صحيفة المثقف

جلال الدين الرومي.. تأملات في المثنوي (١)

احمد الكنانييشعر القارئ لديوان المثنوي بشحنة روحية هائلة ومتجددة كلما امعن النظر في معانيه وتأمل في رسائله التي أراد الرومي ايصالها الى مستمعيه، متسامية ومتجاوزة حدود القوافي، خصوصا تلك التي تبتدأ بحكاية او قصة او عبرة، حيث الدعوة الى مغزى ما تحمله ابياته الشعرية دون التوقف على صياغة الالفاظ او حساب الاوزان، ولعل هذا احد الأسباب التي جعلت من المثنوي يربو على خمسة وعشرين الف وستمائة بيتا من ارقى ما اختطته انامل شاعر في الوجود، اذ كان مهتما بالمعاني دون الفاظها رغم كونها من مقتضيات الصناعة الشعرية، ولم يصرف وقته في إعادة صياغات الفاظ القصيدة والنظر في تراكيبها،وليس معنى ذلك ان المثنوي يبتعد عن الوزن والقافية بل هو متناسق الاوزان والقوافي من دون تكرار او ملل،هي قصائد مغناة تتحسس الموسيقى ماثلة بين بياتها، هو مثنوي العنوان والمعنون بمعنى ان المثنوي هو العنوان الذي وضعه الرومي لديوانه وفي الوقت ذاته هو نوع الشعر الذي نظمه في ديوانه القائم على اتحاد القافية لكل مثنى من الابيات، والمثنوي من جنس الخطاب الملقى على سامعيه، ولم يكن كتابا اختطه الرومي بيمينه في خلواته ليعيد ويصقل في صياغاته البلاغية، وانما هي معان سامية تتدفق من فمه ويتلقفها الكتبة والحفَاظ، وهذا ما يميَز الرومي عن غيره من شعراء الفرس كحافظ و سعدي، حتى قالوا عنه : ان المثنوي قرآن بلغة فارسية، وهذه التسمية لم تأت جزافا بل هي مضمون المقدمة التي كتبها الرومي بالعربية، وقرآنية المثنوي سأقف عليها مليا عند الكلام عن مقدمة المثنوي .

وقد هيمنت شخصيته الفذة المؤثرة على اثنين من مقربيه كانوا كتبة كرام بررة يستنسخون كل ما يتفوه به المولوي و بذات الالفاظ كما تشهد بذلك مخطوطات المثنوي، ولعل ذلك سبب اخر في اخراج المثنوي بهذا الشكل من الدقة والرصانة، اذ كان صلاح الدين وحسام الدين خير ناصر ومعين في حفظ تراث الرومي، وفي خروجه عن عزلته بعد فراقه لشمس التبريزي ومرحلة انقلابه من فقيه كلاسيكي الى عارف صوفي عاشق بحر متلاطم الأمواج لا يهدأ له روع .. ولولا محمد حسام الدين الجلبي هذا لم يكن بين أيدينا سفر خالد اسمه المثنوي .

في مقدمة المثنوي ذات القيمة الأدبية والروحية يقول انه اجتهد في تطويل المنظوم المثنوي ... " لاستدعاء سيدي وسندي ومعتمدي ومكان الروح من جسدي ...ابو الفضائل حسام الحق " . اذن هو كتب المثنوي نزولا عند رغبة حسام الدين، وكان التوقيت في غاية الحسن والجمال لينهي الرومي حياته بأبيات من الشعر هنَ خلاصة ما جاشت به روحه الطاهرة ..

جاء ديوان المثنوي بعد هدوء ثورة الرومي و غزلياته وبعد بلوغه الثامنة والخمسين وفي العشر الاواخر من عمره وهو في قمة نضوجه الفكري وعطاءه الشعري، فتربع المثنوي على قمة الهرم المولوي ليشكل اخر نقطة تحول في حياته .

ثلاثة مراحل قضاها المولوي ليصل الى ما وصل اليه من سمو الروح ليصبح امير العاشقين .

المولوي كان فقيها متبحرا في الفقه قضى شطرا من حياته بين التدريس ومجالس رجال الدين، تلك هي المرحلة الأولى .

والمولوي يلتقي بشمس فتطوى صفحة كونه رجل دين ليتحول الى عارف صوفي عاشق يتدفق الحب من بين جنباته، يشبَه نفسه بطير ماء متسلقا لأمواج البحر الهائج يصعد مع الموج في علاه ويهبط معها في سفلاه :

ما همه مرغابيانيم أي غلام       بحر مي داند زبان ما تمام.

حيث يخاطب متلقيه بأننا طيور ماء بحر والبحر وحده الذي يفهم حديثنا

ولسنا غرباء على البحر ..

والبحر صورة رمزية  تجدها متكثرة في شعر الرومي .

فهو يعتقد انه بحر من المعنويات وهناك جزيرة الرومي والقادم لها يغرف ما امكنه وما اتسع لها ظرفه،

گر شدی عطشان بحر معنوی     فرجه‌ای کن در جزیره‌ی مثنوی

 

تلك هي المرحلة الثانية .

ثم المولوي في العشر الاواخر اكثر هدوءا بعد فراقه لشمس التبريزي، وفي لحظة صمت وتنصت لحسام الدين وهو يلتمس منه كتابا لن يضلوا بعده، ليخرج من عمامته ورقة عليها ثمانية عشر بيتا هنَ  بدايات المثنوي :

بشنو از نی چون شکایت می‌کند      از جداییها حکایت می‌کند  ...

استمع للناي يأخذ في الشكاية    ومن الم الفراق يمضي في الحكاية

ابتغي صدرا يمزقه الفراق              كي ابث شرح آلآم الاشتياق

نائحا صرت على كل الشهود                 وقرينا للشقي والسعيد

... الى آخر الابيات

المهم في المثنوي معاني الحب المتدفق من ذاك العاشق الكبير، اذ لا يخلو دفتر من الدفاتر الست التي تضمنها ديوان المثنوي من إشارات لطيفة من العشق العميق الذي يحمله قلب الرومي للنفس الانسانية ومنها الى العشق الإلهي الاسمى .

فالهمَ الأكبر للرومي هو العشق ولا شيء سواه، وهذه الأرض الخصبة لا يزرع فيها سوى بذرة الحب، هكذا جرى نشيد الحب على لسانه في الغزليات :

بجوشید بجوشید که ما اهل شعاریم              بجز عشق به جز عشق دگر کار نداریم 

دراین خاک دراین خاک دراین مزرعه پاک       بجز مهر به جز عشق دگر تخم نکاریم

فهذا ما لديَ ولا عمل اخر سوى الحب سوى الحب

ولا بذرة لدي سوى الحب اغرسها

في هذه التربة وفي هذه المزرعة الطاهرة .

لازال الكلام في بداياته عن مثنوي مولانا جلال الدين الرومي .

 

احمد الكناني

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم