صحيفة المثقف

الجدل وثنائية الوجود والماهية

علي محمد اليوسف

ان ديالكتيك او جدل الوجود والماهية، ليس في وارد هذه المقالة ارجاعه الى اصوله الفلسفية الاولى التي جاءت عند هيراقليطس وبروتوغوراس، وزينون الاليني مرورا بالمراحل التاريخية الفلسفية التي قطعها كمبحث هام، حتى تبلورت صيغته المتداولة المعروفة واستقرت لدى ماركس في قوانين الديالكتيك الثلاثة، وحدة وصراع الاضداد، وقانون تحول الكم الى نوع، وقانون نفي النفي. الذي ساهم في ارسائها هيجل وفويرباخ وماركس.

سنبدأ بما يهمنا في هذه المقال هو تعالق الوجود والماهية في الفلسفة الوجودية عند ابرز فلاسفتها سورين كيركارد، وكيف انبثق الجدل (الديالكتيك) كمفهوم فلسفي متداخل مع هذه العلاقة الثنائية، بين الماهية والوجود عند هيجل.اي في تفسير ترابطهما الوجودي الفلسفي وتداخلهما وفي علاقة الجدل بهما.

اعتبر اقطاب الوجودية الملحدة لدى ابرز فلاسفتها فيورباخ، هيدجر،سارتر، اندريه جيد، كامو،بيكيت، سيمون دي بوفوار،ان الوجود سابق على الماهيية في الانسان والطبيعة وكل الظواهر التي يدركها العقل ذهنيا او حتى التي لا يدركها او لا يستطيع ادراكها.

بينما ذهبت الوجودية المؤمنة لدى اقطابها الفلاسفة سورين كيركارد، مارسيل جبريل، تيليش، والقس الفيلسوف باسكال.الذين اعتبروا الماهية تسبق الوجود،معللين رأيهم ان ماهية الله الخالق تسبق وجوده، وهنا بدأ التشّظي بالرأي فمنهم من ذهب الى ان الخالق بلا ماهية يمكننا معرفتها او ادراكها، اوالماهية في الخالق وجود بذاته فقط لا يفصح عن صفاته، وذهب اخرون ان الماهية هي الوجود في الانسان وفي الطبيعة والكون ايضا،ولا تفريق حقيقي بين الاثنين(الوجود والماهية) في تداخلهما في الوجود الواحد.وبعضهم الأخر قال ان ماهية ووجود الخالق تتداخل معلنة عن افصاحاتها بوحدة الصفات الالهية بخلاف جميع الموجودات في الطبيعة والانسان فهذه يكون وجودها وماهيتها شيء آخر وافصاحاتها في ادراك صفاتها.فصفات الله التي نستمد ادراكها الايماني من صفات الطبيعة وصفات الاسمى المثالي المتعالي المقدس وفي الحياة والانسان، هي صفات تأكيد وجود الله المتداخل في ماهيته ميتافيزيقيا،وربما في احتمال ان يكون الوجود الالهي متمايزا في ماهية مستقلة بذاتها لا يمكن معرفتها او ادراكها، لكن الاهم من كل ذلك هو في عدم القدرة الانسانية على ادراكهما او معرفتهما (الماهية والوجود). لا عقليا ولا روحيا مدركا متعينا لا في وجود الخالق ولا في معرفة ماهيته.

وبقيت هذه الاشكالية الفلسفية حول ماهية ووجود الخالق متداولة بين اصحاب الطرق والمذاهب الصوفية في اختلافاتهم العميقة، لما ترتبط به هذه الاشكالية في تفسيرهم مذهب (وحدة الوجود) الذي هو مرتكز الفهم التصوفي الايماني. علما ان ماهية الله هي كمثل وجود الله يصعب على فلاسفة التديّن اثباتها، ولا على فلاسفة الالحاد نفيها او اثباتها ايضا ولا عند الصوفية قاطبة، هذا في حال تسليمنا الفلسفي ان للخالق وجودا مغايرا ماهيته.

كما تذهب الوجودية الملحدة في اختلافاتها داخل فهم فلاسفتها انفسهم لها، فمثلا نجد هيدجر لا يتعارض مع سارترفي فهمه الماهية، ويلتقي مع سارتر في مثلا (انه في حالة عدم وجود (اله) خالق، فلابد ان يكون هناك كائنا واحدا على الاقل، وجوده سابق على ماهيته هو الانسان، الذي لا نستطيع تعريفه باي فكرة، لكنه هو الكائن الذي يوجد قبل كل شيء وانه يلتقي ذاته ويبرز للعالم ثم تتم معرفته (1).

رفض سارتر النزعة الايمانية الوجودية في تحديد علاقة الماهية بالوجود التي يعتمدها الفلاسفة غير الالحاديين، وهو نفس المفهوم في لاهوت معظم الديانات التي تصل الى اربعة الاف معتقدا، عدا الاديان التوحيدية السماوية الثلاث الموزعة في عالمنا اليوم. في اعتبار الاديان الموحدة الثلاث وفلاسفتها ان الله هو ماهية تسبق وجوده، وطرح سارتر البديل عن هذا الطرح الايماني الميتافيزيقي ان وجود الانسان هو ماهيته، وفي نفس المنحى ذهب هيدجر مؤكدا مركزية الوجود الانساني،وان الانسان هو ماهيته، وبذلك تملّص من الزام سارتر قوله الوجود يسبق الماهية الانسانية .مؤكدا – هيدجر – بانه لا وجود يسبق ماهية الانسان، وانما لدينا وجود واحد فقط هو الانسان الذي تتداخل فيه الماهوية والوجود في تناوب، ولا اسبقية ولا افضلية احداهما(الوجود او الماهية) على الاخرى .ومن الجدير بالذكر كما المحنا له سابقا، ان انكار ماهية الخالق او الاقرار بها كما هي في وجوده او عدمه، فكلا الرأيين ميتافيزيقيين عاجزين عن اثباتهما ومعرفتهما لا عند الوجوديين الملحدين ولا عند الوجوديين المؤمنون. وان المفهوم هو محض جدل فلسفي ميتافيزيقي لا يرتّب عليه شيئا واعتبره الفلاسفة من مباحث الميتافيزيقا التي لاطائل منها ولا تقود الى نتائج يمكن الركون لها او التسليم بها.

حين يؤكد هيدجر ان الانسان ماهية متداخلة بوجوده ولا افضلية او اسبقية بينهما، فانه بذلك وعوضا عن هذه الاشكالية يقول ان الانسان يختلف عن باقي الموجودات في انه يمتلك (ماهية ديناميكية)، وفي هذا الرد الفلسفي الذكي يدحض المستمسكين بان لله ماهية ثابتة مستقلة، كونها ماهية لا يمكن ادراكها او التحقق منها من جهة، وهي ثابتة ساكنة مكتفية كوجود بذاته لنفسه ان وجدت عند غير الانسان،ماهية بذاتها فقط، ولا علاقة للانسان بها لا في الادراك الواقعي ولا الخيالي او الايماني، ولا بوجودها ولا بالطبيعة ايضا. في حين ان امتلاك الانسان ماهية ديناميكية تعني انه يمتلك وجودا مفارقا يتسّم بامكانية التعرف على خصائصه المنفتحة امام معرفة العالم لها. انها ماهية تفصح عن نفسها وتغني وجودها.وليس مهما لدى هيدجر اولويتها او اسبقيتها في وجود الانسان.

ان في طرح هيدجر الانسان يمتلك ماهية من نوع ديناميكي تبطل الجدل الوجودي حول اشكالية اسبقية الماهية على الوجود او العكس، في حضور ابجدية فلسفية بديلة ان ماهية الانسان هي وجوده، كما ان هيدجر يذهب ابعد من ذلك في مقولته ان الانسان يمتلك خاصية ماهوية متفردة ديناميكية تمنحه وجودا خارج ذاته (ان ماهية الانسان هي وجوده خارج ذاته في العالم،وهذا الوجود ليس مجرد الواقع التجريبي)(2). وان هيدجر يعتبر الانسان ليس وجودا بحاجة الى اثبات، فالانسان هو الانسان كوجود طبيعي نوعي، كما الطبيعة هي الطبيعة وكلاهما الانسان والطبيعة معطى وجودي لا يحتاج التحقق من وجوده الماهوي خارج مدركات الحس والعقل في وعي الذات ووعي الطبيعة والعالم له.

ان اروع عبارة في هذا المعنى وردت عن كانط قوله (ان الوجود لا يستخرج من الفكر) وبهذه العبارة نسف كانط مثالية هيجل الجدلية التي سنأتي عليها لاحقا، كما نسف كانط بعبارته تلك الميتافيزيقا، واخيرا أبطل مفهوم المثالية ان تكون الافكار المجردة بمستطاعها توليد وخلق الموجودات كما في الكثير من مدارس الفلسفة المثالية وفلاسفتها الذين يعتبرون الوجود واقع تصوري في الذهن، وليس وجودا مستقلا عنه. وان عبارة كانط التي مررنا بها مهدت الطريق امام الماركسية في تطبيق جدلها المادي على الانسان والطبيعة والتاريخ، وليس الجدل المثالي الفلسفي الفكري المجرد كما فعل هيجل .

انه لمن المهم التذكير به ان اللغة قرينة الخيال، اكثر مما هي قرينة الواقع غير الملازم لها ادراكيا خياليا . عليه تكون اللغة هي خيال يدرك المواضيع والاشياء عقليا و بطريقتين في التلقي له، الاولى ان يكون التفكير بموضوع ما بلغة حوارية داخلية تحتويها الذات المفكرة خياليا اكثر مما تعني الموجودات والاشياء كوقائع وجودية مستقلة، بما هي موضوعات واقعية يدركها العقل كوجود محايث لوجودها المادي.

الثانية ان واقع الاشياء لا يمكن التعبير عنها انطولوجيا من غير واسطة تعبيرية قد تكون اللغة او طرق غير اللغة باساليب مختلفة تستغني عن لغة الاشياء التداولية، كمثل التعبير عن الجمال والقيم التي لاتحتاج اللغة وسيط ملزم في معرفة الاشياء المتعالقة معها، وفي جميع الطقوس الدينية التي لا تحتاج اللغة المنطوقة.

فمثلا عندما يقول ديكارت في التأملات السادسة (ان ما ماهيتي انحصرت في اني شيء مفكر او جوهر كل ماهيته وطبيعته ليست الا التفكير فقط) .

ونجد قبل تعقيبنا سارتر يقول (ان الكيفية لا تصبح موضوعية اذا كانت اصلا ذاتية) .في مقارنة بسيطة بين الاقتباسين عن ديكارت وسارتر السابقين، يتضح لنا ان جوهر الوجود الانساني عند ديكارت انه كائن مفكر قد يكون تفكيرا ذهنيا غير معبر عنه في الواقع لا كمتعين مادي ولا تعريفا به لغويا مرموزيا اشاريا، مما جعل هوسرل يتساءل بدهشة تفكير ديكارت بماذا؟، وربما يكون هذا التفكير دايلوك او حوار داخلي لا صلة له بالخارج الذي يمكن ادراكه، ويقلل سارتر جدا من ادعاء ديكارت المكابر في اثبات الوجود في فاعلية التفكير فقط، بان (الكيفية) هي احدا صفات الذات الفطرية التي لا تحتاج الى اثبات فهي الوسيلة الوحيدة في اثبات الوجود الانساني، بمعنى ادانة ديكارت في اثبات وجوده فكريا تجريديا فقط، ولم يجب على تساؤل هوسرل عندما اعتبر التفكير في اثبات الوجود عند ديكارت هو (وعيه لذاته) فقط، خارج الغاء ديكارت العالم الخارجي ان يكون التفكير مدركا عقليا به لتغييره، بل ان وجود ديكارت الذي تعين بارتباطه في اثبات الوجود المفكر لذاته فقط، هو وجود سلب لا يحمل اية دلالة ديناميكية لافي ذاته ولا في امكانيته تبادل التأثر والتأثير في العالم الخارجي.

بضوء هذا الفهم الديكارتي في علاقة الذات بالتفكير،كان الرد السارتري عليه مامعناه،ان تكون الكيفية غير موضوعية اذا كانت صفة للذات تتعالق مع الماهية الانسانية غير المدركة عقليا واقعيا،لكن متى ما تم التعريف بها بصفاتها الطبيعية (لغويا) خارج وجودها الذهني فقط، عندها تكون الذات موضوعا لا يدرك ذاته منفصلا عن مصدره، ويتعين وجودا (موضوعا) بالنسبة للمصدر الذي صدر عنه، او كناتج فكري لغوي متعين موضوعا يمكن ادراكه بالنسبة للاخرين الذين يجدونه موضوعا متعينا عبّرت عنه اللغة، او اية واسطة تداول تواصلي تجعله مدركا موضوعيا لغيره.

وبالعودة لمقولة كانط التي ثبتناها في اسطر سابقة ولاهميتها الكبيرة في التمييز بين التفكير المثالي والتفكير المادي، حول علاقة الفكر بالوجود نجد هيجل قائلا (ان طبيعة الواقع يمكن ان تستنبط من الاعتبار الوحيد القائل ان الواقع يجب ان لا يتناقض مع ذاته) (3). هذه العبارة تؤكد الجدل المثالي الذي اقامه هيجل على صعيد الفكر، وقلبه ماركس ماديا، فحسب قوانين الجدل المادي الماركسي الطبيعية الثلاث، فلا يوجد شي في الوجود والمادة والطبيعة والكون (ثابتا) لا يتحرك بفعل عوامل تناقضاته الذاتية الداخلية، والعوامل الموضوعية المحيطة به، والضرورات الحتمية، والذات الانسانية تتناقض ذاتيا وكذلك الحال في تناقضها مع الواقع والاشياء، وتتناقض مع كل ظاهرة حادثة في الواقع المتغير والحياة في حيويتها .

ان من اهم المآخذ التي رفضتها الماركسية بشدة ان تكون الموجودات والاشياء في حالة (الثبات) وعدم التغييرالمتطور المتحرك باستمرار، وان الجدل الديالكتيكي لا يعمل في الافكار المجردة ولا قيمة له او ناتجة عنه كما يرغبه هيجل ومارسه فلسفيا مثاليا. بل ان الديالكتيك مجال اشتغاله الواقع والمادة والطبيعة والانثروبولوجيا والتاريخ وفي كل ظاهرة او وجود يتموضع في الادراك العقلي او الذهن المجرد، اي جميع الوقائع والموجودات والظواهر التي تستلزم استحضار الجدل في وجود التناقض الذي يحكم كل الاشياء ويسبب فيه الحركة والتغيير بعوامل ذاتية وموضوعية، باختلاف جوهري ان الجدل الفكري الذهني المجرد، يختلف جوهريا متناقضا مع الجدل بمفهومه المادي.

انه من المحذور ماديا التفكير ان جدل الافكارنسق عقلي ذهني يمتلك قدرة ذاتية على تحريك الواقع وتغييره. قد ندرك الشيء ذهنيا واردا جدا انما ان تخلق الافكار وجودات واقعية مدركة فهو مستحيل، لان وجود الطبيعة والانسان وكل الاشياء وجود مستقل بذاته ولا علاقة للفكر في تخليقه او ايجاده . وهذا ينطبق على جميع الفلسفات المثالية التي حاولت دحض المادية الماركسية، بمقولات الفكر المثالية التي تزعم امكانية خلق الموجودات والاشياء من الفكر صوريا .

ان الواقع لا يتحدد وجوده كمتعين مادي او فينومولوجيا كماهيات، او جوهر وصفات دونما تناقض جدلي على تغيير الواقع وتبديله المستمر، وقول هيجل او طلبه ان لا يناقض الواقع ذاته سواء اراد به هيجل الوجود الطبيعي او الانسان فهو باطل ولا يحمل مصداقية التسليم به.ولا وجود لواقع لا يناقض ذاته، والا يكون فاقدا سبب وعلّة وجوده، انه وجود واقعي يحمل ادنى صفات الاهتمام به.

ولقد أخذ ماركس على هيجل ان الجدل لا يعمل بالفكر بمعزل عن الوجود والواقع والتاريخ والحياة، فلا وجود حقيقي لشيء او واقع ينتجه جدل الفكر المجرد، وان الجدل ايضا لوحده كما هو شأن الفكر لايخلق موضوعاته الوجودية واقعيا بل ذهنيا كتفكير فقط، بل هذه الموضوعات في الوجود والمادة وتفسير التاريخ تفرض اهمية التغيير فيها عوامل التناقض التي تقوم على الجدل ذاتيا وموضوعيا . وهذه المباحث التي ذكرناها هي التي تخلق ديالكتيك تطورها وليس بمكنة او استطاعة الجدل خلق مواضيعه واعمال الجدل في تطورها. ولا وجود ايضا لانسان متصالح مع ذاته ومتطابق معه في الماهية والوجود،ولا تعتمل في دواخله محركات التناقض التي توجب عليها الخضوع لها في مسيرة التطور والحياة وفي كل مشكلة تواجهه.

ان سارتر يفهم الوجود الانساني على انه خواء مطلق لا قيمة حقيقية له،والانسان انما هو وجود لأجل الموت (عدم)، لذا الانسان كوجود يعتبر اصل العدم واساسه. وفي لا اهمية ان يكون للوجود ماهية تداخله،فعند سارتر الوجود بذاته، والوجود من اجل ذاته، والوجود في الجميع، هو سلب بمعنى اللاوجود خال من اي قيمة حقيقية انسانية في المتداول الطبيعي، وليس الوجود موجودا كي يعقبه عدم بل الوجود والعدم شيئان ليسا متلازمين بالضرورة وحسب، بل (الوجود والعدم) هما الانسان على حقيقته التي جاء بها الى الحياة ليموت ويفنى. وهكذا يكون اكثر مقبولية منطقية ان نقول بثلاثية تلازم (الوجود والماهية والعدم) انهم ثلاثتهم تعبيرات لوجود واحد لاغيره.بل يذهب سارتر الى ان اهمية العدم تأتي ليس كمرحلة لاحقة تعقب نفي الوجود السالب، انما هو اي العدم الذي يعمل في تلازم متداخل مع الوجود يعمل بداخله ومن اجل تقويضه، فالعدم الوجودي هو حتمية الوجود الانساني القلق المقذوف به في اتون الطبيعة والحياة والذي يولد كي يموت .

وفي نفس المنحى يذهب هيدجر قوله :(نحن لا نشعر بهذا اللاشيء الذي هو العدم،لا باعتباره مقولة منطقية، بل باعتباره مقوّما داخليا في تكوين الوجود)(4).اي باعتبارالعدم حتمية يعيشها الانسان تلازمه وينتظر فناءه بها.

(واول ماينبغي ملاحظته ان فكرة العدم في فلسفة هيجل لاحقة على الوجود وهذا بخلاف الفهم السارتري والهيدجري ان الوجود والعدم هما شيئ واحد،بمعنى اننا حسب هيجل لانضع الوجود اولا، لنتداوله بالعدم ثانيا).(5)

وفي هذه التراتيبية الهيجلية ان الوجود يسبق العدم، نؤكد ماذهب له سارتر في سطور سابقة بانه لايوجد لدينا وجود انساني مستقل يعقبه عدم مغاير متمايز عنه، بل هما وجود واحد هو الانسان، الذي يرقب الموت في صورة العدم الذي يلازمه من الولادة والى مماته .

ولو عدنا الى افكار كيركجارد الوجودية نجده (يرفض الجدل التصوري المجرد)(6) لان هذا النوع من الجدل هو فكري مثالي في محاورته الذات الداخلية التي المحنا لها سابقا، والذي اراد هيجل احياءه فكريا مثاليا وفشل . وان كان هذا الجدل المجرد (مطرد متجانس منفصل عن العالم)(7) فهو لا يتماشى مع نظرة كيركجارد (في اقامته بدلا عنه جدلا متقطّعا غير متجانس، هو الجدل الوجداني العاطفي المليئ بالتقطعات والوثبات . كما يرى كيركجارد ان الوجود الحقيقي بما يحمله من عناصر الذاتية والتناقض ينفر منه النسق الفلسفي)(8) ..بهذا المعنى بقي كيركجارد مؤمنا حقيقيا في وجوديته، وابتعد عن التجريد الذهني الجدلي المثالي كما عند هيجل ومن بعده جميع فلاسفة المثالية، والاهم من هذا فسح المجال واسعا امام ظهور وبروز الجدل المادي الماركسي.

في ادانة اعتبار ان النسق الفلسفي المثالي يحتوي ويقرر ماهيات الوجود من خلال الفهم المنطقي الفكري المجرد كما يريد فهمه هيجليا وكل الفلاسفة المثاليين من بعده، وليس كما يفهمه كيركجارد ان النسق الفلسفي وجود مفعم بالوجدانات الايمانية التي ترفض ان يكون الوجود الانساني تابعا للنسق الفلسفي منقادا له او في احتوائه له، وليس خالقا له في وجود الانسان الديناميكي الذي اشار له هيدجر من بعد كيركجارد واشرنا له في السطور السابقة .

انه لمن المهم جدا ليس للفلسفة الوجودية وحدها وانما للفلسفة الماركسية ان وضع كانط هذا التصور الفلسفي النسقي المدهش حقا وباعجاب يلخص ماأخذه عنه الاخرين (فقد اقام هيجل نسقه الفلسفي على اساس المنطق الجدلي الذهني العقلي، وجعل الحقيقة الوحيدة هي المطلق الذي هو الوجود الواقعي بما فيه من روح لا متناه او مثال او عقل كلي توجد عنه جميع الاشياء، بحيث يبدو الفكر وجوديا واقعيا، والوجود الواقي منطقيا عقليا اي انه طابق بين الوجود الواقعي والمعقول)(9) .

والجملة التي حملها كيركجارد على هيجل تنصّب على دحض هذه القضية بحيث يفصل كيركجارد بين العقلي والواقعي، فيبدو الوجود لديه منافيا للعقل معارضا له كما يذهب له حبيب الشاروني . لقد اراد هيجل القول ان ما يدركه العقل واقعيا يتحتم وجوده بالضرورة الادراكيه له.وهي نفس عبارة بيركلي الغارق في المثالية قوله ان مايدرك هو وجود حقيقي واقعي، وكل ما لايدرك بالحواس لا وجود حقيقي له.اي ان حقيقة الشيء هو الذي تدركه الحواس الى العقل صوريا.

كذلك يلتقي كيركجارد بهيجل في فكرة الجدل ذاتها (فهو يرى الوجود في تغير دائم باعتباره ينقسم الى ثلاثة مراحل متداخلة مع بعضها، المرحلة الجمالية، المرحلة الاخلاقية، المرحلة الدينية)(10) وهذا لايتماشى مع الفهم الجدلي الهيجلي الذي يحكم الوجود والمادة والتاريخ في قوانيين الديالكتيك، والاهم ويعارض المادية الماركسية في فهمها المادي الجدلي..وحقيقة ان لا الوجودية ولا الماركسية تؤمنان بطرح كيركجارد الايماني في المراحل الثلاث التي وضعها الجمالية والاخلاقية والدينية.

هذا ليس بمعنى ان كيركجارد كان وجوديا يفهم قوانين الديالكتيك حتى في تطبيقها على تداخل مراحله الثلاث في الحياة، ولا المادية والجدل الذي جاء به بعده، التي وضعها هيجل وفويرباخ وصاغها ماركس ماديا . فهيجل وكيركجارد يفهمان الديالكتيك نوعا من تثبيت الوجود الانساني على صعيد الفكر والنسق الفلسفي كل حسب طريقته في التفكير والمواضيع التي يختارها في تطبيق الجدل عليها، بعكس ماركس الذي اعتبر الديالكتيك ضرورة مهمة وحتمية لتغيير الحياة والتاريخ وليس تجريدا منهجيا على صعيد الفلسفة والفكر وانما واقعيا على صعيد معرفة التطور الواقعي في الحياة .

 

الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف / الموصل

...............................

الهوامش:

1- د. حبيب الشاروني/ وجودية سارتر/ ص14

2- المصدر السابق ص 26

3- المصدر السابق ص 31

4-  المصدر السابق ص37

5- المصدر السابق ص 41

6- المصدر السابق ص 44

7- المصدر السابق ص 50

8- المصدر السالق ص 52

9- المصدر السابق ص 54

10 - المصدر السابق ص 56

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم