صحيفة المثقف

الترجمة والفلسفة.. رهانات التواصل والهويّة

عامر عبدزيد الوائليالمقدمة: تعد الترجمة الجسر الذي يمكّن الشعوب من التقارب، إذ تؤدي دوراً بارزاً في نقل الأفكار والآراء والثقافات. ومن ثم فان الترجمة كحقل معرفي ومجال للدراسة فهي قد اصابها تحول مهم نقلها من كونها كانت تدرس في سياق عمليّة تعليم اللغة داخل حقل الأدب المقارن، الا أنها أصبحت جزءاً فعالاً من مقررات اللسانيات المقارنة، جامعة بين الجوانب النظريّة والعمليّة، فالنظريّة بالمعنى العام هي نوع من التفسير لشرح كيفيّة حدوث ظاهرة طبيعيّة ما، بشرط تحقق حدوث هذه الظاهرة وعدم وجود نزاع في حدوثها، ويتزايد التأكد من صحة النظريّة عندما تقدِم تنبؤات بشأن ظواهر غير مثبتة ثم يثبت صحتها بعد ذلك.

رهانات الترجمة عربياً: نجد أن الترجمة قد طرحت مدلولات متباينة بين دعاة الاختلاف والتحديث من ناحية ودعاة الهويّة الذين عدّوا الترجمة وسيلةً من وسائل التغريب والتثاقف مع الآخر .

وقد تسابقت الحضارات في نقل ما وصل إليه الآخرون في شتى المجالات عن طريق ترجمة الكتب في جميع الميادين، وللترجمة الفضل في تواصل اللغة على أساس كونها تستوجب مصطلحات جديدة وصيغاً مبتكرةً وكلمات مستحدثة، فهي تسهم بدرجة كبيرة في إثراء اللغات، والحفاظ عليها على أساس أنّ اللغة كائن حيّ يولد وينمو ويموت.

الا أنّ رهانات الترجمة لها حضورها في كثير من المناقشات الفكريّة ونحن سوف نقف بأزاء هذا الجدل بين " دعاة الاختلاف ودعاة الهويّة " في هذا البحث .

ومن هنا تأتي أهميّة مقاربة هذا الأمر خصوصاً ونحن نرى دور الترجمة وحضورها في تنميّة الثقافة وتواصلها مع هذا العصر التداولي الرقمي الذي أصبحت فيه الترجمة أمراً ضرورياً بل حقلاً معرفياً مهماً وهو ما نود أن نبدأ به هذا البحث أي بدراسة الترجمة كموضوع للبحث وتقنيّة للتواصل وما هي التحولات التي دارت حولها وبها . لكن الترجمة أيضاً كانت وما تزال على تواصل مع العامل الديني سواء كانت مع التوراة التي ناقشت هذا الأمر كحقيقة متعاليّة عندما بلبل الله لسان أهل بابل كعقاب على رفضهم ومعاندتهم له . وكانت من نتائج تلك الحادثة أن اصبحت هناك كثير من اللغات التي جعلت التواصل من دون ترجمة أمراً متعذراً فضلاُ عن دور الترجمة في الدعوة الى المسيحيّة والى آخر...الخ، كل هذه الحوادث تؤكد ضرورة الترجمة والحاجة اليها .

لكن هناك من وجد بأنّ الترجمة ليست وسيلة للاتصال تخلو من التأثير بل ظهر في النقود المعاصر " إن كل لغة لا تقدم وسائل الاتصال لمتحدثيها فحسب، بل تفرض عليهم رؤيّة مختلفة عن العالم. (1) وبالآتي فإن الدراسات الثقافيّة اهتمت بالترجمة بوصفها تحويلاً ثقافياً وعلى تلاقح الترجمة مع مناهج نامية أخرى من ضمن الدراسات الثقافيّة.

ولعل هذا كله كان حاضراً في الدراسات المعاصرة وخصوصاً في اتجاه ما بعد الاستعماريّة، وهو اتجاه يمثله كل من: (شبيفاك Spivak ونيرانجانا Niranjana وينير نيرانجانا) (2) على وجه الخصوص علاقات القوة في ترجمة الشعوب المستعمرة ويمضي بالترجمة ليسائل انحيازها الفلسفي والأيديولوجي الغربي.رغم كل هذا النقد في تفكيك التاريخ، الا ان بين الثقافات قد يكون خاضع إلى يقين تاريخي يقوم على التعامل مع كل التفسيرات في إعادة بناء الماضي او بناء بصورة قريبة من الحقيقة للحصول على المعرفة التاريخية ..(3)، وهذا ما سوف نتطرق إليه في المبحث الاول فيما جاء المبحث الثاني تأكيداً على رهانات الترجمة بين الاختلاف والهويّة .

المبحث الأول: الترجمة والأصول

إنّ الترجمة واحدة من القنوات المهمة في الحوار والفهم والتواصل بين الشعوب فهي أسهمت وتسهم في الحوار وأيضاً بالتثاقف، اي بالتأثير الذي يتركه المترجم في الفكر المنقول له سلباً او ايجابا، لهذا نجد الترجمة طرحت مدلولات متباينة بين دعاة الاختلاف والتحديث من ناحية ودعاة الهويّة الذين عدوا الترجمة وسيلةً من وسائل التغريب والتثاقف مع الآخر .

لكن على الرغم من كل هذا النقاش الذي سوف نقف عنده في هذا البحث تبقى الترجمة حقلاً معرفياً مهماً وهو ما نود أن نبدأ به هذا البحث أي بدراسة الترجمة كموضوع للبحث وتقنيّة للتواصل وما هي التحولات التي دارت حولها وبها .

يبدو أن الترجمة كانت لها جذور فكريّة دينيّة وبهذا فهي تختلف عن الفلسفة بهذه السمة كما يؤكد على ذلك (طه عبد الرحمن) ويمكن أن ننظر الى هذا النقد من زاوية تأصيليّة فنجد أن للخطاب الديني اثراً في ظهور خطاب الترجمة فأول جانب هو تأكيد التوراة على اختلاف الألسن بأمر متعالٍ بحسب قصة التوراة "قصة برج بابل " ويرى طه عبد الرحمن بأن هناك وجهين لهذا الاعتبار المستخلص من القصة الأول: يؤكد على أنّ الحقيقة لم تعد وقفاً على لغةٍ واحدة تنقل عقلاً واحداً وتجمع بين افراد مجتمع واحد .بل صارت ملكاً مشاعاً بين اللغات متباينة تحمل مدارك متفاوتة. وهذا يجعل الترجمة أمراً طبيعياً .أما الأمر الثاني، " التفاهم البعيد "لما انقسمت الأمّة على شعوب مختلفة باختلاف لسانها الواحد إلى ألسن متعددة، فقد صارت حاجة هذه الشعوب ماسّة إلى التفاهم فيما بينها وإن كان هذا التفاهم المطلوب لا يضاهي التفاهم بين أفراد الشعب الواحد . فهذا تفاهم قريب يسره الاجتماع بين اللغات مشتركة، وذلك تفاهم بعيد يعترضه الاختلاف بين اللغات المتباينة في مبانيها ومعانيها .البعيدة إلا بسلوك طريق الترجمة التي سوف تتولى تهذيب الفروق وتذليل الأخطاء في المعاني .(4)

اما الدافع الديني الثاني الذي شكّل محفزاً الى نمو الترجمة وتوسعها هو " ترجمة الانجيل " يذكر بعض المؤرخين أن اللغة التي تكلّم بها رسول الله عيسى (عليه السلام)، هي اللغة الآراميّة في حين نصوص الإنجيل الأربعة المشهورة والمنسوبة إلى (متى) و(يوحنا) و(مرقس) و(لوقا)، وردت باللغة اليونانيّة لكن هذه النقول الأربعة أقيمت مقام الأصل الآرامي المنزل . (ليس لدینا اليوم حرف واحد في العهد الجدید، كتاب المسيحيّة المقدّس، إلا باللغة اليونانيّة - أصل لكلّ الترجمات المتداولة الآن . وما یُحكى عن نصّ أصلي بلغة غير یونانيّة لمتى أو غيره، یظلّ - ما دام غير مؤیّد بالدليل العلمي - مجرّد كلام وتكهّنات.) (5)

وبالآتي اجتمعت في تأسيس "علم الترجمة" الحديث كانت من إنشاء أولئك الذين اسندت إليهم الرئاسة في ترجمة الأناجيل بناءاً على هذا التصور الديني للترجمة يستنتج طه عبد الرحمن افتراضين هما: الأوّل ممارسة الدعوة: تنزل ممارسة الترجمة في هذا التصور منزلة ممارسة الدعوة .ذلك أن الترجمة الاناجيل اقترنت بإرادة الكنيسة في نشر تعاليم المسيحيّة بين الشعوب .

والثاني القيام بالوساطة:ينزل المترجم في هذا التصور منزلة "الوسيط " وواجب الوسيط في مجال الديني –كما شأن النبي – أن يبلغ ما يحمله تبليغا امينا لا تبديل فيه ولا تحريف .

ولعل الكنيسة في اول الامر احتكرت المعنى فأصبحت هي الوسيط، لان المجتمعات الغربيّة لا تجيد اللاتينيّة، ومن هنا جاء للاصلاح الديني وكانت اول مطالبة ترجمة الاناجيل الى اللغات المعاصرة من اكسر احتكار الكنيسة للمعنى وقاد هذا الى حروب دينيّة .(6)، ثم اننا نجد ثنائيّة اخرى غير النظريّة والتطبيق هي الترجمة الحرفيّة Word for Word والترجمة الحرة Sense for Sense، فهذه الثنائيّة كانت حاضرة بعمق التراث الغربي من خلال ترجمة الكتاب المقدس إلى اللاتينيّة مع القديس جيروم Saint Jerome اذ (كلفه البابا بإنجاز ترجمة للأناجيل من اليونانيّة والعبريّة إلى اللاتينيّة، فحضر إلى بيت لحم، وأخذ جيروم يعمل بدأب لإنجاز ترجمته..) (7) ويكمن عمل جيروم الرئيسي في إعادة ترجمة الكتاب المقدس من اللغة العبريّة إلى اللاتينيّة. هذا لأن الترجمات اللاتينيّة التي كانت شائعة آنذاك كانت قد اتّخذت الترجمة اليونانيّة السبعينيّة مرجعاً لها، فجاءت ذات إنشاء ركيك وحرفي. لقد حظيَ هذا العمل بموافقة البابا داماسيوس إلا أنهُ لم يخلُ من الصعوبات وخصوصاً في ما يتعلّق بتلك النصوص التي كانت تستخدم بشكل متواتر في الليترجيا اللاتينيّة، فعلى سبيل المثال لم يستطع جيروم أن يدخل ترجمة جديدة لكتاب المزامير، فكل ما فعلهُ هو إعادة تصحيح بعض الأمور فيهِ. إلى جانب هذا العمل الضخم كانت هناك أعمال أخرى لا تقل أهميّة منها قاموس الأسماء الكتابيّة والأصول اللغويّة وتفسيرات كتابيّة اعتمد فيها بشكل كبير على أوريجانوس على الرغم من كونهُ وقف ضدّه في الأمور العقائديّة. كتب جيروم أيضاً سيرة بعض القديسين المتوحّدين وبعض الكتب الدفاعيّة ضدّ من كان ينقد حياة التوحُّد. إضافة إلى هذا ترك لنا جيروم 150 رسالة) .(8)

فالترجمة على وفق هذه المعطيات هي وساطة وتخدم غرض دعوي يهدف الى نشر المسيحيّة الرسميّة في روما مثلما ترجمت الأناجيل الى اللغات الحيّة والتي أسهمت هي الأخرى في كسر الاحتكار الكنسي للحقيقة وأدّت الى تحول النص الى قناة تواصل بين الله والمؤمنين من دون الحاجة الى وساطة وهذا ما حدث مع كنائس الاصلاح الديني، الا انه ولد ترابطاً بين الترجمة والتأويل من أجل فهم الوحي الالهي مع ظهور اللاهوت الليبرالي إذ جاء كردة فعل على تراكم التجارب في (الترجمة والتلقي والتأويل) وهذا ما ظهر بأشكال متنوعة وصولا الى شلايرماخر Schleiermacher .فالارتباط بين الترجمة والتأويل، اذ أصبح التأويل مكونًا أساسيًّا من ضمن هذه الأخيرة، لفهم فكر الآخر وثقافته، ما دامت العلاقة بين الذات والآخر المختلف عنها، مشروطة بالفهم والتفاهم وإلا فقدت معناها. ولعل هذا يسهم الى حد كبير الى بلورة الترجمة الحرة التي سوف نقف عندها فيما بعد وهي ترتكز على اطروحة أخرى يقدمها جورج غادامر H. G. Gadamer قوامها بأن وظيفة التأويل تتمركز بالأساس على إيجاد تلك اللغة المشتركة القابلة على تحقيق الفهم والتواصل فالمشترك بين التأويل والترجمة هو المعنى، مما يجعل الفهم مطلباً مشتركاً لديهما .وهذه عودة من جديد إلى لشلايرماخر Schleiermacher إذ أقرّ بهذا الأمر في عمله الموسوم بـ "الطرق المختلفة للترجمة" (9)

وبالآتي العودة الى ما بعد بابل في التصور التوراتي وما هو قائم من تنوع وتعدد نفعي في اللغات تصبح الترجمة أمراً مفروغاً منه، ويأتي التأويل بالانفتاح على الحريّة في فهم النصوص من خلال الحوار المثمر بين الإنسان والعالم وتأكيدًا على حريّة هذا الإنسان وفعاليته. (10)

انطلاقا من تلك الاشكاليّة في الترجمة وبين الحرفيّة والحريّة يمكن تأصيلها من خلال:

"نظريّة الترجمة" التي ظهرت في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، إذ اثيرت الكثير من المسائل في هذه الحقبة عبر مبحث اللسانيات الذي شهد تطوراً ملحوظ فإن النظريّة اللسانيّة نظرت الى الترجمة بوصفها " عمليّة لغويّة متخصصة واسعة الانتشار، ثم هي اداة مبدعة لما في اللغة من فكر، ومن هنا فإن هذه الدراسة جاءت لتهتم بالتأسيس الفلسفي وعلاقته بالترجمة، فقد تجاهلوا كون الترجمة كظاهرة أاو مشكلة خاصة باللغة، لكن يبقى لكل تيار من المدرسة اللسانيّة له نظريّة خاصة .

فان الترجمة كحقل معرفي ومجال للدراسة فهي قد اصابها تحول مهم نقلها من كونها كانت تدرس في سياق عمليّة تعليم اللغة داخل حقل الأدب المقارن الا أنها اصبحت جزءاً من مقررات اللسانيات المقارنة، جامعةً بين الجوانب النظريّة والعمليّة،فالنظريّة بمعناها العام هي نوع من التفسير لشرح كيفيّة حدوث ظاهرة الطبيعيّة، بشرط تحقق حدوث هذه الظاهرة وعدم وجود نزاع في حدوثها، فالنظريّة تشرح آليّة حدوث الظواهر، وتكون بشكل عام عرضة للصواب والخطأ، ويدعم النظريّة ما تظهره من التماسك المنطقي والرياضي والقابليّة للتجربة، ويتزايد التأكد من صحة النظريّة عندما تقدم تنبؤات بشأن ظواهر غير مثبتة ثم يثبت صحتها بعد ذلك، وبشكل عام يقصد بكلمة نظريّة (رأي) أو (فرضيّة)،وفي هذا المجال لا يتوجب بأن تكون النظريّة مبنيّة على حقائق، أما الاستعمال العلمي فيشير إلى أن النظريّة هي أنموذج مقترح لشرح ظاهرة، أو ظواهر معينة بإمكانها التنبؤ بأحداث مستقبليّة، ويمكن نقدها، ومن ثم فإن النظريّة هي بمثابة فرض أو مجموعة فروض مرّت بمرحلة التحقيق عن طريق التجريب، ويمكن تطبيقها على عدد من الظواهر المتصلة.

ومن ثم فان حقيقة الترجمة هي مزيج بين الحقلين او الرأيين، لكونها علم بأسسها النظريّة، الى جانب الممارسة والتطبيق والاختبار .وبهذا فقد أسهم مجال البحث الحديث في ردم الهوّة التي اتسعت بين نظريّة الترجمة وممارستها. ومن هنا يمكن الولوج الى "نظريّة الترجمة " ذ اقترح "كانفوردايج – J.Cainguistic" انواع من الترجمة وهي: (الصوتيّة والكتابيّة، والنحويّة، والمعجميّة) . وقد وظف اللغة في اختيار موضوعات نصوص الترجمة الا أن جوهر عمل الترجمة متصل بالمعنى الثقافي وظروف الاتصال .

اما نظريّة "فيدروف – Andre Fedorov "في كتابه" مقدمة في الترجمة " اكد على امر مهم وهو أن نظريات الترجمة لا تحقق الجمع بين الجوانب النظريّة والتطبيق العملي وهو الأساس في الترجمة، سواء على مستوى التعليمي او على المستوى تحديد المشاكل التي يواجهها المترجمون وايجاد لمصطلحات جديدة تستعصي على الفهم، تجعلها صعبة التوظيف، الى جانب إن نظريّة الترجمة تقع بين نطاق النظري والعملي ونتائج البحث اللغوي في المؤسسات الجامعيّة .

اما نظريّة السوسيو ثقافيّة "لبيترنيومارك" وهي التي تصل إلى المعنى بالرجوع إلى المرجعيات الثقافيّة . فاللغة هي الثقافة، وما الترجمة الا تعبير عنها مستنده إلى فرضيّة (نسبيّة اللغات) لسابيرووورف .

فهذه الفرضيّة تقول: "ان كل لغة لا تقدم وسائل الاتصال لمتحدثيها فحسب، بل تفرض عليهم رؤيّة مختلفة عن العالم .(11) وبالآتي فإن الدراسات الثقافيّة اهتمت بالترجمة بوصفها تحويلاً ثقافياً وعلى تلاقح الترجمة مع مناهج نامية أخرى من ضمن الدراسات الثقافيّة.

الترجمة بوصفها عمليّة لإعادة الكتابة، وهو اتجاه تطور عن نظريات النُظم وكان رائده اندريه لوفيفر Lefevere، تتم فيه دراسة إيديولوجيات علاقات القوة الموجودة في رعايّة وبوطيقا الأنظمة الأدبيّة والثقافيّة التي تتداخل مع الترجمة الأدبيّة.

الترجمة والجندر، وهو اتجاه يتمثل بمشروع الترجمة الأنثوي الكندي الذي وصفته شيري سايمون Sherry Simon جاعلاً من المرأة حاضرة في الترجمة.

الترجمة وما بعد الاستعماريّة، وهو اتجاه يمثله كل من شبيفاك Spivak ونيرانجانا Niranjana وكرونن Cronin تتم فيه مقارنة "زحزحة النصوص" والمترجمين العاملين في المستعمرات السابقة للقوى الأوربيّة أو بلغاتهم.

و ينير نيرانجانا على وجه الخصوص علاقات القوة في ترجمة الشعوب المستعمرة ويمضي بالترجمة ليساءل انحيازها الفلسفي والأيديولوجي الغربي. وأخيراً، تستعمل الوحوشيّة البرازيليّة Brazilian Cannibalism، مثلما يمثلها دو كامبوس de Campos وفييرا Vieira، استعارة التهام المستعمر لتنشيط التراث البرازيلي المحلي.

أما نظريّات الترجمة الفلسفيّة:

يفيد شتاينر George Steiner من التراث الهرمنيوطيقي الألماني في كتابه الموسوم "ما بعد بابل" الصادر في عام 1975م، وهو عبارة عن وصف هائل للترجمة الأدبيّة، والذي جعل الترجمة في حينه محط اهتمام العديد من غير المختصين. وتتفحص "حركته الهرمنيوطيقيّة" تفسير المعنى . وتؤكد ترجمات عزرا باوند Ezra Pound ونقوده الطريقة التي تستطيع بها اللغة أن تنشط نص ما من خلال الترجمة، (اعتبر اشتاينر في كتابه المذكور، وتحديدًا في الفصل الخامس وعنوانه: "الحركة الهرمينوتيقيّة" (وهو للإشارة فصل من 152 صفحة)، أنّ هناك أربع لحظات مميزة لمسار الترجمة، يتم من خلالها انبثاق معنى النص المترجم. وتبدأ هذه الحركة الهرمينوتيقيّة mouvement herméneutique بحسب تعبيره، بلحظة الثقة التي يتم فيها الاعتراف بأهميّة العمل الأصلي وبجديته نصًّا قابلاً للفهم وللترجمة. فكل فهم، خصوصًا إذا ما تم في إطار الترجمة، ينطلق من حماسة الثقة التي تتميز بكونها معقدة ومباشرة في الوقت نفسه. إنّها عبارة عن تعاقد إجرائي منبثق من تسلسل الفرضيات الفينومينولوجيّة حول تماسك العالم ووجود الدلالة داخل مختلف الأنساق. ويتجلى سخاء المترجم générosité du traducteur في اعترافه المسبق بضرورة وجود شيء ما ينبغي فهمه، وفي ثقته بصيغة القول "الأخرى"، على الرغم من أنّها لم تكتشف بعد ولم تخضع للتقييم) .(12)

بينما تتحدث دراسة وولتر بنجامن Walter Benjamin الموسومة "مهمة المترجم" "The Task of the Translator" بكثافة وشاعريّة حول إطلاق لغة "نقيّة" من خلال الترجمة "الحرفيّة". وأخيرا "يقوض" دريدا Derrida بعض يقينيات الترجمة بما فيها التعارض بين لغة المصدر ولغة الهدف وثبوتيّة العلامة اللغويّة. ويثير هذا التدقيق لمبادئ نظريّة الترجمة اللغويّة قضايا تتعلق بنظام جديد لدراسات الترجمة. (13)

يبدو ان مقاربة دريدا النقديّة لهذا المفهوم وكشف ملابساته الميتافيزيقيّة كما جاء في كتابه "أبراج بابل" اذ يحاول التمييز في الاسم بين المعنى القارة في لغة البابليين وما يمنحه من معنى وبين التوصيف الذي تسقطه التوراة بلغتها ويمنحه معنى اخر " ينطلق دريدا من إمكانيّة اعتبار الاسم لا ينتمي بنفس الصفة التي في الكلمات الأخرى، إلى اللغة وإلى نظام اللغة سواء كانت مترجِمة أو مُترجَمة. ويشير إلى إمكانيّة اعتبار بابل حدثا ضمن لغة واحدة، يظهر فيها استجابة لتشكيل نص محدد له، ويشير كذلك إلى إمكانيّة أن تفهم لفظة بابل هذه في إحدى اللغات بمعنى البلبلة، ويجد أنه استنادا إلى ذلك، ولأن بابل ستغدو اسم علم واسم جنس، تصبح البلبلة بدورها اسم علم واسم جنس، وذلك بوجود رابطة تناغم ومرادفة بينهما، وليست رابطة تطابق لكون الوضع بعيدا عن الخلط بين قيمهما." (14)

وبهذا يميز بين دلالتين دلالة اليّة ودلاله اسقطتها التوراة على الاسم حتى يوافق مراميها الاقصائيّة الرمزيّة للمدينة التي حولتها الى مدينة ملعونة بحسب قصتها المفتعلة من معنى الاسم وهو امر يظهر بوضوح اذا ما قارنا المعنى ودلالة البرج نجد ثمة علاقة صراعيّة بين التوراة وهي تسلط اللعنة السرديّة التي تحاول أن تدين بابل العظيمة يوم كانت لها سطوتها المدنيّة في الشرق الاوسط القديم جاءت التوراة تحاول بكل بداوتها ان تنال من تلك الحاضرة المدنيّة .

جاء التصوير المثيلوجي" لبرج "بابل وما ارتبط به من حدث غير مستساغ من قبل مدينة أسست عميقا لآليات ثقافة دينيّة وشريعة قوانين وأشكال راقية من العلاقة الروحيّة إذ تجده في تراتيل متنوعة ومنها المعذب البابلي "ايوب " وحواره الفلسفي والعقائدي مع المؤسسة الدينيّة ومفهوم العدل الالهي وغيره الكثير من المنجزات الروحيّة العميقة التي ترسم علاقة معنويّة تظهر الفكر الديني الذي يتسم بالعذوبة .

الا ان حكايّة اعراب التوراة كانت تروي سرديّة اخرى عن علاقتهم في بابل وسلوكها الديني وهو في جوهرة مجرد تعليل خارجي لما اقامه البابليون من زقورات بوصفها معابد يعبد بها الله ولا يحارب ومجال من اجل التقرب اليه وليس محاربته .

الا ان التوراة تقول بأن أهل بابل أقاموا الزقورة من أجل محاربة الله ولهذا جاء الغضب الالهي بان بلبل ألسنتهم وجعلهم غير قادرين على التفاهم والتواصل قيما بينهم وكان من نتيجة هذه اللعنة غياب التفاهم وانتشار البلبلة واعتقد بأن الامر مجرد توظيف اسطوري يجمع بين ظاهرة "الزقورة" ومعنى كلمة بابل فأصبحت تعني اللاتفاهم ومن خلال الاسطورة ظهرت هذا القصة كدليل على الترجمة والحاجة اليها هناك على الرغم من أن بابل تتعامل مع السومريين والعيلاميين ولكل منهم لغته الخاصة .

وكان تأويل التوراة يشكل التأمل الغربي حول الترجمة وهو موضوع بحثنا اذ يبدو أن الترجمة كانت لها جذور فكريّة دينيّة وبهذا فهي تختلف عن الفلسفة بهذه السمة كما يؤكد على ذلك (طه عبد الرحمن) ويمكن ان ننظر الى هذا النقد من زاوية تأصيلية فنجد أن للخطاب الديني أثراً في ظهور خطاب الترجمة:

فأول جانب هو تأكيد التوراة على اختلاف الألسن بأمر متعالٍ بحسب قصة التوراة "قصة برج بابل " ويرى طه عبد الرحمن بأن هناك وجهين لهذا الاعتبار المستخلص من القصة الأول يؤكد على كون الحقيقة لم تعد وقفاً على لغةٍ واحدة وتنقل عقلا واحدا وتجمع بين افراد مجتمع واحد .بل صارت ملكاً مشاعاً بين لغات متباينة تحمل مدارك متفاوتة . وهذا يجعل الترجمة امراً طبيعياً .

اما الامر الثاني، " التفاهم البعيد "لما انقسمت الأمة إلى شعوب مختلفة باختلاف لسانها الواحد إلى ألسن متعددة، فقد صارت حاجة هذه الشعوب إلى ماسة إلى التفاهم فيما بينها وإن كان هذا التفاهم المطلوب لا يضاهي التفاهم بين أفراد الشعب الواحد . فهذا تفاهم قريب يسره الاجتماع بين الغات مشتركة، وذلك تفاهم بعيد يعترضه الاختلاف بين الغات متباينة في مبانيها ومعانيها .البعيدة إلا بسلوك طريق الترجمة التي سوف تتولى تهذيب الفروق وتذليل الخطاء في المعاني .(15)

وإذا ماعدنا الى النقد الذي يقدمه " دريدا " لهذا التصور الاسطوري، " يعتقد أنه حين تهجّي مفردة بابل يكون هناك شعور باستحالة التقرير إذا كان هذا الاسم ينتمي بشكل خاص وبسيط إلى لغة معينة. ويعتبر أن هذه اللاتقريريّة تقوم بتأجيج الصراع من أجل اسم العلم داخل مشهد المديونيّة السلاليّة. ويشير إلى أن الساميين وهم يحاولون أن يهبوا اسما لهم، ويقوموا بتأسيس لغة كونيّة وانتساب واحد في الوقت نفسه، أرادوا أن يخضعوا العالم لمنطقهم. ويجد أن هذا المنطق يمكن أن يعني في آن واحد عنفا استعماريا وشفافيّة سلميّة بالنسبة إلى الجماعة الإنسانيّة."(16)

فادريدا يدرك مراد التوراة من السرد عن الحدث ويرجعه الى معنى اخر هو بمثابة موقف من سيطرة قوى يحاول ان تفرض وجودها فكان لابد من مقاومة ميتافيزيقيّة تحاول وقف هذا النفوذ اذ يرى، وأنه عندما فرض الإله اسمه عليهم وأقره كذلك، أعاق الشفافيّة العقلانيّة، ولكنه أوقف أيضا العنف الاستعماري أو الإمبرياليّة اللسانيّة، إذ أنه وجههم صوب الترجمة وطوعهم لقانون الترجمة الضروريّة والمستحيلة، وانطلاقا من اسمه الخاص القابل للترجمة وغير القابل لها في آن معا فهو سيحرر ما لا يخضع لهيمنة أيّ أمة محددة. ويعتقد أن الترجمة تصبح هي القانون، الواجب، والدَّيْن، ولكنه الدّين الذي يمكن سداده.

يحضر توصيف الترجمة على أنها تكون مثل التماس، هذا لا يلمس الدائرة إلا عرضيا وفي نقطة واحدة، إذ أن هذا التماس لا النقطة، هو الذي يحدد السير على خط مستقيم للقانون الذي بموجبه يستمر إلى ما لا نهايّة. ويجد كذلك أن الترجمة هذه تمس الأصل بطريقة عابرة وفي نقطة معنى تكون لا متناهيّة الصغر، وذلك لاتباع خط سيرها الخاص تبعا لقانون الأمانة ضمن الحركة اللغويّة.

يعتقد دريدا أن مهمة المترجم شاقة وشائقة في الوقت نفسه، وإن ما لا يُستطاع مسّه في عمله ولا يُستطاع الإحساس به، وما لا يُستطاع لمسه، هو الذي يسحر ويوجد عمل المترجم، إذ أنه هو الذي يريد لمس ما لا يُستطاع لمسه، أي ما يَفيض عن النص عندما يتمّ تبليغ ما لا يُستطاع تبليغه أو تعليمه.

يذكر دريدا أن ما لا يكفّ عن السيطرة هو الدين والمهمة والتعيين كنداء للترجمة، إذ ثمة ما يقبل الترجمة باستمرار، سوى أنه جراء عدم التمييز بين المعنى والحرفيّة، يكون غير القابل للترجمة بصورة محضة، في وارد الإعلان عن ذاته، ويعطي ويعرض في أن يترجَم لأنه لم يترجَم. ويعتقد أنه بدءا من هذا الحدّ الداخلي والخارجي، يتلقى المترجم عموم إشارات الابتعاد التي تقوده في مساره الذي لا ينتهي على حرف الهوة والجنون والصمت..(17)

في اشارات دريدا السابقة الى المقاومة فانه ايضاً يمارسها في الفكر الغربي المعاصر فهو " يبدأ طرح دريدا النقدي للأنطولوجيّة بعمليّة تـفكيك جادَّة لتاريخ تطوُّر الميتافيزيقيا في الغرب. هدف دريدا الأساسي من تـفكيك تاريخ الميتافيزيقيا هو تحدي مفهوم "الكلانيّة" (totality) الذي يفترض وجود مبادئ قاعديّة كلانيّة يمكن وصفها بالحقائق المرجعيّة الكونيّة التي تقاس على أساسها أيّة معرفة عقليّة أو أيّ اختبار وجودي." (18) اذ إن عمل التفكيك في قراءة ومقاربة النصوص عند دريدا لم يضع في أهدافه اكتشاف أو اقتفاء أثر حقيقة معينة بالمعنى الذي كانت ترمي إليه البنيويّة مثلا من أن النص يمتلك معنى ما، فالنص وتبعا لدريدا لا يمتلك إلاّ آثارا فهو متواليّة لا نهائيّة من الاختلافات التي تنسجها العلامات الخطيّة، " فالاختلاف هو الطريقة أو الأسلوب الذي يتم فيه إطلاق طاقة النص على صنع المعنى"(19)

يقوم عمل التفكيك الدريدي على تحرير وتفجير طاقة الدال والعلامة الخطيّة، بتخصيب مستمر للمدلول من خلال الانفتاح على النص كفضاء للمكن وليس كبنيّة مغلة تخضع لرغبة ما ينوي قوله كاتب النص، فالنص مع دريدا أصبح لا أصل له لأنه مجموعة نصوص متداخلة ومتقاطعة بخلاف نظرة الاتجاه البنيوي للنص كهيئة مغلقة أو ذو معنى تام، واقعة بذلك البنيويّة في فخ الوصفيّة والتبسيطيّة معتمة ومهددة – حسب دريدا – بإسكات القوة، أي قوة الاختلاف تحت مطيّة الاحتفاظ بالشكل والبنيّة.

هكذا، فالأمر لا يخرج عن كونه مجرد حضور للعلامات في اختلافيتها وصيرورة إنتاجها للمعنى لأننا حسب دريدا لا نفكر إلا بالعلامات التي تفتح مجالا للتعدد والاختلاف في المعاني، وبالآتي تصبح اللغة مدارا لآفاق ذات دلالات كثيرة، وينفتح القارئ على رغبة اللغة ويبدأ البحث عما هو مغيب فيها في أفق سيميائيّة عامة تفتح المجال لعلم تيولوجيا أو أنماط العلامات الذي يبحث في تنويعات التواصل الممكنة. (20)

المبحث الثاني: رهانات الترجمة بين الاختلاف والهويّة

ثمت اشكاليتين (21) عل الصعيد العربي حكمت الترجمة هما لماذا تأخر المسلمون بينما تقدم غيرهم؟ وهو اسؤال اشكالي نقدي حكم مشروع النهضة العربيّة والتيارات التي جاءت حاولت ان تقدم له جواب او تعليل عبر نقد الذات او نقد الاخر، اما الاشكاليّة الاخرى التي كانت حاضرة وان كانت اصغر من الاولى في تأثيرها او في رهانها انها اشكاليّة ارتبطت بين الحداثة والهويّة، بين رهانات الحداثة وما تعنيه من خطاب التنوير او التقدم الى ان وصلت الى تحديث مؤسساتي خارجي من دون تغير عميق في بنيّة المجتمع وفكرة ومؤسساته القارة .كما حصل مع دولة محمد على او الدولة العثمانيّة وما هو حاصل باشكال وصيغ ي واقعنا المعاصر .

الا ان هذه الاشكاليّة في صراعها بين الهويّة والحداثة اعتمدت هي الاخرى على مبررات تراثيّة في ماضي الترجمة التي كانت لها جذور في انفتاحها على الاخر فهي بالإضافة الى قيامها بالترجمة كانت ايضا تمثل مستوى الممارسة التأويليّة والنقديّة في قراءة المسلمون للتراث القديم على تنوعه واعطائهم موقف نقدي منه . لكن تبقى تلك الترجمة التي جاءت بمشروع سياسي قام به بيت الحكمة العباسي من اجل حاجات داخليّة بسبب الصراعات الدينيّة بين الفرق والمذاهب فترجمة التراث اليوناني كان بمثابة حل وسط .لكن بقى هذا التراث المترجم من فلسفة ومنطق وغيره تراث غريب عن الواقع الثقافي من قبل التيارات السلفيّة التي مارست النفي والتكفير بحق تلك العلوم والعاملين بها .

وهنا ظهر تيارين الاول يقوم على التمركز حول العلوم المترجمة ويحاول انطلاقا منها التوفيق بينها وبين التراث الاسلامي المحلي اي النظر الى تراث الاسلام بعيون اليونان كما جاءت به الفلسفة والمنطق .اما الموقف المضاد الذي يرفض التوفيق وينطلق من موقف يتمركز حول العلوم الاسلاميّة كمركز ويحاول تقريب العلوم الوافدة من حاجاتها الشرعيّة والإشكاليّة كما فعل الغزالي مع المنطق عندما جعله علم خادم للشريعة .

حاول انصار الحداثة والمعاصرة والعلمنة الانفتاح على الغرب واستثمار منجزاته وإعادة نقل اشكالياته وجعلها مجال النظر على الرغم من كونها مغتربة عن الواقع العربي الذي كان يعيش رهانات وأفكار العصر الوسيط .بمقابل ذلك كان التيار السلفي الداعي الى الهويّة يعيش إشكالات الماضي ورهاناته التي هي الأخرى عادة ما تنتمي الى الواقع وتحدياته والتي تحتاج من المفكرين إعادة تجديد مناهجهم الفكريّة التي مازالت رهينة العصر الوسيط على صعيد الرؤيّة والمنهج في علوم (الفقه والنحو والعقيدة) .

فالواقع العربي سواء كان حداثي فهو يعيش إشكالات الآخر والسلفي يعيش إشكالات التراث بين الاثنين على الرغم من اختلافهما الا انهما يبقيان سلفيان يعيشان رهانات لم تعد تلبي حاجات الواقع وتحدياته وأطاريحه التي تختلف عن التراث مثلما تختلف عن الآخر الغربي .

نحاول هنا أن نستعرض موقفين لهما حضورهما في الساحة العربيّة في جدليّة الترجمة ورهاناتها في الواقع الثقافي والحضاري العربي (طه عبد الرحمن وعبد السلام بن عبد العالي) من أجل مقاربة معاصرة للترجمة وارتباط هذا في مقولات " الآخر والهويّة " بين مقاربات الحداثة والتجديد، وبين الاثنين تباين عميق جعل من الأولى ترتبط بإشكاليّة المغايرة ومن أهم مقوماتها القطيعة والتجاوز، فيما ارتبطت الأخرى بإشكاليّة الأصالة ورهان الإحياء للهويّة على وفق ثوابتها من خلال التواصل، فالتجديد إحياء القديم وإعادة الروح له والسير على وفق رهاناته التي تتّصف بالكليّة، إذ لا تقبل التجاوز بل التواصل والإحياء. وبين الإثنيّة اختلاف في الاطروحة:

فالأولى: تحرض على الاختلاف والمغايرة وتستثمر منجزات الحداثة وما بعدها وتسمى اشكاليّة الاختلاف، وتعتمد اليّة التوفيق اي التوفيق بين الحداثة والتراث عبر التمركز حول الحداثة .

فيما الثاني تحرض على الهويّة وتعارض الانفتاح على الاخر وتؤكد على انه تغريب وتؤكد على الهويّة ولهذا فهي تمثل اشكاليّة الهويّة وتتخذ اليّة التقريب اي انها تعتمد التمركز حول الذات والفضاء التداول له وتحاول تقريب الاخر مع ثوابت الذات .وهذا يتمثل بالقراءات الأصوليّة التي تمثل قراءة انتقائيّة في تشكل رؤيتها للماضي، فبإمكان جماعة من الجماعات - في إطار علاقتها بالماضي- أن تكون انتقائيّة دائما، و(أن تؤسس هويتها على ذاكرة تاريخيّة تغذيها ذكريات ماض مهيب، ولكنه ماض يجذِّرها على الغالب في ضرب من "إناء الدموع " أو في ذاكرة العذاب المشترك. فالهويّة التي تضفي عليها الصفة التاريخيّة تبنى في جزء كبير منها بالاستناد إلى ذاكرة المآسي الجمعيّة) (22) فهذه الذاكرة التي تستحضر الجانب المأساوي من علاقتنا بالآخر المختلف الذي يمكن توصيفه بمقولات الإسلام السياسي (الصليبي) أو (الاستكبار العالمي)

بالمقابل فان اشكاليّة الاختلاف تمثل تيار آخر في عالمنا العربي بعامة والعراق بخاصّة يحاول أن يجد نقاط تواصل وتعايش عبر استثمار التجارب الغربيّة وغيرها من التجارب العالميّة سواء تمثلت في الحداثة والتنوير أو ما بعد الحداثة وما تقدمه من تنوع عرقي وثقافي ما يعرف بالهُجنة الثقافيّة .

الاشكاليّة الاولى:

ويميّز طه عبد الرحمن بين ثلاثة أنماط متتاليّة من الترجمة، تتدرج في الجودة من الأسوأ إلى المتوسط إلى الأفضل.

وهذا ما اشار اليه في كتابه "فقه الفلسفة" (23) "وضعنا نموذجًا نظريًّا في ترجمة الفلسفة يتألف من مراتب ثلاث متفاوتة فيما بينها؛ أولاها: الترجمة التحصيليّة، وتقع في التعارض الكلي بين الفلسفة والترجمة وتتولى نقل كل ما في النصوص الأصليّة من غير تمييز ولا تقويم، وتعمل جاهدة على محاكاة الصور التعبيريّة لهذه النصوص، ألفاظًا وتراكيب، فيكون مآلها تطويل العبارة بما يرهق الفكر ويزهق الوقت.

والثانيّة: الترجمة التوصيليّة، وتبقي على تعارض جزئي بين الفلسفة والترجمة، قد تشتد قوته أو تضعف، وذلك بحسب درجة التمسك بالصفات التقليديّة للفلسفة، كما أنها تنقل كل ما لا يبدو فيه إخلال ظاهر بالقواعد المقررة للغة وبالأركان الأساسيّة للعقيدة، وتبذل غايّة الجهد في نقل كل ما يحتمل الانتساب إلى حقل المعرفة من غير كبير تفريق ولا دقيق تقدير.

والثالثة: الترجمة التأصيليّة، وترفع التعارض بين الفلسفة والترجمة، وتجتهد في نقل ما تثبت لديها موافقته لضوابط المجال التداولي المنقول إليه "اللغويّة والعقديّة والمعرفيّة" متوسلة في ذلك بأنجع أدوات التمييز والتقويم؛ لأن العبرة هنا ليست بالحكايّة عن الغير، وإنما بتمكين الذات من الممارسة الفكريّة ".(24)

ويمكننا أن نتتبع خطوات طه عبد الرحمن في تطبيق نظريته في الترجمة، كما يلي، عندما يصل إلى ص 409 من كتابه، إذ يكتب: "وحتى نبين صحة نموذجنا النظري في الترجمة ذي المراتب النقليّة الثلاث (التحصيل والتوصيل والتأصيل) نختار "الكوجيطو" وعبارته الفرنسيّة: Je pense, donc, je suis "

ثم يتناول بالنقد أنماط ترجمتها كما يلي، فيكتب في ص 436: "وخلاصة القول في الترجمة التحصيليّة للكوجيطو التي أتينا عليها بمثال ترجمة محمود محمد الخضيري "أنا أفكر، إذن فأنا موجود" أن الصيغة التحصيليّة للكوجيطو دخل عليها من التكلف ما جعل تركيبها غير قصير وفهمها غير قريب، فيتعين صرفها وطلب غيرها مما لا تطول عبارته ولا يبعد إدراكه". بعد ذلك ينتقل طه عبد الرحمن إلى الترجمة "التوصيليّة" للكوجيطو، وهي ترجمة "نجيب بلدي" التي تقول: "أفكر، إذن فأنا موجود" فيكتب في ص 437: "تمتاز الترجمة التوصيليّة عن الترجمة التحصيليّة، بكونها تحذف بعض العناصر التي يمكن أن تطول العبارة الناقلة، لكنها تقع في تهويل بعض المعاني والحقائق التي يتضمنها المنقول، إنها تقع في تهويلين اثنين؛ تهويل لفظ الـ"موجود" وتهويل لفظ "إذن" (وغيرهما)، وهكذا فإن الترجمة التوصيليّة، وإن اجتهدت في اجتناب الأخطاء اللغويّة للترجمة التحصيليّة، فإنّها وقعت في أخطاء معرفيّة صريحة".

فيما الاشكاليّة الثانيّة: يمكن ان نتلمس بعض التوصيفات عن هذا الاتجاه الذي عرضنا في اعلاه سماته يمكن وضع بعض التوصيفات ضمن هذا الاتجاه منها ما يرى " ان الثقافة ليس محايدة أبدأ في ما تختار أن تضمه في كنفها مما هو لدى الآخرين ومما من ثقافات الآخرين أن تضمه في كنفها وكما يقول لورنس فينتوني بقوله ان الترجمة لا يمكن ان تكون مجرد تواصل بين ندين، لأنها في جوهرها لا تنفصم عن الثقافة التي تنبع منها ." (25) وان كان يرجع الانكماش على الذات او الانفتاح على الاخر مرتبط بما تعيشه الثقافة من حالات قوة او ضعف فعندما تكون الثقافة في حالة أزمة فانها تلجأ يائسة للدفاع عن نفسها بوسائل شتى تتخذ احيانا شكل إحراق الكتب، او حبس المفكرين، او نفيهم، او اتهامهم بالكفر أو بالجنون .(26) الا اننا نستطيع ان نقدم توصيف اكثر تجذير في الهويّة من خلال القراءة التي يقدم طه عبد الرحمن ما يعتبره ترجمة "تأصيليّة" للكوجيطو، فيقرر إن لفظ "أنا" لا يصلح للعربيّة، وأن لفظ "التفكر" غير مناسب لنقل الكوجيطو لأسباب عقديّة ولغويّة ومعرفيّة، فهو يرى أن لفظ "النظر" يمتاز على لفظ "الفكر" نتيجة لشهرة استعماله، ومناسبة مضمونه، فيكتب في ص 491: "تصبح صيغة الكوجيطو: انظر تجد (وهي بالذات الصيغة التأصيليّة للكوجيطو) ونحن لا نجانب الصواب إن قلنا بأنّ (الترجمة التأصيليّة) هي أكثر مراعاة لأسباب الضبط والتعليل في النقل من الترجمة التحصيليّة والترجمة التوصيليّة". (27) وهكذا يكون تبرير ترجمة طه عبد الرحمن التحصيليّة قد تطلب حوالي مائة صفحة من 409 - 506 لترجمة خمس كلمات من الفرنسيّة إلى كلمتين بالعربيّة.

فترجمة طه عبد الرحمن لا تتقيد بالألفاظ ولا بالمضامين الموجودة في النص الأصلي؛ لأنه يرى أن نقل المفاهيم الفلسفيّة من مجال تداولي "غربي" إلى مجال تداولي آخر "شرقي" يبيح للمترجم التصرف بالتأويل والتحويل والحذف والتغطيّة على النص المراد ترجمته، من دون تقيد باعتبارات الترجمة الحرفيّة إذا كانت لا تلائم الأصول "العقديّة والمعرفيّة واللغويّة" في الثقافة الناقلة.ولما كان المترجم التأصيلي لا يحذف إلا بعض الأصول الفلسفيّة التي يتأكد أنها تضرّ بالعقيدة أو بلغة المتلقي، وينقل ما سواها من حقائق فلسفيّة لا تظهر ظهورًا صريحًا مصادمتها لمحددات وموجهات المجال التداولي المنقول إليه، فإن نقله يأتي على أكثر الحقائق التي يتضمنها النص الفلسفي الأًصلي". (28)

من المشروع هنا، أن تثور اعتراضات حول ممارسة طه عبد الرحمن للوصايّة "العقديّة واللغويّة والمعرفيّة" على القارئ؛ فهذه الوصايا الموجهة للمترجم التأصيلي فيها مصادرة على عقل القارئ، وفيها تعامل مع القارئ وكأنه فاقد لأهليّة تلقي الأفكار من دون وصايّة، إذ يتوجب على ممارِس الوصايّة أن يبيح لنفسه حذف مضامين النص الأصلي وتغطيته، خوفًا على عقل القارئ وحمايّة له من التعرض لصدمة معرفيّة ولعقديّة ولغويّة. وظهر في سياق هذا الموقف انه هو بالذات لم يكن يخلو من وجود مشاكل تجعل رؤيته النقديّة " تعاني من مشكلات مع المعايير الثلاثة التي وضعتها لنفسها، بل إننا لو أضفنا إليها معيارًا رابعًا مما اعتاده المترجمون، والمتعلق بأمانة الترجمة، لوجدنا أن طه عبد الرحمن مستعدّ للرد على هذا المعيار بالرفض والتشاكل معه، إذ يكتب في: القول بمراعاة الأمانة قول لا يسلم من القوادح عند عرضه على التحقيق، إذا يقصد بالأمانة (أداء المنقول على ما هو عليه في أصله) فهذا المعنى المطلق للأمانة يكاد أن يكون وهمًا لا نفع معه، بل أسطورة لا حق فيها، وبيان ذلك من الوجوه الآتيّة: أن الأمانة التبليغيّة تتميز عن الأمانة الأخلاقيّة، على خلاف ما ذهب إليه البعض، فالأمانة الأخلاقيّة تقتضي وجود وديعة يجب تسليمها لصاحبها، ولا وديعة ولا تسليم في الأمانة التبليغيّة، فلم يستودع صاحب النص المترجم صور ألفاظه ولا معانيها، ولم يأتمنه عليها، ولا كان المترجم، بنقله لهذه الصور والمعاني، مسلّمًا لها إلى صاحبها، بل على العكس من ذلك، يكون من واجبه أن يسلمها إلى غيره، مع عدم وجود وصيّة منه بتسليمها إليه، وعلى هذا، فلا يصح الكلام عن الأمانة التبليغيّة من الوجهة الأخلاقيّة، ولا يكون استعمال لفظ الأمانة بصدد التبليغ إلا من باب التجوز في الكلام أو تكون الأمانة لفظًا مشتركًا يدل على معنيين متباينين، حدًّا وحقيقة". (29)

الاشكاليّة الثانيّة: الترجمة وإشكاليات التفلسف

لا بد في البدايّة أن نشير أن هذه الحركة جاءت لتصحح "أخطاء" مرحلة سابقة قد يرى فيها البعض أنها لم تكن إلا مرحلة طبعتها عقليّة "البريكولاج"، واقتصر فيها المترجمون على تناول ما " تحت أيديهم " من مؤلفات، وتوظيف ما يستعملونه من لغات، واستخدام ما يتوفرون عليه من إمكانيات. لذا فما يبدو منطلقات أساسيّة لحركة الترجمة البديلة هاته هو إسنادها الترجمة الى أهل الاختصاص، وحرصها الشديد على ألا تتم الترجمة الا عن اللغة الأم، وأن تبدأ أساسا بأمهات الكتب وعيون المصادر. والظاهر أن ما " تراكم " حتى الآن لخير دليل على التزام الساهرين على هذه الترجمات بكل تلك المبادئ. ويكفي على سبيل المثال أن نلقي نظرة سريعة على منجزات " المنظمة العربيّة للترجمة " في مجال الفلسفة حتى نتأكد من صحة ما أشرنا اليه. فقد استطاعت تلك المنظمة أن توفر للقارئ العربي عناوين أساسيّة في تاريخ الفلسفة على اختلاف مدارسه واتجاهاته. (30)

بما لا يرجع الأمر هنا فحسب الى الطابع المؤسسي الذي أخذ يسم الترجمة في عالمنا العربي، وإنما الى مفهوم الترجمة ذاته الذي تفترضه هذه الممارسة. ذلك أن الترجمة تطرح هنا بمعزل عن مخاض فكري، وتفهم أساسا على أنها نوع من التهيؤ للنصوص الكبرى كي تغدو متيسرة للقارئ العربي الذي ينوي الاشتغال بالفلسفة والذي يعتزم إعمال الفكر في تراثها. الترجمة هنا عمليّة تمهيديّة. إنها مثل التحقيق تسعى لتوفير النص لمن يعتزم إعمال الفكر فيه. وهي تسعى أن تضع " بين يدي " القارئ العربي أمهات النصوص. فهي اذن لحظة سابقة ممهدة لكل تفلسف. ما تهدف اليه هو إيجاد النص في لغة عربيّة، حتى وان تطلب الأمر أن يقبع في قاعة انتظار إلى أن يحين وقت استخدامه، والاشتغال به وعليه.

لكن ماذا لو كانت نصف عمليّة التفلسف تكمن في فعل الترجمة ذاته ؟ اذا كانت الفلسفة حوارا فهي بالأولى حوار بين نصوص وبين لغات. بهذا المعنى لا يمكن الفصل بين لحظتين: لحظة إعداد النص وترجمته، ثم لحظة استخدامه والتفكير فيه. اذا كان معظم الفلاسفة المعاصرين مترجمين، فليس ذلك سعيا منهم الى توفير نصوص وانما وعيا منهم أن ترجمة النصوص الفلسفيّة واعادة ترجمتها من صميم الممارسة الفلسفيّة. لا أعني بذلك فحسب أن هايدغر وفوكو وآلتوسير ولاكان ودريدا وريكور، لا أعني فحسب أن كل واحد من هؤلاء يرتبط اسمه بمصنف نقله الى لغته، وانما بأن كلا منهم لم يفتأ يعدل ترجمات النصوص التي كان يستثمرها. ان كلا من هؤلاء كان يعيد النظر في ترجمة النص عندما كان يعيد قراءته. أو لنقل بالأولى انه كان يعيد قراءته بإعادة ترجمته.(31)

تتمخض عن ذلك نتيجتان: أولاهما أن الترجمة ليست مسألة مؤسسة فحسب. لا يمكن للترجمة، وترجمة الأمهات الفلسفيّة أن تسند فقط إلى منظمات وقطاعات وزاريّة و" بيوت حكمة " تراكم النصوص الكبرى في رفوف المكتبات. " بيوت الحكمة " هنا هي، أولا وقبل كل شيء، الممارسة اليوميّة لمن يشتغل بالفلسفة ومن يشغل باله بها. الترجمة الفلسفيّة، مثل الفلسفة، همّ فكري ومعاناة من " يفلح " النصوص ويعشق اللغة ويرعى صقلها وصفاءها. ربما لا يمكنها أن تستغني ماديا عن المؤسسات والمنظمات، الا أنها لا يمكن البتة أن تتم خارج " مختبرات " الفكر، وبعيدا عن قاعات الدرس وفضاءات "الانتاج " الفلسفي.

النتيجة الثانيّة تتجاوز مسألة الترجمة كي تطال قضيّة الفلسفة ذاتها وشكل ممارستها في عالمنا العربي. فما دامت علائقنا بالنصوص الكبرى علائق لا تتعدى الفضول المعرفي، فإننا سنظل نتوهم أن تملّك تلك النصوص يتحقق بمجرد نقلها إلى لغتنا من دون بذل جهد متواصل لانفصالنا عنها، وإذكاء حده التوتر بيننا وبينها. (32)

لكن على الرغم من الاختلاف بين التيارين يجب أن يكون مُحرِّكُنا الأساس متمثِّلا بالفائدة التي تنعكس على حياة الناس، وتُسهم في تغيير أفكارهم وتطوير الأفكار تخليقا وإبداعا؛ لهذا فإن معالجة هذه الثنائيّة يجب أن ننظر لها من زاويّة ترى أن كل فكر يسهم في تقدم البشريّة، يجب أن يجذب اهتمامنا سواء أكان ذلك الفكر داخل ثقافتنا أو في ثقافة أخرى، وهذا يجب أن يحفزنا إلى التواصل معه عبر التعريب والترجمة التي تجعلنا أمام سؤال ضروري هو: أي ترجمة للثقافة نريد؟ بمعنى: أي نوع من الثقافة نحن اليوم بأمسّ الحاجة إليها؟ من أجل خلق اشتراطات جديدة لوجودنا وصيرورة حياتنا، فهنا ثقافات متنوعة، وهنا يبقى السؤال عن ماهيّة الثقافة التي بإمكانها أن تقدم لنا الزاد الثقافي الذي بإمكانه أن يكون له أثرٌ محمود على واقعنا ومن ثمّ على مستقبلنا؛ لأن هناك ثقافات متنوعة فمنها ما يصدر عن ثراء، ومنها ما يعبّر عن فقره، ومنها ما يحدث صدمة ويخلق تحولاً في ثقافتنا عندما ندرك واقع ثقافتنا بالمقارنة مع الثقافة المعاصرة، وما فيها من عمق وجِدة وإضافة جديدة .

لكن هذا يقودنا إلى سؤال آخر هو أي ثقافة ترجمة نحن بحاجه لها؟ سؤال حيوي ومهم يفترض وجود رؤيّة عميقة مؤسساتيّة تعمل عليها المؤسسة والمثقفون في البلد، بمعنى أن الإجابة تفترض صياغة مُحكَمة إلى إستراتيجيّة جديدة للترجمة تنقل العمل من نطاق العمل الفردي الذي غالبا ما يكون محكومًا وفق رغبات الفرد وما يرغب به أو يجده مفيدًا على أساس المردود المادي .

فالإجابة تفترض فتح حوار واسع بين المؤسسات الثقافيّة والجامعيّة والسياسيّة والمثقفين وأساتذة الجامعات، من أجل صياغة أجوبة تتسم بالشموليّة وتأخذ بعدا مؤسساتيًّا.

إذا افترضنا ضرورة الترجمة بمعنى ضرورة الحوار بين الثقافات، لكن الحوار يفترض النِدّيّة بعيدا عن المركزيات الثقافيّة التي تنطلق من كونها ثقافة مركزيّة مقابل الثقافة الأخرى الموصوفة بالهامشيّة، أو مجرد ثقافة أطراف عليها إن تتلقى الثقافة المركزيّة وتعيد استثمار رهاناتها وإن كانت مغتربة عن واقعها وكأنها تعيش إشكالات هي لم تصل لها ولم تعيشها ومن ثمّ تحول إلى ثقافة متلقّيّة سلبيّة همُّها التقليد، وليس لها رهانات ترتبط بمشاكلها، بل تعيش وهم الآخر ومشاكله التي تفارق واقعها، هذا على صعيد الثقافة المقلدة إما الثقافة المركزيّة فهي ترفض اختلاف الآخر ولا تباين حاجات ولا طبيعة الحلول التي تتوافق مع حاجاته بل لا ترى في الآخر إلا إعادة تكرار الظروف التي مر بها المركز. ولعل هذا يعبر عن ذهنيّة الاضطهاد التي تتواجد اليوم، إذ يعتقد البشر أنهم أحرار منفتحون على العالميّة. وبسبب صفة التفاضل التي تميزهم فإنهم يعيشون أضيق المجالات الثقافيّة من الداخل كما لو كانت معينا لا ينضب وكل ما يتعارض مع هذه الفكرة الوهميّة يصيبنا بالذعر ويثير في نفوسنا اتجاها قديما نحو الاضطهاد) (33) وبالمحصّلة تقوم نظرة الثقافة المركزيّة للآخر على إعادة تكراره بصيغة التبعيّة والخضوع لها. لكن اليوم بات الغرب المهيمن ينظر إلى الآخر (الإسلام) الذي كان مقموعا سابقا بات اليوم (يمثل في أيامنا الإيديولوجيّة الوحيدة، الكفيلة بتغذيّة رفض جذري للهيمنة الغربيّة، من دون أن تستعير أسلحتها الفكريّة من الغرب) (34) هكذا يتصور الغرب الشرق بكل تنوعه السياسي والعِرقي فقط في الخطاب الإسلامي بوصفه ضدًّا نوعيًّا لا يمكن التعايش معه على الرغم من توظيف مقولة الاختلاف والتعدد؛ إلا أنه يحاول أن يمارس التمركز حول ذاته واختلاق عدوٍ وهميٍّ مُتخيّلٍ على الرغم من أنَّ هذا العدو لم يرتكب عُنفًا بحق الغرب مثلما فعل الغرب بحق نفسه أو بحق الآخر.

لكن هذا النقد للتمركز الغربي يجعلنا أكثر تمسكًا بضرورة الترجمة، لكن أيضا تجعلنا بأزاء تلك الرهانات التي توجب علينا أن نراعيها في إعادة مشروع ترجمة لها أثرها في الانفتاح على الآخر من ناحيّة ومن ناحيّة أخرى ضرورة انفتاح الهويّة لكن حدود ما يجعلها تنفتح على التعدد الذي يمنحها التجدد والاختلاف والتعدد من دون أن يلغي تمايزها واستقلالها عن الآخر، وهذا الأمر يستدعي تجدد آليات الرؤيّة ومن ثمّ تشذيبها من دون تشويه، بل يمنحها حياةً جديدةً أكثر تاريخيّة عندما تكون منفتحة على الحوار من ناحيّة، وعلى الواقع ومشاكله من ناحيّة أخرى يجعل أمام الذات تراثًا من الخبرة المتنوعة التي تضيف بصمة التميز عليها عبر إيجاد حلول للمشاكل التي يعاني منها البلد، ومن هنا نستشعر أهميّة تبيئة الأفكار والمفاهيم عبر الترجمة أو التعريب على الرغم من أنهما متباينان إلا كونهما من آليات الانتفاع بخبرات الآخر وتراثه.

ومن هنا يمكن أن نتلمس أثر الترجمة في تطوير حقول الثقافة ومنها اللغة التي تتسع بالترجمة والتواصل، وتزداد آفاقها في حقول الأدب وحقول العلم التي أوجدت عوالم جماليّة وفنيّة تظهر تجارب اجتماعيّة وجماليّة إبداعيّة أو تزداد بآفاق العلوم والتجارب العلميّة والفلسفيّة التي أوجدت عوالم تقنيّة أو فكريّة جديد تركت آثارها في اللغة، فالجديد يعمّق التجارب القديمة، فمثلاً تُجسّد اللغة خزينًا من تجارب الكائن البشري التي تتسع بالانفتاح إلا أنها تعبر عن الذاكرة التي تتعمق بالتواصل بين الماضي والحاضر، إذ تنصهر الآفاق عبر الفهم والتأويل والقراءات للذات أو لدى الآخر عبر الترجمة فتتوسع اللغة ويتعمق فضاء المتخيل والمفكر به أو غير المفكر به .

إذا كان النص يمثّل انعكاسًا وجوديًّا يشتمل على التجربة التي عاشها أو تخيّلها المبدع، وعبرها يحاول التعبير عنها من خلال اللغة بكل ما تختزنه تلك اللغة من إمكانات جماليّة وذاكرة جمعيّة تركت آثارها بأنماط وأشكال تعبّر عن محاولة المبدع صياغة تلك التجربة من خلال التصورات الوجوديّة التي تتسم بارتباطها بالزمان والمكان، وهذا يتجلى من خلال النص. لكن بعد اكتمال النص يغدو مستقلاًّ عن المبدع يتعرض إلى القراءة والتلقي والترجمة، وهنا تظهر ممكنات أخرى للتلقي يضعها الكثير من الباحثين على مقاربتين:

الأولى: تقدم القارئ على النص وتمنحه سلطة في أن يسقط على النص أحكامه المسبقة التي هي في جزء كبير منها تصوراته التي تنتمي إلى الثقافة والتكوين الاجتماعي والنفسي الذي يكوّن تصوراته وأحكامه المسبقة، وهي رهينة بتجربة التلقي التي هي أيضًا رهينة لحظة الإدراك لمعنى النص الذي تكون لدى المتلقي المحكوم بتلقي أوّليٍّ بريءٍ من الأحكام من ناحيّة ولحظة الإدراك من ناحيّة أخرى ومن ثمّ تتحول تلك إلى ترجمة .

لكن هذا أيضا لا يمكن تقبله بوصفه تصورًا صحيحًا للترجمة؛ لبُعده عن النص وما يختزنه من عوالم وأنساق. وهنا لابد من أن تستثير القارئ كيان النص (الذي تجسده اللغة مما يحتم زيادة على الإحاطة باللغة تفهما وتفاعلا مع معاني الألفاظ والمواقف المنتجة للدلالات المختلفة للأثر المترجم) (35)

وحتى تتحقق لحظة الانصهار بين أفق النص وأُفُق المتلقي يجب أن يكون المتلقي محيطًا بلغة النص التي ينقل منها كذلك باللغة التي يترجم لها .

الخاتمة

تعد الترجمة الجسر الذي يمكّن الشعوب من التقارب، إذ تؤدي دوراً بارزاً في نقل الأفكار والآراء والثقافات وحضورها في تنميّة الثقافة وتواصلها مع هذا العصر التداولي الرقمي الذي أصبحت فيه الترجمة أمراً ضرورياً بل حقلاً معرفياً مهماً.

أن الترجمة قد طرحت مدلولات متباينة بين دعاة الاختلاف والتحديث من ناحية ودعاة الهويّة الذين عدّوا الترجمة وسيلةً من وسائل التغريب والتثاقف مع الآخر .

أنّ الترجمة ليست وسيلة للاتصال تخلو من التأثير بل ظهر في النقود المعاصر، إن كل لغة لا تقدم وسائل الاتصال لمتحدثيها فحسب، بل تفرض عليهم رؤيّة مختلفة عن العالم .

ان الترجمة تنشد التفاهم البعيد، لما انقسمت الأمّة على شعوب مختلفة باختلاف لسانها الواحد إلى ألسن متعددة، فقد صارت حاجة هذه الشعوب ماسّة إلى التفاهم فيما بينها وإن كان هذا التفاهم المطلوب لا يضاهي التفاهم بين أفراد الشعب الواحد . فهذا تفاهم قريب يسره الاجتماع بين اللغات مشتركة، وذلك تفاهم بعيد يعترضه الاختلاف بين اللغات المتباينة في مبانيها ومعانيها .البعيدة إلا بسلوك طريق الترجمة التي سوف تتولى تهذيب الفروق وتذليل الأخطاء في المعاني.

شكل العامل الديني الدافع الذي شكّل محفزاً الى نمو الترجمة وتوسعها هو ترجمة الانجيل " يذكر بعض المؤرخين أن اللغة التي تكلّم بها رسول الله عيسى (عليه السلام)، هي اللغة الآراميّة في حين نصوص الإنجيل الأربعة المشهورة والمنسوبة إلى (متى) و(يوحنا) و(مرقس) و(لوقا)، وردت باللغة اليونانيّة لكن هذه النقول الأربعة أقيمت مقام الأصل الآرامي المنزل .

أن الترجمة هذه تمس الأصل بطريقة عابرة وفي نقطة معنى تكون لا متناهيّة الصغر، وذلك لاتباع خط سيرها الخاص تبعا لقانون الأمانة ضمن الحركة اللغويّة.

اذا كان معظم الفلاسفة المعاصرين مترجمين، فليس ذلك سعيا منهم الى توفير نصوص وانما وعيا منهم أن ترجمة النصوص الفلسفيّة واعادة ترجمتها من صميم الممارسة الفلسفيّة.

أن الترجمة ليست مسألة مؤسسة فحسب. لا يمكن للترجمة، وترجمة الأمهات الفلسفيّة أن تسند فقط إلى منظمات وقطاعات وزاريّة و" بيوت حكمة " تراكم النصوص الكبرى في رفوف المكتبات. ربما لا يمكنها أن تستغني ماديا عن المؤسسات والمنظمات، الا أنها لا يمكن البتة أن تتم خارج " مختبرات " الفكر، وبعيدا عن قاعات الدرس وفضاءات "الانتاج " الفلسفي.

 

د. عامر عبد زيد الوائلي

رئيس مركز التفكير النقدي

..........................

(1) انظر:سعيدة كحيل، نظريات الترجمة بحث في الماهية والممارسة، pdf، على شبكة الانترنيت ص 46،48، 51.وانظر بواسطتها: بيتر نيومارك، اتجاهات في الترجمة، ترجمة محمد إسماعيل صيني، دار المريخ للنشر، الرياض،1986م،ص 20-21-23.

(2)

(3) ألون مونسلو، دراسة تفكيكية للتاريخ، ترجمة:قاسم عبده قاسم، المركز القومي للترجمة، ط1، القاهرة، 2015، ص 59.

(4) انظر: طه عبد الرحمن، الفلسفة والترجمة،ج1، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 1995م، ص62-63.

(5) نبيل فياض، ماهو الإسلام ؟ موقع كتابات .

(6) انظر:عامر عبد زيد، الإصلاح الديني قراءة المفهوم في التجربة الغربية، المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية العتبة العباسية المقدسة، ط1، 2018 م،لنجف .

(7) انظر: الحرية - مجلة التقدميين العرب على الانترنت.

(8) انظر: الموسوعة العربية المسيحية: نؤمن بإله واحد، القديس جيروم .اذ قام القديس جيروم بترجمة العهد القديم عن العبرية مباشرة والعهد الجديد عن اليونانية مباشرة واتسمت ترجمته (بالفولجاتا) يعنى العامة والتي بقت الترجمة المعتمدة للكنيسة الكاثوليكية على فترة 10 قرون. ويرى العلماء اللاهوتيين والإنجيليين أن الترجمة اللاتينية هذة لها أهمية خاصة فى تحقيق نص العهد الجديد لأنها ترجع لمنتصف القرن الثاني الميلادي وايضا بتقدم صورة مبكرة للنص اليونانى الذي اترجمت عنه، خصوصا إنها كانت أكثر حرفية . امضى القديس جيروم سنوات طويلة من عمره فى المغارات والأقبية تحت كنيسة المهد معتكف على كتبه، ليقدم اول ترجمة شاملة للكتاب المقدس بمنهجيّة واضحة، ومازال مسيحيو العالم يعتمدون على ترجمته لليوم.

(9) انظر: عز الدين الخطابي،الهرمينوتيقا والترجمة أو سؤال الحوار والتفاهم بين الذات والآخر: http://www.mominoun.com/articles

(10) انظر: ماريان لورد ورير – دانيكا سيليسكو فيتش، التاويل سبيلا إلى الترجمة، ترجمة: فايزة القاسم، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت،2009 ص7-10.

(11) انظر:سعيدة كحيل، نظريات الترجمة بحث في الماهية والممارسة، pdf، على شبكة الانترنيت ص 46،48، 51.وانظر بواسطتها: بيتر نيومارك، اتجاهات في الترجمة، ترجمة محمد إسماعيل صيني، دار المريخ للنشر، الرياض،1986م،ص(20-21-23) .

(12) عز الدين الخطابي،الهرمينوتيقا والترجمة أو سؤال الحوار والتفاهم بين الذات والآخر: http://www.mominoun.com/articles

(13) جيريمي مندي، ملخص نظرية الترجمة، ترجمة وإعداد: ا.د. كاظم العلي، موقع النور،http://www.alnoor.se/article.asp?id=54582

(14) هيثم حسين، جاك دريدا يكتب "أبراج بابل" باحثا عن فلسفة الترجمة، https://alarab.co.uk

انظر: جاك دريدا، أبراج بابل، ترجمة مصطفى دقوري، دار حوار، دمشق

(15) انظر: طه عبد الرحمن، الفلسفة والترجمة،ج1، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 1995م، ص62-63.

16) هيثم حسين، جاك دريدا يكتب "أبراج بابل" باحثا عن فلسفة الترجمة، https://alarab.co.uk

(17) هيثم حسين، جاك دريدا يكتب "أبراج بابل" باحثا عن فلسفة الترجمة، https://alarab.co.uk

انظر: جاك دريدا، أبراج بابل، ترجمة مصطفى دقوري، دار حوار، دمشق .

(18) بقلم نجيب جورج عوض، ما بين الأنطولوجية والنص: جاك دريدا وتفكيك الخطاب اللَّاهوتي، http://www.mominoun.com/articles

(19) صبري حافظ، الشعر والتحدي وإشكالية المنهج، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، بيروت، العدد 38، آذار، 1986، ص 79.

(20) انظر:النص ودلالة الغياب في تفكيكية جاك دريدا، نزوى وانظر بواسطته: Rey, Alain, théories du signe et du sens, lecture I, édit: Klincksieck, paris, 1973, p 227

(21) انظر: صالح مصباح، الترجمة وتجديد الفلسفة في العربية، مجلة تبين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد 6، خريف،2013م.

(22) جويل كاندو، الذاكرة والهوية،ت: وجيه أسعد، وزارة الثقافة –دمشق 2009،ص199.

(23) طه عبدالرحمن، فقه الفلسفة، 1، الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1995

(24) أمير الغندور،حول نظرية الترجمة عند طه عبد الرحمن، موقع مؤمنون بلا حدود، قسم: الفلسفة والعلوم الإنسانية منشور في تاريخ: 17ديسمبر 2016 .

(25) محمد عصفور، دراسات في الترجمة ونقدها، دار الفارس،ط1، 209،ص 57.

(26) المصدر نفسه، ص 51.

(27) طه عبدالرحمن، فقه الفلسفة، 1، الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1995م، ص 370.

(28) أمير الغندور،حول نظرية الترجمة عند طه عبد الرحمن، موقع مؤمنون بلا حدود، قسم: الفلسفة والعلوم الإنسانية منشور في تاريخ: 17ديسمبر 2016م

(29) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

(30) عبد السلام بن عبد العالي، الترجمة والفلسفة في العالم العربي، مجلة نزوى،1 يناير,2010م

(31) عبد السلام بن عبد العالي، الترجمة والفلسفة في العالم العربي.

(32) عبد السلام بن عبد العالي، الترجمة والفلسفة في العالم العربي .

(33) رينيه جيرار، كبش الفداء، ت: منار رشدي أنور، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 1998م، ص 28.

(34) تييري هنتش، الشرق المتخيل رؤية الغرب إلى الشرق المتوسطي، دار الفارابي، ط1، بيروت، 2004م، ص 298.

(35) جمال حضري، أي رهان لترجمة، الأدب في ظل العولمة، جريدة: الأديب 11من تشرين الأول،بغداد،2006.ص5.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم