صحيفة المثقف

المواطنة والأدلجة.. ثقافة الدعوشة وصناعة الشبيه

رائد عبيستحمل المجاميع المتطرفة المحسوبة على الإسلام اليوم، تسميات مختلفة وجديدة لما هو قديم، ولعل أبرزها "القاعدة" ومن ثم "داعش" الذي أصبح إرهابهما لازمة للدين الإسلامي فكراً وفعلاً، أما إذا تحدثنا عن التطرف، بكونه فعل خارج عن العقلانية، عندها يشمل كل المعتقدات في هذا العالم.

فداعش : هي تسمية لمجاميع متطرفة، تدعي انتسابها للدين الإسلامي، تريد أن تستبدل ما تعتقد إنه خطأ، بما تراه صحيح، أو هي تعلم أن كل ما تعتقد به خطأ، ولكنها أرادت أن تكون أداة تنفيذ لاستراتيجيات استعمارية، ضد الديانات، والإنسانيات، والحكومات، في هذا العالم. لاسيما ضد الشرق الأوسط، ودول معنية منه. مثل: العراق، وسوريا؛ لأنها سمت نفسها بالدولة الإسلامية في العراق والشام، وأرادت حينها أن تؤسس دولتها في هذين البلدين، لتتوجه بعدها إلى كل أنحاء العالم، ضمن سياستها في إلغاء الحدود وامتداداتها العدوانية.

تعززت قناعات بعض الناس بأفكار هذه المجاميع، عبر سياسية الترويج والدعوة والإقناع، التي وَلُد ردة فعل قوية في التفاعل معه، وحول منهم ذوات تشابه تلك الذوات الصانعة لهم عبر فكرة "صناعة الشبيه " التي أوكلت إلى "شيوخ المهمة " مهمة غسل أدمغة الناس، والترويج لفكر الدعوشة وثقافتها، وتحقيق الكسب الانتمائي بإغراء الشباب بقوة وعقيدة داعش.

فقوة داعش اقترنت بالتوحش، والقوة التي تقترن بالتوحش: هي قوة هوجاء وهمجية . لا ترسم حدود لكل ما هو مقدس، وأفعال داعش في العراق وبلدان أخرى من العالم، هي خير شاهد على حجم تحول ثقافة الدعوشة إلى عقيدة، والتي انتهت معها الذات المنتمية (الضمير، النفس، الجسد) إلى شيء لا قيمة له، بفعل أفكاره التي بلورت سلوكاً إجرامياً عند معتقديه مثل فعل تفجير النفس.

هذا ما عمله داعش بعد زراعة الرعب، والخوف في نفوس الناس، في كل دول العالم، وإذا كان موضوعنا العراق، فنجد أن القتل، والخراب، والتهديم، والتفجير، وإزالة واستبدال لكل ثقافة أبناء المدن التي وقعت تحت تأثير وسيطرة داعش، وأفعاله الإجرامية، حاضرة كمَشاهد واقعية، وتَخيَلية عن حجم الخراب الذي طال هذه المدن، فهناك بعض من أبناء هذه المدن تعامل مع ثقافة الدعوشة بالرفض التام، ولاسيما بعد معرفتهم أن داعش هي أحد الطوارئ على ما هو ثابت و مترسخ من ثقافته العراقية، والإسلامية، والعربية المعتدلة التي لا تعتقد بالتطرف، ولا بالعدائية.

وبعضٌ آخر عَرف أن داعش هو راهن قوي يعبر فعله عن ما هو كامن في نفسه، فسارع إلى قبول ثقافته ورحب بها؛ لأنها تمس رغبته في التمثل بمظاهر القوة، والبطش، والرغبة في سحق الآخر، بمعنى قبوله برغبة سايكولوجية.

وهناك أيضاً من رحب بفكر داعش، وسلوكه، ليس اعتقادا أو اعترافاً به فحسب، بل لتوظيفه كأداة انتقام سياسية، واقتصادية، وطائفية، وعشائرية، وحتى إقليمية، فأوجد له حواضن الأمان ."فداعش" ولد من رحم مشوه، ليعيش في حضن آمن، وإن كان مؤقتاً، فقد كفاه أن يظهر، ويسمي نفسه دولة، وعبر فعله الحدود، وأخاف العالم. وهو في الحقيقة أي داعش " تكون من نطفة مشوهة، ونما في رحم مشوه، وعاش في أحضان مشوهه " وهذا التشويه ليس توصيف متصور، بقدر ما هو واقعي ؛ لأن الفكر الداعشي انبثق من ضحالة دينية، ومكونات جينية تاريخية مشوهة، بفعل رواسب التاريخ الموبوء بمغالطات عقائدية، وفهمية، سوقت على إنها الحقيقة، وأصبحت الثقافة المنبثقة منها ثقافة ممسوخة، بل حتى وجوههم مسخت، وأصبح لبسهم القصير وفرض ما يسمى بالزي الأفغاني، واللحى، وإطالة الشعر، وعدم الاستحمام، كلها كونت ملامح القسوة، والسادية، والعنف في سلوكهم. هذه المظاهر تحولت إلى ثقافة تعريفية بالدواعش أنفسهم، وانتمائية لمن هو راض بها، وتقليدية لمن أُرغم على تقليديهم.

فوسائل داعش الناعمة، مثل:الإقناع، والتجنيد، والدعوة للجهاد، والأدلجة عبر المواقع الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والتأليف، والنشر، والمساجد، والمراكز والمؤسسات، ووسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، كل هذه أدوات تسويق لفكرهم، التي سرعان ما ينتهي بمن يتأثر بها إلى حمل السلاح والالتحاق بصفوف القتال مع داعش، فضلا عن التفخيخ، والأحزمة الناسفة، واستخدام الأسلحة المختلفة الأخرى وتهديد الناس بها.

ما أحدثه داعش بالموصل، هو تطبيق لمنهجيته بالدمار إذ عمد التنظيم إلى تخريب المدينة، وقتل أهلها، وتهديم المراقد، والكنائس، والمساجد، وكل دور العبادة، والمعالم الأثرية، والمكتبات، والجامعات، وطالت أفعالهم كل شيء، هذا وقد بدأ التنظيم عبر تخطيطه الممنهج إلى تغيير مناهج المدارس، وزج التلاميذ في معسكرات تدريب خاصة به، بل وفتح معسكرات للأطفال عبر سياسة "صناعة الشبيه" التي لم تكتفِ بعملية غسل الأدمغة عبر الأدلجة ووسائلها، ومهاجمة الوعي، ومباغتته بالفكر الصادم، فأدوات صناعة الشبيه، ترسخ في وعي الأجيال ملامحه بوصفه البطل الموعود، لمستقبل الدعوشة في بيئة قد رصدت من قبلهم لتكون حاضنة ومرتعاً جديداً لهم، ليظهروا من جديد، بدولة أخرى، تبنى في وعيهم الطامح لإزالة مفهوم الدولة التقليدي، ليعبروا به إلى حيث انتمائهم.

ولم يكتفوا الدواعش بصناعة الشبيه الأيديولوجي، بل تعداه الأمر إلى خلط الدماء والأنساب، عبر سياسة صناعة الشبيه بايولوجياً "فالشبيه البايولوجي" ليس أقل خطورة من الشبيه المتأدلج، بل كلاهما يكمل دور الآخر في صناعة مستقبل للدعوشة، لتبقى في جينات ووعي الأطفال والكبار.

فالحديث الإعلامي الرسمي وغير الرسمي، عن مرحلة ما بعد داعش، يقول إنها مرحلة مجهولة يشوبها الغموض نقول فيها إنها مرحلة دعوشية، والدعوشة نقصد بها : مجموعة من الحُزم الفكرية التي نفذت إلى أفكار الناس، واستقرت في قناعاتهم، لتكون طموحاً منشوداً لمستقبل عودة السيطرة ببذور ذلك الفكر، وبمسمى جديد، وبتنفيذ من قبل البطل الموعود الذي سميناه "الشبيه" ففكرة صناعة الشبيه قد تؤتي ثمارها من نطفة وبيضة، أو من فكرة وقناعة.

فالناس جُبلت على تقديس القوة، وما أجمل هذه القوة عندهم عندما تقترن بالعقيدة، ولاسيما وأن المتحدث باسمها شخص يدعي الخلافة، وإعادة سلطة السلف من جديد. فالوعي التأريخي المزيف أنجب لنا على امتداد التاريخ "ثقافات هجينة " وهذه الهجانة ليس بين ثقافة و أخرى، بل هي وعي مأزوم عن الدين، والعادات، والتقاليد والأحقاد، والضغينة، وحب التسلط، والسادية، وأمراض نفسية مستبطنة، وطموح موهوم ومغالطات فكرية. هذا الهجين التأريخي مازال ينتج لنا دولة أو مفهوم دولة تعاني ويعاني من متلازمة عقلية، تشعر بالتوحد منذ ولادتها ؛لأنها وجدت لتكون دولة فرد لا جماعة.

وهذا ما هو ملاحظ من ثقافة الدعوشة وأهدافها في صناعة الشبيه، داعش أبيدت في العراق وسترحل نهائيا من السوريا ولكن ستترك مخلفاتها و بيوضها، لتوفر لها عوامل الزمن الجو المناسب للتفقيس، وسترتد مرة أخرى، عندما تجد أن عوامل الغضب متوفرة بأحقاد طائفية، وعقد تأريخية، وبمحركات استخبارية من قبل دول مثل: إسرائيل، وأمريكا، وقطر، وتركيا، والسعودية، ودول الاتحاد الأوربي، وبعض الدول المجاورة، ودول أخرى دخلت بهذه اللعبة، وشجعت هذا الفكر المتطرف المتمثل بداعش، ومثيلاتها في عالمنا العربي والإسلامي، ومن المؤسف أن دول مما ذكرنا هي عربية وإسلامية، ولكنها كانت سبباً رئيساً من هذا الخراب الذي طال الإنسانية جمعاء .

أين المواطنة من كل ما تقدم ؟ وكيف نبني المواطنة مع مشاريع الأدلجة ؟

المواطن في العالم العربي الإسلامي، يمكن أن نشبهه " بلوحة للرسم الحر" كل من يريد أن يضيف عليها أضاف. وتاريخنا القريب والبعيد،  يشهد على حجم الأصباغ التي رشت في وجهه، فقبل حديث المواطنة، كانت العبودية، والرق، والتفكير القطيعي، والرعوي هو السائد والذي يحمل صفات مختلفة، مرة باسم ثقافة الجاهلية، ومرة ثانية بإسم الإسلام، وثالثة باسم الإيديولوجيات داخل الإسلام، ورابعة بإسم الإحتلالات السابقة على الاسلام والتي اتت بعد انهيار الخلافة الإسلامية على يد المغول، وتتابع الإحتلالات حتى اليوم الذي أخذ أنماط مختلفة ثقافية وعسكرية، فما تلون بشر بقدر تلون أبناء الشعب العراقي والعربي والإسلامي في كل عصر وقرن وحقبة ثقافة جديدة، بالأمس كانت سياسة التتريك وبعدها الاحتلال الإنكليزي وثقافته، وبعده ثقافة الأحزاب التي صنعت تحت مظلتهم، وصولا إلى الاحتلال الأمريكي وما جلبه معه من ما يسمى الإسلام السياسي وأحزابه. فحديث المواطنة وسط هذه الأجواء المريضة، تكون فعلاً مثار للجدل والنقاش المستفيض، والإشكاليات المترتبة والمنبثقة من حديث المواطنة، وما يتعلق بها من أفكار حول الانتماء والأقليات والتعددية، هي إشكاليات معقدة.

إن أخطر ما يهدد المواطنة والحديث فيها، هي هذه التناقضات الثقافية بين ثقافة الأدلجة الحزبية ذات الأفكار الوضعية أو العلمانية من قومية، وماركسية، وجودية، وناصرية، وبعثية، وغيرها كثير وبين الأيديولوجيات الإسلامية من أخوان، والقاعدة، وداعش، والوهابية، و الثورة الإيرانية، ومن تبعهم من أحزاب دينية شيعية، المشكلة إن صراعهما حول موضوع واحد وهو الإنسان المسمى مواطن في مواطنهم أو من يفكر إن يعبر الحدود تحت مفهوم المواطنة الكونية في معنى الأمة. فالمواطن ضمن حدود الوطن هي صناعة حديثة، الحركات الإسلامية تؤمن بمفهوم الأمة، والمواطنة الأممية، وهذا ما تحدثنا عنه ضمن إطار تمدد ثقافة الدعوشة، وإعلانها لدولة رسمها طموحها في ترسيخ حكم ما تسميه الإسلام الداعشي، وهو غير الإسلام المحمدي، الإسلام الداعشي اعلنها منذ البداية بأنه نموذج دموي عن الإسلام السياسي وإنه يرفض كل وجود للأقليات والتنوع العرقي والاثني والقومي والطائفي، وهذا وحده ينسف كل مقومات المواطنة، ويلغي الحديث عنها أمام فرض هذا الفكر لنفسه بالقوة، والدم والسبي والخراب، بقى مشروع الحديث مع هذا الفكر وغيره وما يؤسس له، موضع إشكال فلسفي يتسأل عن إمكانية تحطيم صنمية العقل المنتج لهذه الدوغمائيات وتجزئتها لتكون أكثرَ قبولاً للعقلانية أو لفتح باب الحوار معها.

والسؤال الآخر هو من يمثل العقلانية؟

هل هم من يدعون الاعتدال والوسطية؟ أو من يعادون هذا الفكر ليزيحوه وليأتوا بما يروه بديلا له؟ ضمن منطق صراع الأيديولوجيات. فالمواطنة لا يمكن لها أن تعيش في جو صراع هوياتي أو طائفي أو أثني أو قومي أو عشائري، وهذه كلها مقوضات دولة المواطنة.

 

الدكتور / رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم