِ الطرفِ الآخر؛ إلا أن الراجح في هذه العلاقة هي التشاركية المتفق ضمنياً على محدداتها، حيث تُغَلَّبُ فيها أحياناً المصالحُ بغية توظيف "الثقافي" لأجندة "السياسي" في عموم التجربة العربية. والمشهد الثقافي الأردني ليس بمعزل عن ذلك.. ولا يخلو الأمر من اشتباكات ثقافية هنا أو هناك في بعض القضايا الكبرى.

وخلاصة القول أنه لا بد من بناء الثقة المتبادلة بين ما هو سياسي وثقافي وتقبل مبدأ النقد البناء دون تجريح، فالمثقف ليس زنديقاً، والحكومة من خلال دائرة المطبوعات والنشر ليست السجان الذي يخيفون به الضالين.

*هل يمكن للمثقف تهيئة المزاج المجتمعي العام لتقبل أفكار جديدة؟

- هذا ممكن إذا امتلك المثقفُ المنتجُ أدواتِهِ في إنتاج الأفكار ووسائل نقلها إلى الناس من خلال التفاعل المباشر، والخروج من عزلته كمثقف محاط بهالة الأنا المعظمة، واحترام عقل المتلقي من باب المقاربات الفكرية المدروسة بعيداً عن إثارة الجدل العقيم والاستخفاف بالآخر.

إذن على المثقف أن يقترب أكثر من الناس ويتفاعل مع همومهم الخاصة والعامة.. فالكاتب الذي لا يشعر بالآخرين يتحول إلى آلة جامدة لصنع الأفكار المعلبة.

* عدوان شرس وطاحن ارتكبه الاحتلال الصّهيونيّ في غزّة، ترى ما إمكانية أن يُحدِث ذلك تحوّلا في مشهديّة الثّقافة والإبداع في الوطن العربيّ؟

- غزة تحولت من قضية في سياق المشهدية الفلسطينية إلى أيقونة عالمية مؤثرة، غيرت من مواقف شعوب العالم لصالح حقوق الفلسطينيين، لا بل وحاصرت السردية الإسرائيلية في العقل الغربي.

والحالات التي تؤكد ذلك باتت تطغى على الأخبار عبر الفضاء الرقمي بشكل لافت حتى على صعيدين شعبي ورسمي.

وكانت تجربة غزة قد بينت الاصطفافات المتناقضة بشأن القضية الفلسطينية.

أما ما يتعلق بالموقف الثقافي الأردني إزاء ما يجري من انتهاكات في قطاع غزة فذلك نابع من كون القضية الفلسطنية قضية أردنية على كافة الصعد.. وهذا يفسر علاقة الكاتب الأردني العضوية بما يدور في غزة والضفة الغربية.. ويمكن رصد ذلك من خلال "الموقف الموحد" الداعم للمقاومة في غزة، الذي اجتمعت عليه الهيئات الثقافية الأهلية في المشهد الثقافي، وعلى رأسها رابطة الكتاب الأردنيين.

وأتمنى أن تتبنى الرابطة مشروع جائزة لأفضل رواية تتحدث عن غزة لمؤازرة السردية الفلسطينية ثقافياً، والبحث عن داعمين له.. فالقضية الفلسطينية تستحق أكثر من ذلك.

* كيف ترى واقع الأدباء الشباب في الأردن؟ وبحكم تجربتك الأدبية الممتدة، هل من كلمة تقولها لهم؟

- يمثل الشبابُ في التنميةِ المستدامةِ الطريقَ إلى المستقبل في علاقة تتابعية بين الأجيال.

كذلك لا يقيم الكاتب إلا من خلال جودة منتجه الثقافي وهذا لا علاقة له بعمر الأديب وعمق تجربته الثقافية الإبداعية إلا فيما يتعلق بالتوجيهات الفنية من باب النقد البناء بعيداً عن الوصاية، مع فارق أن العمر يمنح صاحبه أيضاً اعتبارات معنوية.

فالمنتج الجيد يجب أن يكون سيد الموقف حتى في الثقافة التقليدية.

فكم من أديبٍ بدأتْ حياتُهُ وهو شاب بأعمالٍ عظيمة عجز عن مواكبتها عند الكِبَر!

ومن الأمثلة على ذلك في الأدب الإنجليزي، تجربتا الشقيقتين إيميلي برونتلي وشارلوت برونتلي في روايتيهما الوحيدتين: مرتفعات وذرنيج وجين إير، وقد كَتَبَتَا الروايتين العظيمتين وهما دون سن العشرين حيث اعتبرتا من أيقونات الأدب الإنجليزي الرفيع.. فلا توجد معايير للجودة إلا في ذات المنتج.

* في ظل العصر الحالي، ما هو الجنس الأدبي الذي تعتقد أنه وبجدارة، أثبت أنه (ديوان العرب)، ولماذا؟

- في تقديري أن الرواية الناجحة أكثر فاعلية من غيرها في التأثير على وعي القارئ الحصيف، لأنها تجيب على كثير من الأسئلة التي تعربد في عقل المتلقي.

وأستثني في سياق ذلك الرواية الهابطة شكلاً ومضموناً، والتي تعتمد على قدرة كاتبها في فنون الدعاية والتسويق المبتذل، القائم على الاسترجاء والاستمناح؛ لذلك تموت الرواية إذا ما أُسْعِفَتْ بالاستكتاب وعقد الندوات بشأنها حيث ستحظى بمجاملات نقدية تافهة في كثير من الأحيان إلا من رحم ربي.

* ماذا عن انشغالاتك الراهنة؟ ماذا تقرأ؟ ماذا تكتب؟

- منشغل في هذه الأيام بالقراءة المستفيضة حول البرمجة اللغوية والعصبية، إلى جانب نشاطي اليومي في كتابة المقالة السياسية من باب الواجب الأخلاقي إزاء قضايا العالم، وتحديداً القضية الفلسطينية وذلك في سياق المقاومة الرقمية وأتواصل مع المتلقي عبر قناتي الخاصة على يوتيوب والتي تحمل اسمي.

ناهيك عن مشروعي الأدبي قيد النشر، وهو عبارة عن ثلاثية روائية بعنوان "الأشرعة البيضاء" أنجزت منها الرواية الأولى التي لم أستقر على عنوان نهائي لها.

***

أجراه نضال برقان

2 أبريل 2024

 

في المثقف اليوم