صحيفة المثقف

الدلالة الميتافيزيقية للألفاظ (2)

مجدي ابراهيمربَّما لم نعدْ نذكر اليوم على وجه التحديد مقولة "سارتر" التي كان يقول فيها :"لا يُلامُ الفنان إذا هو أغفل في عمله الفني كل القواعد والرسميات التي تواضع عليها سابقوه، وترسِّمتْ بها أعمال الآخرين"؛ انطلاقاً من القول بحرية "العمل الفني".

هذه العبارة تركت في نفسي أثراً جعلني إذْ ذَاكَ أتناول ألفاظ اللغة بما نطلق عليه في اصطلاح الفلسفة كلمة "ميتافيزيقا"، تناولاً فنيَّاً منعاً لِلَّوم الذي يُلاقيه الكاتب كما يلاقيه الفنان إذا هو أغفل في عمله الفني كل القواعد والرَّسميات المتعارف عليها.

وليس من شك عندي أن للألفاظ دلالتها الغيبية، فإذا تناولتها من هذه الجهة، أمكنك أن تتناولها كذلك تناولاً فنيّاً، إذْ الفن بجانب كونه يصف الواقع ويصوِّره فهو كذلك يعلو عليه ليغيِّره، يعلو عليه من مستوى الوصف والتصوير والتقرير إلى مستوى الدلالة الخفيِّة الغائبة، ومن المحسوس المُشاهَد إلى ما عَسَاهُ ينبغي أن يكون؛ فالتغيير الذي يطرأ على الغاية من الفن هو تغيير للواقع لـه لا شك دلالة ميتافيزيقية أو "ما ورائية".

وكلمة ميتافيزيقا تعني عادة في اصطلاح الفلسفة ما وراء الطبيعة، أو ما بعدها, وقد أشتهر اسم "ما بعد الطبيعة" فيما يقول المؤرخون في محاولاتهم الفلسفية بالتفسير ( = تفسير ما بعد الطبيعة) الذي أضطلع به الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، ولدى بعض "المدرسيين" من أهل القرن الثالث عشر الميلادي.

وعليه، فإذا نحن افترضنا أن للألفاظ اللغوية طبيعتها وواقعها الذي نحتكم، فنحكم عليه فيما هو مُتداول من بناء الكلمات وصياغة الجمل والعبارات؛ فإنّ لهذه الطبيعة اللفظية "ما وراءها" الذي نفهم منه معانيها الرامية إليها، وفوق ما ترمي إليه من دلالات وإشارات؛ فكثيرٌ جداً هم الكتاب الذين يكتبون دون أن تأتي كتاباتهم مُعَبِّرة عن "ما ورائها" يستقرُ عليه فهم من يدرك أن للألفاظ ما ورائيات، وأنها لا تكتب إلا لتشير إلى فكرة بعينها أو "حالة" تملكت نفس صاحبها، أراد لها أن تكون، وأنه كلما أحكمت صياغة اللفظ وبناء العبارة أحكمت تباعاً درجة وضوح الفكرة التي في جوف العقل.

وفي جوف العقل أفكار ومعاني وإشارات لا تعْتبر إلاّ باللفظ حين يُؤخَذ المعنى من اللفظ، فعنايتُنا باللفظ إنْ هي إلا عنايتنا بالمعنى قصداً. وإهمالنا للّفظ من قلة اتساع المعاني وزيادتها فينا، ومن قلة حظ النفس لتحصيل أجزاء النظر في حقيقته بأصوله على ما قال الشيخ زَرُّوق في هذا النَّص التالي من قواعده :" يُعتَبر اللفظ بمعناه، ويؤخذ المعنى من اللفظ؛ فكل طالب أعتنى باللفظ أكثر من المعنى، فإنه تحصيل المعاني، وكل طالب أهمل اللفظ كان المعنى بعيداً عنه، ومن اقتصر على فهم ما يؤديِّه اللفظ من غير تَّعمُّق ولا تتبُّع كان أقرب لإفادته واستفادته، فإنْ أضاف لفهم المعنى أجزاء النظر في حقيقته بأصوله اهتدى للتحقيق؛ إذْ العلوم إنْ لم تكنْ منك ومنها، كنت بعيداً عنها. فمنك بلا منها فساد وضلال، ومنها بلا منك مجازفة وتقليد، ومنها ومنك توقف وتحقيق، ولذا قيل: قف حيث وقفوا ثم سرِّ ..!!" (أ . هـ).

ويشير نصُّ "الزرُّوق" إلى دلالة خفيّة باطنة ربما كان أجلاها وأوسعها عندنا هو امتزاج العلم بالمعلوم أو الذات بالموضوع، " إذْ العلوم إنْ لم تكن منك ومنها على ما قال، كنت بعيداً عنها ". ولا شك أن العلوم التّامة والأفكار الكاملة (أعنى علوم التحقيق وأفكار الأصالة المعرفية)، لا يتسنى تحصيلها إلّا بسلامة الصدر ونقاء الضمير. وما العقل إلا التابع المنقاد، وما الجهد المبذول إلا البصيرة الكاشفة والرؤية الحاضرة والنظر الحصيف الحادّ اللمّاح.

أقلُّ مجهود يجدي نفعاً مع سلامة الصدر ونقاء الضمير. وأكثر الجهود المضنية لا قيمة لها بالمطلق مع خبث الدخيلة ولوثة السريرة والحقد المدفون.

مَثَلُ العلوم وتحصليها كمثل الرؤية تقع على البصر أدنى عارض يؤثر عليها ويعوق رؤية البصر لها. وكما أن البصيرة كالبصر يتأثر بما يشوبه ويعارض عليه، فكذلك البصيرة محل كشف العلوم كلها، من مشكاة النور تستمد مددها؛ فإذا صدأت المشكاة فلا نور ولا طاقة ولا علم ولا عالم ولا معلوم.

وعلى هذا؛ فإنّ الفكرة إنْ هى إلا خاطر يخطر ويتفاوت قوة وضعفاً حين يخطر، فإذا وجد هذا الخاطر مدداً من الألفاظ الدالة على خَطْرَته، صيغ بوضوح نفهم منه دلالة الفكرة في رحم العقل، أمّا إذا عبَّرتَ عن خواطرك بقلق واضطراب فيما تريد أن تعبِّر عنه من خواطر، جاءت أفكارك وكأنها لا تمتُ إلى عالم التفكير بصلة، لكأنك التقطتها التقاطاً من ألسنة الناس وأفواه المتحدّثين (كالثقافة الشفاهيّة لا تستند إلى حصيلة فكرية مُقرَّرة بآثار التدوين)؛ غير مشيرة إلى ذات نفسك ولا هى ماضية حسبما تريد إلى غايتها في باطن النفس كما أردت لها أن تكون؛ لأن قلق التعبير واضطرابه معناه قلق في التفكير واضطراب في تصورات الإدراك الذهني.

أي نعم! قلقُ التعبير واضطرابه معناه قلقٌ في التفكير واضطراب لاشك فيه في الإدراك الذهني؛ إذْ مراعاة اللفظ لتوصيل المعنى لازم كمراعاة المعنى في حقيقة اللفظ، كما يقول الشيخ زرُّوق، فلزم ضبط المعاني في النفس (أولاً) ثم ضبط اللسان في الإبانة عنها، والأصل المتكلم في الأول أصلٌ في الثاني؛ فمن هذا الوجه وضع الأئمة لحن العامة، ونبّهوا على وجوه الغلط في العبارات. وربما كفِّر وبُدِّع وفسِّق مُحقق لقصور عبارته عن توصيل مقصده بوجه سليم عن الشَّبّه. وأكثر ما وقع هذا الفن على حد تعبير الشيخ زَرُّوق كان للصوفية حتى كثُر الإنكار عليهم أحياءً وأمواتاً. وربَّما قُبِلتَ الحقيقة من رجل، ولم تُقبل من الآخر، بل ربما قُبلت من شخص في وقت ورُدَّت عليه من آخر، من اتحاد لفظها ومعناها".

هذا دليلٌ يعطيه الشيخ زَرُّوق على أن قلق التعبير يحمل مساحة كاشفة عن اضطراب الباطن وتوتره، فيؤدي اضطراب الباطن إلى اضطراب الإدراك وتوتر الإفصاح؛ وعليه يلزم ضبط المعاني في النفس أولاً؛ فإذا غَابَ الإلزام ووقع الصوفيّة في هذا الجانب من غيبة ضبط المعاني؛ فلتجاربهم الروحيّة مع الواحد الحق، وأنها لتجارب يَلزَم عنها بالبداهة التوتر كما يلزم الاضطراب.

قِيمةُ اللفظ في أصالته ومعناه، وهو مع هذه الأصالة وذاك المعنى يُسَاير في الوقت نفسه عمليَّة التفكير؛ ومن التفكير العالي والراقي والمستنير ما يحتاج إلى ألفاظ خاصَّة (دالة) كيما تعبَّ فيها دلالات الوعي وأنشطة الفكر، ووهج العناء فيما تمخَّض عنه عقل المفكر وذوق البصير حين فكر كلاهما وأراد التفكير والتعبير.

تشي هذه العبارات؛ بأننا إذا عَدَدْنَا اللغة جزءً لا يتجزأ من عملية التفكير، استبعدنا كونها مجرَّد تعبير عن أفكار تكونت، ومن ثمَّ حكمنا بأنه من المُحال أن يتغير للناس فكر دون أن تتغير اللغة في طريقة استخدامها؛ لأن اللغة هى دالة الفكر أو هى نفسها مجلى للفكر وترجمان له، ولأن ثورة اللغة لا تنفصل عن ثورة الفكر، بل هى هى الفكر : تنعكس عليها طريقة التفكير واستخدام الناس لها في مدارج الثقافة العليا لا في تصاريف الحياة اليومية.

ألفاظُ اللغة كالحياة، لا يستطيع أحدُ أن ينكر ما فيها من مدلولات؛ فإذا وضحت أمامك مدلولاتها، ميزتها عن غيرها على الفور كما يتميز الحيُّ من الميت والصالح من الفاسد المعطوب، لكن تمييزك لها يرتد إلى "الصورة الذهنية" التي انفتحت لك من خلال اللفظ فبانت لديك حياته الصالحة للحياة أو ظهر لك فساده المعطوب. وما هذه "الصورة الذهنية" إلا المعاني من حيث وضِع بإزائها الألفاظ، كما عرَّفها "الجرجاني" في "التعريفات"، أو كما سمَّاها "كانط" في القرن الثامن عشر, "بملكة التصورات"؛ فهى صور حاصلة في العقل.

والصور الذهنية؛ كما قال الجرجاني، من حيث إنها تقصد باللفظ سُميت معنى، ومن حيث إنها تحصل من اللفظ في العقل سُمّيت مفهوماً، ومن حيث إنه مَقُولُ في جواب ما هو؟ سمِّيت ماهيَّة، ومن حيث ثبوته في الخارج سُمِّيت حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار سمِّيت هُويَّة. ولك إنْ شئت، أن تلاحظ مثل هذه الحيثيات، كلها تدور في فلك المعنى، فما خرج وجود إلّا عن معنى ودلالة ولا استقامت حياة بدونهما.

ولنذكر في هذا الصدِّد أن الحياة كلها إنْ لم يكن فيها من المعنى ما من شأنه أن يدل عليها فيحياها المرء الحيُّ ويُملي عليها بإرادته قيم الحياة مجتمعة؛ فقلَّ أن ندرك لها دلالة نحيا بها، كما تحيا الحياة، وكما ينبغي أن تُعَاش؛ وكذلك ألفاظ اللغة: إنْ هى إلّا صورة من صور الحياة تصوِّرها وتحيطها بالتعبير والتصوير على مُتداول الألسنة الحيّة والعقول المُفكرة التي تنظر في أوضاع الحياة فتحلُم بتغييرها وفق معان تتعدد وحيثيات تُتَصَوَّر إلى عالم أفضل غير ما يعج به الواقع من آفات ومصائب وكوارث.

ألفاظُ اللغة التي تبدو أحياناً كما لو كانت مسحورة، وسحرها في هذا "الخفاء"، يُعيننا أحياناً كثيرة على الاستعارة بُغْية التقريب، لاسيما لو كانت تلك الاستعارة لشيء لا نجد لـه معنى متعارفاً؛ لأنه من قبيل الوجدانيات. وقديماً قال أحدُ المفكرين الممتازين هو ابن خلدون : "إنَّ أوضاع اللغة إنما هى للمعاني المُتَعَارِفَة"؛ أو شيئاً من هذا القبيل، فإذا نحن لم نجد لفظاً نودعه معنى لهذا الوجدان الغائر الثائر على الدوام، كُنَّا كمن يَسْتعير اللفظ من دلالته الحقيقية إلى دلالته الرمزية، أو من مستوى الواقع المُقرَّر المفهوم إلى مستوى الدلالة الغائبة الخفيّة. ومن هنا ساد بيننا التعبير الشائع بضرورة قراءة "ما بين السطور"، فماذا تَعْني كلمة "قراءة ما بين السطور" هذه ؟!

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم