صحيفة المثقف

بنية النّص وجغرافيا السّيطرة

ابراهيم رحيمكان الصّوت، الحجرّ الأقدم لبنيان الكلمة والكلمة كانت بيت الجسد. نفخنا الكلام روحاً وقمنا بالعوالم أحراراً، فشعلنا الشّمس السّاطعّة في ليل اللّاوجود وبهذا الجمال المصطنع سكرنا وبلغنا ما بلغنا من الفصاحة والظّهور بأمر اللّوغوس، بأمر الإله السّرمدي.

كنا نعلم مِن قبل، ما يحدث، ما يكون، بالشّك لا باليقين والشّك هذا صراطٌ جمعنا حول مائدةٍ أشبعتنا من زادٍ دفين، زاد الوجع والأنين. مَن أنا، من أكون وما هذا القلقّ المترسّبّ لِما سوف أكون!

بوهمنا تداوينا فراغ الأسامي وفُتحت لنا بيبان المكان والزّمان، لدخول جنانٍ قلنا لها بالحرف الواحد، لتكوني خالدةً بصنعنا، لتكوني خالدةً بعدنا.

الكلمة، شراب الحدود التقليدية للطّيران وذهنٌ يشرئبّ بجنون نحو آفاق قاموسيّة جديدة ليس للبقاء فحسب، إنما للفتح والسّيطرة على مقاليد حكمِ سلطنة أوراقٍ لم تكن ممطرّة الاحساس غالب الأمر، لكنّها سوف تكون؛ إنْ جُرّدت من جسمها البارد الخالد واحتضنت دفء الضّفة الثّانية لنهر الغوص والغموض، دون سياط الغصب السّوداء وبعيداً من رياء مسميّات القدر!

السّيطرة قيد حديدي ناعم يجلجل بسلاسل حروفٍ دمويةٍ، عطشةٍ دائم العطش، برنينِ الصاعقة الممتدّة عَنوةً نحو طبقات الباطن البكماء، هامسةً لنا بحنينٍ روحانيٍ لطيف الوميض: يا ابنائي المحاربين وأنتم أيضاً يا ابنائي المقهورين، ها قد بلغتم وادي السّكون الأبجديّ سوياً، فلترقدوا صامتين فخورين بما صنعتم من بطولات، هاربين من وحشة زنزانة الموت الأبدي!

تلكم الحروف اللّائي قد جلست على عرش صوتيٍ قد سُقيّ بدمٍ ناصعٍ شفيف، نافذاً من لذائذ الشّهوة الهائجة تلو انتعاظٍ ذهنيٍّ جميل. شربت فسكرت من كؤوسِ دماء أخواتٍ لها بالولادة وأخرى بالرّضاعة -علمت هذا أو لم تعلم- في سبيل عروشٍ؛ جاهدت في حدود المرئيّات واللّامرئيّات- منذ الأزل- مولّعةً بحروب السّيطرة والانقياد.

الأيادي الخفيّة اللّائي توحّدت تحت رايتا الذّات ومرآة الآخر في جغرافيا الذّهن والبياض، لتكون لها الغلبة الدّائمة ولتصنع وهم المستقبل المتأخّر دوماً - من حرية ومساواة- زادت أرقام القتلى وشرّدّت متبقي اعوان السّلم الخيالي واتباع السّلام الوهمي!

ما من رفرفة عَلمٍ فيما وراء تلال الوعي دون قتلى، قتلى الحروف، قتلى اللّغات وقتلى الأجساد. فما من براءة في الكلمات وليس للكلمات من براءة، إذ الصّمت لغة القتل والقتلى معاً، في ضيافة الأبد الكوني!

أجساد تتهمّش لتبقى الفكرة أصيلة في إيجاد البدائل، مستمرة بالارتواء من ينابيع الحروف والتّشبّع إثر إثارة الاختلاف تلو انحرافٍ معرفيٍ جدير بالتّكوين!

الانحراف انزياح شديد الميلان، قام بقوام الجسد من كلمات حبيسة المعان، مكورّة بقبضتّه التحرريّة وأفرز أخّرٌ، كان الخيال - وحده -  جناحها الملائكي للتحليق، ولا غبار!

الحق، أن الكلمة الكسيحة الرّابضة بحضيرة القناعة والتّحديق الفاتر، كانت تنادي لتشويه الجسد الجالس بين حدّي العوالم الخرساء/المتحركّة - أكثر فأكثر- ليغدو جثةً ساكنّةً ذات تجعيدات وانكماشات باعثةً للغثيان إن لم تكن داعيّة للسأم والوهن!

فصار الحرب إيمان الكلام ومن موجبات التّطوير والدّوام، دون الوقوع في شرك الاسهاب والتَرداد وليس خفي أنّ بين العوالم أحاديث وكلام، بل حروب جمّة لفرض السّيطرة على الدّوام. عالم كبير، كثير المعان لا يجد أي مصلحة لمقايضة السّلطة ومشاركته مع عالم لا يحلم وليس له أحلام، يعلم أن عليه الخضوع بل الرّكوع التّام لسطوة الرّؤية القادمة من قوة قاموس الكلام - الحداثوي ذو المطرقة الفرضويّ- ومنهجه التّعبيري الملبّس بأوزار الحرب تارة وأوزار السّلام تارة أخرى، بغرض التّنكيد والتّكدير وفرض الضّريبة الصّمتيّة - الكلماتيّة - مقابل شعور وجيز، خجول، بشم الهواء الطّلق في كنف هذا السجن لا غير!

إذن لا عدل في غابة النّصوص والحكم بيد من ملك القوة والعرش وحده وقال أنا وصي الكلمة، خليفة الإله والحاكم المطلق لعرش الكلام، أنا اللّوغوس، انتهى الكلام!

و الوقت، هذا العادل الأظلم، يَقضِم من خبز النّسيان ما يبيد على مضضٍ، قديم العظام ويشدّ به بنية اجساد جديدة وعظامْ، تركض فرحةً نحو حتفٍ جديدٍ بفتحٍ جديدٍ لثغورٍ ذهنيّة أبت الخضوع قبل اللّحظة وليتم دورة الفتوحات الدّموية مناهجاً دواليك!

فسار الزّمن بنا وأخرجنا من جيوب الأذهان آلهة الحروب، حروبنا المقدسّة كانت من جنس لذائذ الأوهام، يسود من يسيطر على ثغور الكلام، يسود من يقوم بتسمية الظّلال، يسود من يناطح الظّلام ويخلق ضوءاً للكلمات مدى الحياة.

ما مِن وهم جديرٌ بمأساة الروح، سوى حياةٌ منمّقّةٌ بثياب الحروف - قد تكون بلون آخر زائلٍ آخر المطاف - لكن لا بدّ منه فالوهم قوت الحياة؛ قاتل الموات، فأيّة كلمة تجترح الأمل الأخير، دافعة برقبة الأمس، ماسكةً أعنّة المستقبل وتجرّهما قهراً لملاقاة اليوم ولا تكون قاتلة ومجرمة في هذا الحرب الأبدي بأمر الأوهام!

نحن من سابقنا الرّيح في قتلها لبواعث الصّمت. قَتَلنا، قُتلنا.. قَتَلنا، قُتلنا وأحيينا قتلانا بقتلنا الرّحيم ونحن من دفنناهم أحياء ثمناً لحيواتنا وقلنا لتكونوا شهداء الكلام. هذا القتل إذن، بات خراب جميل وبناء لموتٍ مريحٍ لا يستثني قتلاه من قاتليه!

القتل هذا جريمة وجنايّة جميلة، نقوم بها على حساب أنثى الحرف وتقويض أثرها إثر صراخ الكلام - ذكوري الصّدى ربوبيّ الصّخب- يصمّ آذان القواميس ويحدّ من انتاجيّة الخصوبة القديمة ويفضي آخر المطاف، لانجاب كلام قد يكون راع لرؤى ثوريّة، تُمزّق الخطاب المقدس ذاك وتخلفّه بخطاب مقدس ثان، يكون زنزانةً للموت المثير لا باب خروج منها إلّا في دخولها حياة الممات!

إذن القتل تآكلٌ رباني ذو قدسانيّة داخليّة، قد يمزّق الثّوب الباليّ، ليرفو ثوباً جديداً بخيوط المتآكل الحرفيّ هذا ولا اعتراض وعلى السّلم السّلام.

 

إبراهيم رحيم - الأهواز

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم