صحيفة المثقف

ثورة الجوكر..عالم ما بعد التكنولوجيا الرأسمالية

مهدي الصافيضحايا ام عصابات: لعل جوكر لعبة الورق لم تكن تعني شيئا لمن يلعب الورق للتسلية، لكنها تعد لعبة حظ الرأسماليين الاقوياء، قادة العالم الجدد..

الفقر والفوضى.. التهميش والحرمان.. الحياة العصرية السريعة ومعاناة الطبقة العاملة وصعوبة ايجاد فرص العمل للعاطلين.. الثراء الفاحش وزيادة تهميش وسلب حقوق الطبقات المسحوقة..التفاؤل الاعلامي المزيف والرأسمالي لاسواق المال والاعمال والاسهم .. .وتراجع القدرات الشرائية للمجتمع ..وصعوبة استمرار اصحاب المصالح التجارية الصغيرة وكفاحهم من اجل البقاء..حيتان واسماك صغيرة وكبيرة.. عالم متوحش في الجنوب  ورأسمالي مرفه في الشمال حتى وان كانت البوصلة لاتشير الى حقيقة الاقطاب..فن وموسيقى الشوارع ودور الاوبرا الملكية.. الخ.

هكذا هي صورة العالم المتحضر كما تبدوا عبر وسائل الاعلام المأجورة والمسيسة (المملوكة للطبقة الرأسمالية)..

التهريج او المسرح الساخر قد يبتدأ احيانا بمشاهد الضحك والسخرية، لزيادة شد وتفاعل الجمهور مع فكرة النص الاولية، الا انه في نهاية اللعبة او المسرحية يظهر جوهر الحقيقة "المعاناة"

وهي عبارة عن صندوق او وعاء كبير يحوي كل المفاهيم والتعابير والصور والتفاصل الاجتماعية اليومية عن تلك الارقام المهمشة في هذا العالم المفتوح،

الطبقات الاجتماعية القابعة خلف الطبقة المتوسطة، تلك التي يمكن ان ترى فيها العديد من الحقائق الغائبة او المغيبة عن الرأي العام، من فقر وظلم، وفشل وماساة، وتشرد وانتشار لكثير من الحالات والظواهر الاجتماعية السلبية السيئة (جرائم السرقة والاغتصاب، المخدرات، الجوع، الابتزاز، الفشل الدراسي، البطالة، الخ.)،

لاشيء يمكن ان يخفي تلك الحقائق المرة، عدا ناطحات السحاب، والابراج العالية، ووهج الاضواء والاصوات والاجواء الصاخبة اي مظاهر العولمة المعروفة..

لم يكن ينظر للسينما (وللفن عموما) على انها انعكاس طبيعي لرؤية الفلاسفة والمفكرين والكتاب العباقرة والرواة او الادباء للظواهر الاجتماعية السلبية او النقدية او حتى البحثية، مع انها انتقلت عالميا نهايات القرن الماضي الى خوض تجربة طرح افكارالخيال العلمي عبر الافلام السينمائية المكلفة، التي حملت تلك الصفة، ثم تنوعت صناعة السينما، وازدادت تأثيراتها في اوساط المراهقين والشباب، وارتفعت ارباحها بشكل كبير، ليس الامر راجع فقط لتطور اساليب واليات وادوات صناعة السينما الحديثة، انما الى المواضيع المطروحة بشكل واسلوب وطريقة ورؤية فكرية عالمية متجددة، عبرت الحدود والبحار والمحيطات والقارات وحتى الهويات، وكأنها مراكز ابحاث متنوعة ومتطورة وشاملة ايضا، لهذا بقيت محافظة على تصاعد نسبة جذب المشاهدين والمتابعين ولمختلف الفئات والاعمار.. .

كل الثورات تبدأ من الطبقات المسحوقة المهمشة، تخرج بقوة هائلة الى الشوارع كالطوفان، نتيجة تراكم العديد من المشاكل والظروف الاجتماعية الكارثية، ولكنها قلما تأخذ طريقها للاصلاح الجذري للدولة والمجتمع، حالة من الصراع الدائم بين الفقراء والاثرياء، بين الجماهير المسلوبة الارادة (هم نتاج البيئة المحطمة التي لاتملك قوة غير قوة العنف والاصطدام بمظاهر العولمة)، وحفنة من الانتهازيين المنافقين المرفهين، حرب الهيمنة والسيطرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، صراع دائم بين السيد والعبد، هذه المواجهات او الصدامات المتداخلة، التي كانت شعارا او تعبيرا عالميا في السابق، يقسم الدول والمجتمعات او الشعوب الى معسكرين" الاشتراكي والرأسمالي"، هي في الحقيقة صراع اثبات الوجود الفوقي للطبقات الحاكمة للعالم، المستمرة منذ القدم(الامبراطوريات او القوى العظمى)، بين قوة السلطة والمال وفرض الهيمنة المطلقة على الشعوب.. .

لماذا يتأثر العالم او الشباب بالنتاج الفكري او الثقافي الفني السينمائي الحديث، ويجد سرعة في التفاعل والاقتباس وتقمص الشخصيات المفترضة او الخيالية، لان الفعل والاداء والاسلوب الحضاري التكنولوجي المرئي والمسموع المتقدم، اصبحت مديات قوة وفاعلية وواقعية تأثيره في العقل الجمعي اكثر من النتاج الثقافي الورقي او المحكي.

عالم التكنولوجيا اخذ الاجيال الى عصر الحضارة الفضائية، وبات الامر اقرب الى فكرة التحول الكامل للعالم الافتراضي العلمي، وجعله حقيقة واقعة قابلة للتحقق والتطبيق، اذ لم يعد صعبا ان يتنقل الناس بين احياء المدينة الواحدة على سبيل المثال بالتكسي الطائر، وبالقطارات الفائقة السرعة، وانجاز الاعمال التجارية عبر اسواق الشبكات الالكترونية، الخ..

لماذ يصف الرأسماليين ازمات التجمعات العشوائية او الجرائم الاجتماعية المنتشرة بين الاحياء والطبقات الفقيرة بأنها تمثل حالة مرضية طارئة، لانهم لايريدون ادانة انفسهم، وبان سياسات اداراتهم الفاشلة للدولة وانظمتها الاقتصادية والمالية هي وراء تدهور الواقع المعاشي والاخلاقي لتلك التجمعات المهملة، عبر فرض النظام الضريبي القاس جدا على الطبقة المتوسطة واصحاب الدخل المحدود، وزيادة تعقيدات وصعوبات ظروف العمل الغير مناسبة، وبيع الخدمات العامة للقطاع الخاص، ومصادرة ثروات الشعوب، واعتبارها جزء وجسد غريب عن ثروات الاوطان الطبيعي، تخضع احيانا لحاجات ورغبات السوق واسعار العرض والطلب، بل تحولت معاناة تلك الطبقات الاجتماعية المضطهدة الى وسيلة للتجارب الرأسمالية المتكررة (تغير شروط وظروف وعقود وطرق العمل، الخ.)، تجر وتدفع عنوة الى دوامة الصراع والمعاناة والاستنزاف الدائم للجهد النفسي والبدني والعقلي، دولة انظمة دفع الفاتورات الشهرية، مع انها تظهر للعالم وللدول الفقيرة او الفاشلة على انها مستقرة، وان الادارة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية ناجحة نسبيا، عبر تصدير الثقافة الاعلامية المصطنعة، ومن انها ايضا محافظة على مستويات خدمية مقبولة للعيش قرب مرحلة الدخل المتوسط او المحدود، ولكنها في حقيقة الامر ليست كذلك، ترى هناك صور اجتماعية محجوبة عن الرؤيا العامة للمجتمع، وان الروح الانسانية والذهن البشري متعب ومشغول بشكل متصاعد في مسالة ضمان الاستقرار المعاشي الطويل الامد(واعتبار على سبيل المثال في احدى الدول عراك احد المراهقين مع مراهق اخر من اجل سرقة حذاءه الرياضي الغالي الثمن مجرد جريمة اعتداء، وليست ظاهرة غريبة تعكس حجم الفقر والحرمان، او ان تكرار جرائم الرمي والقتل العشوائي في المدارس والاماكن العامة حالة مرضية طبيعية، الخ.)، تلك الصفة المطاطية المستخدمة لتبرير الجرائم المرتكبة من قبل ضحايا الراسمالية، تبدوا انها متناقضة لعبثيتها اي كنا تسمى او يطلق عليها جرائم المجانين او اصحاب الحالات والاضطراب النفسي، ولاتعد في حساباتهم البحثية الرسمية ظاهرة او حالة تستحق التوقف(كظاهرة الانتحار او ادمان الكحول والمخدرات الخ.)، بينما نرى انها كانت جزء مهم من فكرة فلم الجوكر، الذي اعطى صورا ومقاطع ومشاهد وافكار تحتمل عدة تفسيرات ومعان متشابكة، الغاية منها على مانعتقد هو فتح باب النقاش الواسع داخل جميع الاوساط والطبقات الاجتماعية والفكرية والبحثية، لتحديد الاهداف والغايات والاخطاء والمسؤوليات ومكامن الخلل،

فالفلم لايعطي رؤية خيالية او فوضى واقعية عن المجتمعات الحالية، انما يؤشر على ظاهرة غائبة لايكترث لها، قد تكون مستقبلا بركان ثورة هائج لايمكن السيطرة عليه بسهولة، مع ان مراكز الابحاث الدولية المعروفة تلمح في العديد من تقاريرها الدورية على ابراز عدة مشاكل اجتماعية حساسة، لكنها لاتنزل الى عمق وجذور المشاكل والازمات الاجتماعية، فهي تبقى بالتالي ممولة من الانظمة الراسمالية المهيمنة عليها..

الحلول..

فلم الجوكر لم يعطي الحلول

 لكنه حاول (كاتب ومخرج الفلم) جاهدا اظهار الاسباب الرئيسية التي تواجه طبقة الشباب او المراهقين الدائمة في الدول الرأسمالية او الفاشلة.

من هنا يمكن ان تطرح عدة نقاط نعتقد انها مهمة، قد تكون مدخلا مقبولا لمناقشة الحلول المنطقية القادرة على انتشال الاحياء والطبقات والفئات المهمشة في المجتمع، منها:

اولا: اعادة النظر بمايسمى منظومة القيم الاجتماعية بما يتماشى مع الحضارة التكنولوجية-الفضائية الحديثة

ثانيا: الاستماع جيدا للشباب واعطاءهم دورا بارزا في الحياة السياسية والاجتماعية(كما حصل في بعض البلدان الاوربية من تسليم قيادة البلد للشباب او الشابات)

ثالثا: اعطاء المزيد من الحقوق والحريات العامة والخاصة للمرأة والمساهمة بتشجيعها واخراجها في بعض البلدان المغلقة الى سوق العمل والحياة السياسية والاجتماعية

رابعا: العمل على تطوير المدن الريفية بغية الغاء تلك التسمية المجحفة بحق ابناء تلك المناطق، واعطاءها كافة امتيازات المدن الرئيسية

خامسا: الغاء فكرة مواطن او انسان بلا راتب شهري او بلاسكن، لمنع تكون الاحياء العشوائية اوالطبقات الاجتماعية الفقيرة، عبر العمل الجاد على ايجاد المساكن الحكومية، ورواتب الاعانة او الضمان الاجتماعي والصحي

سادسا: تقليل الجشع الرأسمالي، بضمان ظروف عمل مناسبة للطبقة العاملة، وتقليل الضرائب المفروضة عليهم وزيادتها على الاثرياء (الغاء ضريبة السلع والخدمات التي تضر بالطبقات الفقيرة وتحارب اصحاب المصالح التجارية الصغيرة)، وابعاد القطاع الخاص عن المؤسسات الخدمية واعادتها الى يد القطاع الحكومي العام

سابعا: التطوير الدائم للقطاع التربوي والصحي العام، وجعله اقرب الى مستويات التعليم وقطاع الصحة الخاص

ثامنا: ابعاد الاعلام المأجور عن اهانة تلك الطبقات المسحوقة، والقاء التهم واللوم عليهم، وعلى اعتبار أنهم يضرون بنظام الرفاهية العام، ومن انها طبقات كسولة خاملة عالة على الدولة والمجتمع، والكف عن التعامل الفوقي العنصري الجاف مع مشاكلهم الاجتماعية الصعبة.. .الخ.

لهذا نقول ليس صحيحا ان تتهم بعض الدول او اعلامها المغرض ثوار الدول المنتفضة ضد الانظمة الطبقية الفاسدة بأنهم عصابات خارجة على القانون اشبه بما يسمى عصابات الجوكر، واعتبارهم ضحايا النظام الراسمالي العابر للقارات

الضحية ليس مجرما حتى وان دفعته الظروف القاهرة لارتكاب الجرائم المدانة اخلاقيا واجتماعيا وقانونيا، ان كانت تمثل له الاسلوب والوسيلة الوحيدة المتاحة امامه للتعبير عن رفضه المطلق للوضع القائم المفروض عليه..

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم