صحيفة المثقف

الإشارات والأحوال

مجدي ابراهيموصف المتصوفة علومهم بلغة تعجز عنها إحاطة العبارة العادية، وراحوا يستنبطون في ذلك إشارات لطيفة ومعان جليلة واختلفوا، بما استنبطوه، عن الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين وامتازوا عنهم؛ لأنهم تميزوا بالتجربة الروحيّة وتذوق علوم الحال، ومن ثمّ يلزم للذي يريد أن يفهم مسائل المتصوفة ألا يَرْجع فيها إلى الفقهاء أو المحدِّثين أو المتكلمين، وإنما يرجع إلى عارف ممارس لهذه الأحوال مُسْتَبْحث عن علومها ودقائقها؛ لكأنما الإشارة الصوفية قائمة في الأساس على "الحال"، ومؤسسة عليه.

والحال يُذَاق ذوقاً ولا يُكيف بلفظ ولا بحرف ولا بلغة. قد تعطي اللغة كما يعطي اللفظ والحرف العبارة العادية؛ فيجيء المفهوم من ورائها متاحاً لكل قارئ ولأي قارئ، لكن عبارة الوجدان يعطيها "الحال"؛ لأنها فيما قال الطوسي "مواجيد قلوب ومواريث أسرار"؛ فهى من ثمّ إشارة من بطن التجربة ومن ذوق المعاناة فيها.

من هنا صار ما يعطيه "الحال" إشارةً. وصارت كتابة الصوفي أو أقواله إنْ هى إلا "حالات"؛ حالات إشراقية قد لا ينتظم فيها النسق العقلي ولا تضبطها قوانينه، وهى ليست ممّا يخضع بالمرة لقوانين العقل وحسابات المنطق, ولذلك فهى تقصر وتنضغط بمقدار ما تتفلت من تلك القوانين المنطقية.

وأستطيع أن أقول؛ إنها تُخفى وتنغلق كذلك أمام العقول التي انطمست فيها بصيرة الإدراك الذوقي أو عَقَمَتْ؛ لا لشيء إلا لأنها حالات ليست بحاجة إلى النسق المنطقي الصارم الذي لا يعرف معاناة الشعور، ولا مواجيد القلوب، ولا مواريث الأسرار في عالم التجريب.

الصوفي يصدر عن تجربته فيما يقول أو يكتب، ولا يصدر عن كدِّ الأذهان أو عنت العقول.

أقول؛ إذا نحن لاحظنا إجابة ابن عطاء السالفة عن السؤال الذي طرحه ذلك المتكلم في استخفاف أو استفزاز، ووضعنا في اعتبارنا عزة الطريق ووعورة السير فيه، أمكننا أن نفهم معنى حَجْبَهُ عن الأغيار، ونقدر بعد الفهم معنى "الغيرة" عليه من أن تناله أَفْهَام القاصرين.

والقاصرون في الفهم سيان في إنكارهم، مهما اختلفت الفِرَقْ التي تواردوا عليها وانتسبوا إليها؛ فليس من منصف فيهم يحسن الظن إزاء "علم الإشارة الصوفية"؛ يقبل بواديها فيرجع إلى نفسه فيحكم بقصور فهمه عنها، أو ترجع إشارة المشير فيما عَسَاهُ يشير إلى سوء الظن بقائلها فينسبه السامع كالعادة إلى الهذيان، ومن أجل ذلك؛ صَدَقَ الكلاباذي لمَّا أن قال :" وهذا أَسْلَم له من رَدّ حق وإنكاره ".

ولو أن أحدهم فهم الإشارة وأرتد بها إلى معارف القوم وعلومهم - التي هى كما يقول السراج الطوسي ليست لها نهاية -  لأنصف الحكم من نفسه؛ فحكم بقصور فهمه عنها وبقلة خبرته أو عدمها في التعامل مع إشاراتهم ومعارفهم، ولعَفى الصوفية - من ثمَّ -  من سترها تحت غشاوة الرمز المألوف لديهم أو حُجُب الغموض المتعمد؛ وذلك لأنها في  المطلق (أي مثل هذه العلوم والمعارف الصوفية ذات الأذواق والمواجيد العالية) ليست في مقرراتهم سوى:" إشارات وبوادٍ وخواطر وعطايا وهبات يغرفها أهلها غرفاً من بحر العطاء، وسائر العلوم لها حَدِّ محدود، وجميع العلوم تؤدي إلى التصوف ".

إنما أقوالهم في أحوالهم أسرى؛ فكل إشارة تحتها حكم الحال، وإنها لتغمض لغموض الحال وخفائه، وليس لهم حيلة في تحويله من حال إلى حال؛ كما قال قائلهم وهو ينشد:

إذا أهْــــلُ العِـــــبَارة سـَـــــائلـوُنَا

أجَبْــنَــــاهم بأعْــلام الإشَـــــــارَة

نُشِــــــيُر بها فَنَـــجْعَلها غُمُـوضَاً

تُقَـــــصِّر عَنـْــــــهُ تَرْجَمَةُ العِبَارَة

وَنَشْــــــــهَدُهَا وَتَشْـــهَدُنَا سُرُوَرَاً

لهُ في كلِ جَــــــارِحَة إشَـــــــارَة

تَرى الأقْـــوَالَ في الأحـوَال أسْرَىَ

كأسْـــرٍ العَارفِينَ ذَوْي الخِسَـــارة

ومن هنا وَجَبَ أن تكون "الغيرة" لعزة الطريق لها ما يبررها في موقف الصوفية من الضَّن بعلومهم عن أن تُشَاع في غير أهلها بين مَنْ يَفهم وَمَنْ لا يَفْهم. ولعلَّ الباعث الأهم في ممارسة ذلك الموقف واتخاذه على هذا النحو تأكيداً لإجابة أبي العباس بن عطاء السالفة، هو باعث الغيرة على الكيان الآدمي من أن يكون عُرْضة للسير كما السوائم مع القطيع، عُرْضَة للعبودية لغير الله ممّا عَسَاهُ يصيبه من لوثة الأغيار.

الغيرة على كيانك كله : على وعيك وعلى إدراكك، وعلى عقلك، وعلى تفكيرك، وعلى ذوْقك، وعلى شعورك، من أن يصيبه عَطب المفسدين، لاسيما فيما لو كانت بضاعة المفسدين تلك - فضلاً عن عطبها وفسادها - هى من الكساد والفقر وضعف التهذيب بحيث تُرجِع من فورك أصحابها إلى رذائل يتَّصفُ بها الخارجون حتى عن معنى الإنسانية، الساقطون عن القيم في أبسط معطياتها .. فهؤلاء الذين يتمنَّوْنَ على الدوام أن يفسدوا وأن يشيع في الناس الفساد؛ ليفسد من ثمَّ غيرهم، وأن يفسد بالضرورة غيرهم لفسادهم، هم لا إلى الإنسانية أقرب بمقدار قربهم في الواقع إلى العدميَّة والموات!

ولمَّا كانت أهمية الوازع في اتخاذ هذا الموقف ترتدُ عندنا إلى الغيرة على الكيان الآدمي كُله من أن تلوِّثه أذواق المفسدين - هذا إنْ صح أن يكون للمفسدين أذواق! - صارت هذه الغيرة هى غيرة على "الوعي الذاتي", أو إنْ شئت قلت : "الوعي الصوفي"؛ كذلك من أسباب التلويث وعوامل التكْدير.

فإن الذي يُعطي الوعي حقَّه من الإدراك لهو هو الذي يُعطي لنفسه احترامها، والذي يتنازل عن وعيه يتنازل في الوقت عينه عن احترامه لنفسه؛ إنْ لم يكن يتنازل عن ذاته في المطلق (بعد التطهير) بكل ما فيها من أعلى المدارك وأسمى الصفات. فقد تصطدم بالوعي لديك مع مَنْ لا يعي؛ فتكون في الغالب كارثة، إذْ ليس كل وعي من المطلوب إذاعته ونشره ولا كل وعي يَصحُ تقديمه لمن لا يعرف للوعي قيمة ولا قانوناً، لكنما الوعي الذي يُذَاع ويُنشر ويصحُّ - من ثمّ - تقديمه، هو الوعي فيما يخدم المآرب الرَّبانيَّة العليا لمن يستحقها، ولمن يطلبها، ولمن هو جديرٌ- على استحقاق - بمثل هذه الخدمة الواعية، وبمثل هذا التقديم المأهول، ثم هو، من بَعْدُ، لا يُحجِّر على عقول البشر فيما يريدون من عقولهم أنْ تصيبه على ديْدَن الإدراك فيما لو كانوا هم من أهله وذويه.

جَاء في حديث سيدنا رسول الله - صلوات ربي وسلامه عليه - شاهدنا على ما نقول، ما من شأنه أن يؤكد حفظ الوعي مُصاناً بعيداً عن عَطب المفسدين ممَّن ساروا سير السوائم قطيعاً أو على الأقل فيما يُشبه القطيع حيث قال :" لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها؛ ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم". ومن أقوال السيد المسيح :" لا تعلقوا الدُّر في أعْنَاق الخنازير ". وشاعرنا العربي يصيغ المعنى ذاته على طريقته حين يقول:

ومَن مَنَحَ الجٌهَّالَ عِلماً أضاعَهُ

وَمَن مَنَعَ المُسْتوْجبينَ فقد ظَلَم

وجاء في" حلية الأولياء" لأبي نعيم الأصفهاني أن:" مخالطة ضُعفاء العقول تُضعف العقل ". وَوَرَدَ في كتاب "التراجم" لابن عربي أن :" مَنْ يَزْرع الحَبَّ في السِّباخ يندم زَمَانَ الحِصَاد". فليس كل ما يُعْرَف يُقال، ولا كل ما يُقال يُوهَب لمن لا يستحقه.

هذه شواهد تجعل الإشارة علماً فوق كونه يتأسس على شرعة الذوق وعطايا الشهود؛ فهو أيضاً ليس يناله مطلقاً لمن هو من غير أهله أو ممَّن هو دونهم، ممَّن جَمدوا على تشرب الدعوى العريضة بغير أساس مقبول، واقتدروا على مثل هذا الجمود حتى طَمَسَ الجمود لديهم البصائر وأعماهم عن البصر بما سواه. غير أن مقدرتهم الدَّعية هذه ليست جديرة بالاهتمام كما قلنا ولا هى حقيقة بالاحترام بالجملة، ففوق كونها تعبيراً مباشراً عن العجز والإفلاس تمثِّل قدرة الفارغ الواهم لا قدرة الواثق العارف:

الفارغ الواهم يخبط خبط عشواء ويتوهم فيما يخبط فيه صباح مساء قدرةً وتميزاً واستطالةً، وتفوِّقاً على الناس، وامتلاكاً للحقيقة المطلقة يحتكرها وهو في ذات الوقت مُصاب بداء العجز وداء الجهل وداء الإفلاس !

أما العارف الواثق؛ ففيه من تقدير الآخر؛ لتقدير الروح الإلهي فيه؛ ما ليس يجعله يَتَوَعَّد الآخرين أو يسترهبهم، ولا يتطاول عليهم بألفاظ نابية ولا يستفزز منهم من شاء أو يستخفَّهم، وينشغل بحاله عن أحوالهم، وبأعماله عن أعمالهم، ويعمل من أجل إصلاح ذاته وغيره مرضاة لله، ولا يعمل من أجل تتبُّع أخبار الناس؛ ليضرب في هذا ويضرب في ذاك بالفتنة والوقيعة والدَّسائس النكراء ! ثم يكتفي بما له من منازلات الحال يحفظها مع الله على شرعة الحب والبذل والعطاء.

ومن أجل ذلك؛ ضنَّ العارفون على غيرهم بمالهم من علوم ومعارف، واعتبروها "أسراراً" لا تفشى ولا تُذَاع، إلا أن تكون إشارة لمَّاحة يصدرها الذوق من مواهب الحال، وتستقي من التجربة ولا تعْطَي هباءً منثوراً لكل من هَبَّ فيها ودَبَّ؛ فكما أنها لم تُحَصَّل إلا بالجهد والمعاناة، فكذلك لم تبذل إلا لمن هو حقيق بها؛ وخليق.

ولما كان التصوف أساساً هو "علم الباطن"؛ يُرَادف "الإخلاص" ويقابله في التوجه وفي التسليك؛ كما أخبر عنه رسول الله -  صلوات الله وسلامه عليه -  عن ربِّ العزة :" هو سرٌ من سري، أجعله في قلب عبدي، لا يَقف عليه أحدٌ من خَلْقي "، ولما كان هذا هو العلم الذي هو كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله ولا ينكره إلا أهل الغرة بالله؛ فقد وَجَبَ أن يكون محفوفاً بالمخاطر والأهوال، الأمر الذي توَجَّبَ على ذويه أن يصونوه ويكتموه ويضنوا به على غير أهله؛ لأنه كما أنشد الشبلي:

عِـلْمُ التّــَصَوِّفِ عِلْـم لَا نَفَــادَ لــهُ

عِــــلْمٌ سَــــنِيُّ سَمَــاوِيٌّ رَبُــوبِـي

فيه الفَوَائِـدُ لِلأرْبـــَابِ يَعْرِفُهــــــَا

أَهْـلُ الجَزَاَلَةِ والصُّنْع الخُصُوصِي

وللإمام الجنيد لما أنْ سُئل عن التصوف قال :" التصوف عِنْوةٌ لا صُلحَ فيها"؛ أي أنه مقاساة، وصعوبة، ومشقة، ومُغالبة. ووصف الصوفية فقال :" هم أهل بيت واحد لا يدخل فيهم غَيْرهم ". ومن أجل هذا؛ وجبت تحذيرات الصوفية الصارمة فَشَدَّدوا على سرية العلاقة بين العبد والحق، وعدوا من يفشي أسرار الطريق هو بمنزلة الآبق الكافر، وليس الكفر بالطبع هنا هو الكفر الشرعي، ولكنه الكفر في قانون الطريق بمعنى الخروج عن وعي الطريق أو البعد عن ملاحظة أسراره؛ فلا يحفظ سر الربوبية غير قلب الحر، حتى إذا ما وصل أحدهم إلى مراحل الكشف والمشاهدة قال مع الغزالي :" ليس كل سر يكشف ويفشى ولا كل حقيقة تُعْرَض وتحكى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار"؛ وصاغ ابن عربي العبارة نفسها حيث قال :

فافْهَــمْ فَدَيْتُــك سّــرُّ الله فيكَ وَلَا

تُظْهِرُهُ, فَهُوَ عَنِ الأغْيَارِ مَكْنُونُ

وَغِــرْ عَليه وَصُنْه مَا حَييـتَ بَهِ

فالسِّرِ مَيِّتٌ بقلبِ الحُــرِّ مَدْفُـونُ

ونبَّه عبد الكريم الجيلي (ت 805 هـ) على أهمية أن تُصَان الإشارات بعيداً عن لغط العوام؛ لأنها أنوار ذاتية خَاصَّة تحتها أسرار مكتومة يراها من يقتدر على فك اللغز من ورائها، وأرشد مريده :" فإذا أطلعت على هذه الأسرار، وسرت في صفاء هذه الأنوار، صنها تحت كتم العبارات، وأحفظها تحت ختم الإشارات، ولا تفشها؛ فالإفشاء خيانة، ومن فعل ذلك فقد حُرم ثواب استلزام الأمانة، ويرجع إلى "مرتبة العوالم" بعد أن كاد يبلغ عالم الملائكة الكرام"؛ ويقصد الجيلي بمرتبة العوالم أي تلك العوالم السُّفلية التي لا تَزَال محفوظة ما دامت بأرواح الملائكة ملحوظة على حد شرح الجيلي نفسه في كتابه "الإنسان الكامل"؛ والرجوع إلى مرتبة العوالم معناه : الارتدادُ إليها بعد أن حُرم البقاء في عالم الملائكة لخيانة الأمانة وإفشاء الأسرار. فضلاً عن هذا, فإنّ إفشاء السر ليس يزيد السامع إلا ضلالاً, ولا يفيده - بتعبير الجيلي - إلا تقييداً واعتلالاً.

فلئن كان الصوفية يؤسسون لعلم الإشارة على شرعة الحبّ والذوق والتحقيق، ويعتبرون هذا العلم (سرَّاً) كيما لا يناله مطلقاً ما ليس من أهله, فهم إنما يفعلوا ذلك دائماً وأبداً؛ لأن الأسرار معتقة عن رقِّ الأغيار من الآثار والأطلال كما قال القشيري. على أن لفظ السّر يُطلق على ما يكون مصوناً مكتوماً بين العبد والحق سبحانه في الأحوال, وعليه يُحْمَل قول من قال :"أسرارنا بكر لم يَفْتَّضُها وهم واهم".

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم