صحيفة المثقف

نظر ورأي حول كتاب: فائق حسن.. ذاكرة اللون

55 فائق حسنقبل الحديث عن كتاب - فائق حسن .. ذاكرة اللون – من المفيد ان نعرج قليلا الى حياة المؤلف قاسم محسن الذي يصنف من ابرز الفنانين العراقيين الشباب المعاصرين والمميزين والذين اسسوا تجربة جمالي جديدة في التشكيل العراقي من خلال اولا : التجذير والعودة الى رسم الاساطير الرافدية والبحث في اروقة التاريخ والتراث عن تلك المفاهيم والتقاليد التي اغنت واثرت البشرية بمنجزاتها الفكرية والعلمية .. ثانيا : اتبع قاسم اسلوب وطريقة الفنان الرافدي في تقنياته ومعالجاته لسطح اللوحة وذلك بالزخرفة والرسم على سطح الشكل المرسوم مما يعطي احساسا باننا اما قطع اثرية ورسومات تمثل مشاهد من حضارة وادي الرافدين زينت وزخرفت جسما حديثا شكله الفنان بروآه ومزاجه الخاص مع رسم اشكال وكتابات ورموز قديمة منها خطوط مسمارية واغناها ايضا بالزخارف الاسلامية . هذا التلاقح الفني والجمالي بين الموروث والحداثة يشبع المتلقي ويؤسس مفهوما جديدا لكيفية تناول التراث وبتجربة جمالية حديثة، يضاف الى ذلك فان قاسم يشتغل احينا بمواد واصباغ متنوعة خشنة ملمسية وبارزة . هذه الصور التراثية التي ازدحمت داخل الشكل كالوحة -الحصان - مثلا يذكرنا بصورة الثور الآشوري المجنح وما رسم عليه من كتابات ورموز .. ويبدو ان التاريخ والمحيط والبيئة والدراسة لها دورها في رسم فضاءات ذهنية للفنان ومنجزة الفني وربط الماضي بالحاضر .. علما ان قاسم خريج معهد الفنون الجميلة لعام 1987 واكاديمية الفنون الجميلة لعام 1998 واقام عدد من المعارض داخل وخارج العراق وحصل على جوائز وشهادات تقديرية كثيرة .. وهو الآن يدير برنامج تلفزيوني اسبوعي يدعى - تشكيل -

فائق حسن وذاكرة اللون:

الكتاب يقع في 365 صفحة واكثر من 500 صورة ملونة بين رسم وتخطيط ونحت وسيراميك وهي توثق حياة فائق الفنية خلال 57 عاما من العطاء و الابداع . وقد رأينا ان الكتاب مقسم الى محطات تاريخية في حياة الفنان منذ دراسته في البوزار في باريس وصديقته جاكلين ثم زوجته سوزان كوتيه وكذلك مرحلة الرسم الاكاديمي وتأثره بالمدارس الفنية الاوربية الحديثة وتخرجه من البوزار سنة 1938 ثم عاد الى العراق و أسيس معهد الفنون الجميلة عام 1939، وظهور الجماعات الفنية العراقية ابتداءا من جماعة اصدقاء الفن عام 1941، ثم مبحث اللون عند فائق واستاذيته وتفوقه على غيره من الرواد . وغيرها من البحوث القيمة ... حجم الكتاب ونوعيته وندرة مواده يعكس لنا مدى الجهد الكبير والدراسة المعمقة التي بذلها المؤلف في تأليفه واخراجه وطبعه وهو الكتاب الثاني الذي يتحدث عن حياة فائق حسن بعد الكتاب الاول الذي اصدره الفنان قاسم محسن تحت عنوان (فائق حسن الحضور الحي والبصمة الساحرة) .

الرياد في الفن:

تحدث المؤلف عن ريادة فائق حسن 1914 -1992 -في الفن العراقي المعاصر وصنفها الى صنفين الاولى ريادته في التقنية والاداء والثانية انه اول من اسس منهج لتدريس مادة الفن على غرار المناهج الاكاديمية الاوربة بعد ما عاد الى الوطن واسس معهد الفنون الجميلة عام 1939 .

وكانت هذه الريادة عبارة عن تقليد التجارب الاوربية سعيا الى اكتشاف وتفجير القيم الجمالية الكامنة في الفن الاوربي ومحاولة تأقلمها مع البيئة العراقية . وذكر قاسم ان مرحلة التأسيس عبارة عن اتباع الاسلوب الواقعي الاكاديمي عبر ما تعلموه في اوربا وكانت المواضيع تدور حول الموديل والطبيعة والتقاليد الاجتماعية . وكانت هذه المرحلة صعبة جدا على الفنانين الرواد وسط مجتمع لا يفهم او يتذوق الفن الحديث، حيث تعود المجتمع على تذوق الاساليب التقليدية من فنون شعبية واسلامية زخرفية .. وبعد هذه المرحلة الصعبة بدأت مرحلة اخرى في حياة فائق حسن وهي البحث عن الهوية والخصوصية من خلال ممارسة التجريب في الفن التجريدي والعودة الى المدارس الفنية الاوربية الحديثة ولكن هذه التجارب كانت اكثر غرابة على المجتمع ... وكان فائق احد هؤلاء المجربين، وقد عالج مواضيعه باستاذية متفوقة خاصة اللون حيث يعد فائق كأنه احد رواد المدرسة الانطباعية الباريسية، وتذكرنا فرشاته بمونيه ورينوار وسيزان .

و ذكر المؤلف ان في بداية الاربعينات قد بدات حركة ثقافية في العراق من خلال زيارة بعض المنظمات والوفود الثقافية الاوربية الى بغداد والالتقاء ببعض الفنانين العراقيين امثال فائق حسن وجواد سليم وحافظ الدروبي وغيرهم ومن هؤلاء النحات الانكليزي كينث وود وكذلك عدد من الفنانين البولونيين ومنهم من درس على يد رواد المدرسة الانطباعية امثال بونار . هؤلاء الفنانين البولونيين هم جوزيف بارينا وماتوشاك وكابتن جابلسكي، ويذكر ان مجئ هؤلاء البولونيين الى العراق قد احدث منعطفا خطيرا في تاريخ حركة الفن العراقي المعاصر . وكان فائق ملازما للفنان البولوني – ماتوشاك – حيث تعلم منه الكثير خاصة الاسلوب الانطباعي وطريقة استخدام اللون .

اللون عند فائق:

يقول قاسم (لا تقف جماليات فائق حسن الفنية عند حدود البصر فحسب بل تصب في الجمال الروحي عبر تراكمها اللوني المكثف ..) كما ذكر المؤلف ان فائق حسن (ذاكرة لونية ذات ثراء دلالي بفرشاة ذهبية ..)

كان سيزان يعمل على تلاحم او تشابك بين الشكل واللون الذي يؤدي الى التناغم المشترك والذي يعد شيئا جوهريا في الفن العظيم ولكي يحقق الفنان هذا التناغم فان عليه ان يعتمد لا على الرؤية البصرية فحسب وانما عل احاسيسه. وكان سيزان يؤكد على ان ثراء الالوان في اللوحة دليل على جمالها وحيويتها ورونقها .. كان فائق يملك حسا لونيا سيزانيا انطباعيا . وعندما كنا في صف فائق في مطلع السبعينات، كان الصف في حضرته يسوده الصمت والهدوء وكان له جولة واحدة يطوف فيها على الطلاب اثناء الرسم، فاذا رأى احد الطلاب متقدما في عمله وقف خلفه واخذ الفرشاة منه وبدأ يصلح ويضيف .. في هذا الوقت يتجمع الطلبة خلف فائق ليروا كيف يرسم ويخلط الالوان بطريقة مثيرة للاعجاب . ونادرا ما نجد استاذا في الكلية يرسم امام طلبته ...؟؟

الواقعية عند فائق:

كان فائق في بداية حياته الفنية قد تأثر بالرسام عبد القادر الرسام واسلوبه الواقعي (الواقعية الطبيعية) وبقى على ذلك حتى بعد عودته الى العراق، ولكن الانقلاب الذي حدث في اسلوبه نحو الانطباعية يعود بالفضل الى الفنانين البولونيين الذين حطوا في العراق اثناء الحرب العالمية الثانية كجنود ولكنهم درسوا الفن في باريس . ويذكر اسماعيل الشيخلي بان فائق دخل علينا في الصف بعد لقاءه بالبولونيين فقال ازيلوا هذه الرسوم المعلقة على الجدران وان الفن ليس هكذا ؟؟ ويبدو ان فائق وغيره من الرواد لم ترويهم وتثقفهم سنوات الدراسة والتعلم التي قضوها في الخارج وانما تعلموا الفن الحديث من خلال هؤلاء البولونيين في العراق .. الواقعية الاخرى التي سلكها فائق هي التجريب والتعبير كالواقعية التحليلية حيث يعمل لما يبدو في التشكيل الاجمالي للموديل حيث يكون الاداء الفني بطريقة تحليلية وهي احدى التصورات التي سادت الانتاج الفني في مطلع القرن العشرين كالمدرسة التكعيبية ... وتعتبر المدرسة الانطباعية ضمن الواقعية ولكنها تتخذ اساليب جديدة . وقد رسم فائق باسلوب التنقيطة ثم تركه ... واهتم فائق ايضا برسم الموديل العاري وابدع فيه وقد ظهرت له رسوم دراسيه تخطيطية في هذا الكتاب . ويذكرنا ذلك بالموضة السائدة في نهاية القرن التاسع عشر في رسم الفتيات العاريات حيث اصبح رسمهن تجارة مربحة ؟؟ كما كان لها تأثيرا كبيرا على الحركة الفنية من الناحية الجمالية .

و كانت الفتيات يأتين من اواسط اوربا بعد ان قاسن من ازمات الحروب والفقر فيذهبن الى مراسم الفنانين في حي منتمارت في باريس ويشتغلن كموديلات عاريات .. وكان الاهتمام برسمهن يعد موضة جذبت الفنانين والتجار على حد سوى، وفي نفس الوقت هي دراسة تشريحية للجسم ومتعة في رسم جسم المرأة بما تملكه من خطوط منحنية ورقة وطراوية وجمال في الجسم ...

وذكر المؤلف (يعد الفنان فائق رسام القرية العراقية بتنوعاتها المختلفة ... ان اعمال فائق لا يمكن حصرها في اتجاهه الواقعي فحسب وانما بوصفها تشكل الاساس الاول المعاصر لتجارب الرسم والرؤية وخلق المناخ الذي ساعد على ظهور عشرات الرسامين البارزين وقد وضع الاساس الواقعي للرسم في العراق الذي ظهر في اعمال الفنانين ...) (فائق حسن عبر بتجربته الفنية المليئة بالانجاز ترك اثرا خالدا لا يزول مع الزمن ولا يتأثر باختلاف الامكنة ..)

في الواقع ان الكتاب يعد انجازا فريدا وجهدا استثنائيا وتوثيقا علميا يضاف الى المكتبة العربية وما قدمه المبدعون من الكتاب والنقاد في هذا الحقل الفني . . تمنياتنا للاخ الاستاذ قاسم بالتوفيق والنجاح الدائم في هذا المشروع الفني والثقافي الواعد ...... تحياتي

 

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم