صحيفة المثقف

الإعدام وطاقة الفرج

بكر السباتينقال له بخبث بعد أن أمر الحراس بالخروج من الزنزانة:

- أراك ما زلت موجودا.. فلماذا لم تستغل الفرصة لتهرب!؟ فقد هيأتها لك ؛ فلم تستغلها أيها الأبله.

أمعن السجين فيه النظر والخيبة تأكل رأسه، وخاصة أنه كان ينتظر تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه بعد قليل:

- قلت لي بالأمس يا سيدي بأنك تركت لي في هذه الزنزانة ثغرة للهرب والنجاة بروحي، والنتيجة كانت أنني لم أضيع من الوقت ولو ثانية دون البحث عن ذلك المهرب، فتيقنت يائساً من أنك تعبث بمشاعر رجل محكوم عليه بالإعدام.

فرد عليه قائد السجن بجدية وصدق :

- مشكلتك أنك تختار دائماً الأصعب لحل مشاكلك، فقد قتلت رجلاً لمجرد أنه سرقك دون أن تبحث عن دليل إدانته.. وكان من السهل عليك تقديم شكوى بحق خصمك والبحث عن بيانات ترجح حقك؛ فتركت السهل لتطرق باب حتفك.

فتحسس السجين رقبته متسائلا وقد ضاق صدره:

- ما دمت ميتاً لا محالة يا سيدي، فأين هو ذلك المخرج الذي لم أعره انتباهي!!

فرد قائد السجن هازئا وقد ومضت من بين شفتيه ابتسامة انتصار ساخرة:

- فقط! تركت لك باب السجن مفتوحاً، وهيأت المخارج لتهرب دون أن يشعر بك الحراس.

وقبل أن يغمى على السجين من هول الصدمة، صرخ متضرعا:

- لماذا فعلت بي ذلك يا سيدي !؟

- كانت مجرد تجربة في إطار رسالة ماجستير أعدها، لأثبت بأن القاتل أعمى البصر والبصيرة.. حتى أنه لا يرى طاقة الأمل التي قد تفتح له.

**

سبايا واغتصاب

ينقضُّ على الضحيةِ بعد أن نزعَ عن الثور الهائج في أعماقه بزَّتَه العسكرية، وظلت نجمة داود النحاسية تدغغدغ جسده الهائل.. خواره يلتهم كل منابع الرحمة في قلبه الذي حولته الحرب إلى زريبة للثيران.. يشق طريقه بين تلافيف الرغبة النابضة فوق صدر السَبيّة النحيلْ، بعد أن صادر صوت السنونو في قلبها الواجف وانخمد الغناء.. يعتصر كرامتها المكبلة بالرعب بعد احتلال القرية وسبي نسائها الحرائر، ومطاردة رجالها عبر يباب السهول التي تجمعت في سمائها العقبان، وغيبوبة التماهي تكمم عقل هذا الجندي المتغطرس، فتجرف شهوة الذئاب لسانه الزاحف عبر أخاديد لحمها "الرخيص" نحو الخطيئة.. هذه التضاريس الملتهبة مسكونة بفحيح الشيطان حتى هاوية الشبق الذي لا ينتهي.. ويصرخ مغتسلاً بالعرق غارقاً في بحر اللذة وعيناه مغرورقتان بدموع التماسيح ودم الضحية.. والسنونو الجريح. ورجال تحولوا في يباس المنافي إلى جيفة لا يسأل عنها أحد في عالم تسوده الأكاذيب.. يسعل الجندي والذباب يتجمع حول عينيه وعلى طرفي فمه الذي شققته شمس آب الحارة.. ثم تنتفض عصافير خضر أخذت تجلل روح الضحية بالكبرياء صاعدة بها إلى سماء ليست لهم.. وظلت بقايا جسدها المنتهك سماداً للأرض حيث اشرأبت براعم القيسوم والزعتر وشقائق النعمان.

**

التطبيل على الجراح

جمعتني الظروف ذات يوم ببعض الأصدقاء والأقارب في إحدى سرادق العزاء.. وكان الحديث يدور حول غلاء الأسعار، وكنت في حديثي أحمل المواطن مسؤولية ما يجري له لأنه هو الذي ينتخب نوابه المتخاذلين المطبعين وبدلاً من ردعهم يقوم بالتسحيج لهم وكأنهم أنبياء لا يخطئون، وهو ذاته الذي يُسْرَقُ من قبل الحكومة ثم يتقبل الأمر خاضعاً دون أن يفعل شيئاً.. وقد هال الحديث أحد كبار السن ممن يرتدون عباءة مقصبة وقد اعتمر رأسه الأجوف كوفية بيضاء، تجاوز عمره الثمانين أو أقل بقليل، فاقترب متسللاً كثعلب منتوف الريش، حتى استقر فمه بالقرب من أذن أحد المشاركين في الحديث، وأخذ يهمس له بأمر بانت نتائجه على عينيه إذ تقلبتا من الخوف والارتعاد، ليتحول زاحفاً كأفعى نحو الرجل الاخر وفعل معه نفس الشيء، ولحظات تسحب خلالها ثلاثتهم خارجين بصمت من السرادق. وعلمت فيما بعد فحوى ما قاله هذاا الرجل الخبيث المحسوب على جماعة" الستيرة والمشي جنب الحيط" كما أسرّ لي صديقٌ التقط فحيح هذا الرجل ممعوط الريش وهو يحذر قريبيه قائلاً" ابتعدا من هنا فحديث هذا الرجل الشجاع يضعنا بشأنه أمام خيارين، فإما أنه كاتب شجاع لا يخشى في الحق لومة لائم، أو أنه من رجال المخابرات الذين يتصيدون الأبرياء في بهيم الليل" فضحكت في سري وخاصة أن هذا المنافق قد عاد ليجلس إلى جواري هذه المرة، ليعيد ترتيب كلامه على مسمعي مبرهناً على حياديته وحسن ولائه للوطن، لا بل حاول أن يمرر لي ملاحظاته حول الأسعار مناشداً المواطن على إطاعة أوامر أولي الأمر!! وحين سألته كي أعريه من زيفه:

" وماذا عن فلسطين، هل بات الصهاينة أهل حق بها وأنت من تعرض للتنكيل والقتل، هل يرضيك حال المطبعين وخيانتهم لقضيتهم".

شعرت بفرائصه وهي ترتعد كمن ظهر له ضبع مفترس في البيداء، ليرد قائلاً وهو يتلفت من حوله كمن أصابه مس:

"لها الله تلك البلد التي شاء لها الله تعالى أن تحتل، فهذه بلادنا أما فلسطين فقد راحت لأهلها هناك.. المهم الله يستر أحوالنا.. (بدنا نوكل عيش يا أستاذ)"

كدت أبصق على وجهه لولا تلك المناسبة الحزينة التي كانت تجمعنا في سرادق العزاء، إلا أنني ضحكت في أعماقي على هذا الرجل الذي تخيلته ثعلباً منتوف الشعر.

وأدركت بأن النكبة أصابت كثيراً منا بفوبيا فلسطين.. وأمثال هذا الرجل رغم كبر سنه تحولوا إلى فاجعة بالنسبة للقضية الفلسطينية، وهم من يزودوننا بالطاقة السلبية، لا بل استطيع أن أقول بأنهم من ضيعوا فلسطين .. يجمعون المال ويطبعون مع سالب أرضهم ويعلمون شبابنا على الاختباء حتى أثناء الحوار الجاد الذي تكون الحكومة أو القضية الفلسطينية طرفاً في موضوعه..

***

ثلاث قصص قصيرة

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم