صحيفة المثقف

تجليات المنفى واليتم في ديوان: بكر الخطايا

احمد الشيخاويللمغربي العربي الحميدي

على سجعيتها وميل خطابها إلى معجم الغموض المقبول، تظل تجربة الشاعر المغربي العربي الحميدي، تشكل علامة فارقة في المشهد الإبداعي العربي، نظرا لالتزامها بالقضايا الإنسانية، وذودها عن منظومة من القيم التي تحاول رفع الحيف والظلم، عن كائن الألفية المثقل بشروخ الذات وانكساراتها وانعزاليتها.

يكثّف شاعرنا، مفردات الانتصار للروح الإنسانية، خاصة وأنه عانى اليتم وكابد متاهاته، كون كذلك امتحانا إنما يصنع من الذات حالات وجودية قائمة على الاستثناء، ومحاولات ترع الثغرات والفراغات التي قد تتسبب بها معاني الفقد.

يعكف صاحبنا على القصائد التي تترجم معنيي الفقد و المنفى، مغترفا مما يحيل على أفق الابتكار في اللغة والصورة والدال الإنساني، مثلما أسلفنا.

كما أنه يجدف، عبر فعله الإبداعي، ما بين نزعتين رومانسية وصوفية،تعكسان، عموما، مواقفه من الذات والعالم والغيرية والحياة.

 بحيث لا يمكن القول أن كتابته ذهنية صرفة، بقدر ما هي والجة في تخوم الغموض المشروع الذي تمليه أبجديات معاناة مركبة، في بعديها الفلسفيين، ترسم ملامحهما الثرثرة الواعية، المحكومة بآني الانشطار مابين انشغالين، أيضا: اليتم والغربة الداخلية أو الروحية.

نطالع له في إحدى مناسبات الدندنة المصطبغة بنوتات الفقد، قوله، على مضض:

[بين حَفَيف أَوْرَاق الضَّجَر

أَبْحَث عن ظِلِّي فِي بَسْمَة الْقَمَر.

أيها الرَّاحِل

نَظَرُك أَصْبَح أَسِير الصُّوَر.

شاردا في فلك الْجِبْت

يُحَدِّث رَتَابَة الْأَيَام رُفْقَة السَّهَر.

أَمَرَ النُّهَى

كُنْ أَنْتَ لاَ الصَّدَى](1).

إنه عبور حياتي قلق ومنذور لأسئلة الشك،وزوائدها من هواجس وجودية تشوش على إغداقات التوازن النفسي، وهوية الإنساني، في أكثر من صورة وقالب، مستجلب للرّنة الكونية الطافحة بالرؤى الرمادية المتمردة.

كما نقرأ له، كذلك، في موضع آخر، تفجر تيمة الحلم،وإن في صورته الجنينية، الحلم كبوابة إلى المشتهى،خلف طور الانكسارات والتشظي الذاتي القاهر، يقول:

[مَا نَفت الثَّرَى

في مرقد يَشْتَى.

هذا الذي

أنا

يَجْرِي خلف

رَقْطَاء تَسْعَى

في محيط الغيب

لا يُرَى.

جنين حلم يتوارى

وراء الشفق

إلى حفرة المأوى](2).

لعله الخوف من المجهول، يملي وصاياه هنا، ووجه القصيدة، فيما يتم تحقيق المعادلة الإنسانية المفقودة، عبر تلكم الحِلمية المنتقصة من ظرفية الصمود الجزافي، غير القادر على لمس الجوهري في هوية الكائن،ومغازلة وجوده، بما قد يغير مجرى التاريخ،ويمحق هيمنة أخطائنا الممارسة عليه.

ويقول أيضا:

[صمت الجنادل

يزدري صُمّ الحجر.

من

ظَنَكِ الْأَقْدار تُحْرَقُ الْأَشْعار

حين امْتَصُّ ملح حَلَمة الأَبْكَار.

يغمغم السحاب

من وَشْوَشَة شفاه

رياح عاشقة، ضيعها السفر،

ونجوم تُقَطِّر النَّدَى صُبْحاً

بعد

عذر غَيْهَبِ هَطْل المطر.

كَشَيْبِ نَخْلَة

النجوم فاضت على دَيْجُور](3).

هكذا نلفيه، يلوذ ببرزخيته، تضميدا لمعاناة مركّبة تشطر الذات، وتسوّد صفحات الحياة والوجود، لكن من زاوية انقلابي ومناضل، لا يستسلم، يفتح كوة للحلم، يختاره في جنينيته ويحاول إحاطته بالعناية المتوجبة والرعاية التامة، عساه يحص بالنهاية على الدماء الجديدة، المسفة بقلب المنظومة الذاتية والوجودية ككل.

نقتبس له كذلك قوله:

[وِهَادٌ تولد.

وأخرى

تعاود الميلاد.

أنا عابرها.

أهواها حين

تتوالد يرقاتها

داخل شرنقة الْجِوزَاء.

وأكرهها

حين تتآكل أخرى

في بَطْنِ الْجَفَاء.

التيه وحش يلبسني

من تردد مَزِيج الضحكات بالصرخات.

حين

تجف المعنى في حلق الكلمات] (4).

له في كل موقف كتابة جديدة، مزهوة بشعرية الإنساني، عبر تجديد معانيه،رموزا وصورا ودلالة، فهو لا يكف عن الخلق والابتكار فيما يدرأ عنه معرّة استنساخ الذات واجترار المتقادم، حتى على امتداد خرائطية النص الواحد، نجده يغرق في توليد الدوال، ومنحها تصاعدية وتناسلات تحقق مثل هذه الأغراض المترنة بروح الشعرية المنتصرة للهوية الإنسانية، بدرجة أولى.

وفي موقف آخر، طاعن بلذة الإبحار في النرجسي، ومباهيا بلغة البياض، ومعتنيا بشعرية ما هو جواني، مختزل في مركزية الذات، نقتطف له المشهدية التالية، إذ يقول :

[وأَلْبِسِ الْهَمَّ الصَّمْت

داخل الذات.

الحزن

إِنْ رَأَى عَوْرَتَه

رَكَضَ وراء عُرْيِ ظِلِّه

في وديان العدم.

على وجه السحاب

كَفِّن الْيَأْسَ

بحَالِكِ غُبَارِ الْعَدَم

وأعْتَزِلْهُ

فِي بَكَرَةِ الْأَمَلِ

لِتَرىَ ضَحِكَ الصُّبْح

يَرْشِفُ

دُمُوعَ بُكَاءَ الْفَجْرِ](5).

إنها خلفية غامزة بازدواجية الهوية الوجودية، تقرّ بها قصائد الشاعر المغربي العربي الحميدي، تتقنها الديباجة الفلسفية، الرافلة بلبوس تقاطعات سمعية ــــ بصرية، مخوّلة للتفشي السلسل، وإن نعت بالغموض، لخطاب متقلب ومحاصر بأسلوب مزاجي صرف، انجذابا لنزعة صوفية ما تنفك تؤجج أسئلتها، في العمق توليفة اليتم والمنفى، في حدود جوانية، تروم ولادات ثانية قد لا تجود بها سوى كتابة بهذه المعيارية وعلى هذه المقاسات التي تلامس سقف الذهنية، دون أن تنخرط في تجاويفها أو تتورط بتيماتها.

 

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

.........................

هامش:

(1) مقتطف من نص " كن أنت لا الصدى" .

(2) مقتطف من نص " حنين المأوى".

(3) مقتطف من نص " كشيب نخلة".

(4) مقتطف من نص " عروج الرغبة ".

(5) مقتطف من نص " بخار الظن".

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم