صحيفة المثقف

أضاعوا المبادئ في العَلَن فَضاع بَعدَها الوَطن

اكرم جلالالحديثُ عن القِيَمِ والمبادئ هو حديث بطبيعته يُحاكي أهمّ الأشكالات الفلسفيّة التي طالما أنشغل فيها الكثيرون من أهل الفكر والفلسفة. لَقَد كانَ لعمليّة التشويه ومِن ثُمّ الغزو الفكريّ والثقافيّ تأثيره البالغ على عقول الناس، نَتَجَ عن ذلك ضياع للقيم والمبادئ، فَتَحوّل الصّراع بعدها من ميدان المواجهة مع النُظُم الأستبدادية إلى الأقتتال المذهبي والتصادم الطائفي، صراعات أساسها غياب المبادئ والقِيَم واللّهث وراء السّراب والوَهَم، فالتَقَتْ جميعها في مُستنقعٍ انعدام الفكر وغياب الوعي، صحراء قاحلة لا يوجد فيها ضَرْعٌ ولا يَنْبُتُ فيها زَرْعٌ إلّا شَجَرة الأطماع الملعونة حيث  تَعَلّق بأغصانها الأنتهازيّون مُتوهمين أنّهم بمأمنٍ من طوفانٍ لا يُبقي ولا يَذَر.

المبادئُ ليست تَرَفَاً فكريّاً ولا هي تدوينٌ لحقائق ذهنيّة عابرة، ولا حتى بَذخاً في المُجرّدات، إنّها المجموعة الأخلاقية التي تَوارَثَها البشر فساهمت فيها التعاليم الدينية والصحيح مِنَ الأعراف والعادات الأجتماعية، فَتَعَمّقت في نفوس الأفراد وأكّد عليها الأنبياء والمُفَكّرون والفلاسفة والمُصلحون وأعتبروها نسيج الشخصية المُفكّرة ورصيده الإنسانيّ وعناوين لا تليق إلا بحامليها. لقد جُمعت على فترات فكانت هي المعايير لحفظ الفرد والمجتمع من كل منهج براغماتي دخيل يبغي النتائج السريعة والمنافع الوسيعة والمكانة الرفيعة بغضّ النّظر عنِ الوسائل المتّبعة.

لقد بدأ الفَهْم الماكيافيللي يَتَحَوّل الى نصوصٍ مُقدّسة تتبنّاه أنظمة ويتغنّى به السياسيون، وباتَ التّسابق المحموم في التبرّي والتخلّي عن المبادي والقِيَم هو السائد، تُعينه على ذلك التغيّرات التي يشهدها عالمنا اليوم، حيث الأنا والغرور وحبّ التسلّط، وتحوّلت الأهواء والغرائز الى ربّ يُعبد والمنافع والمصالح الفئوية الى مَذهب يُقدّس.

إنّ القِيَم والمبادئ الأسلاميّة هي الأكثر ثَباتاً والأشدّ رسوخاً فهي التي لا تقبل النسبيّة ولا التجزئة ولا التغيير بمرور الأيّام والأعوام، لذلك فإنّ الثّبات على هذه المبادئ وتعميقها في النفس الأنسانيّة هي من أعظم الأهداف وأقدسها، فلا ينهض بها إلّا أهل العلم والفكر الذين أيقنوا أنّها السّور الذي يقي الأنسان من أمراض المنافع والمصالح.

لقد أدرَكَت القوى الأستبداديّة خطورة هذا الجدار الواقي فبادرت بالتخطيط والأعداد لحرب من نوع أخر، إنّها حرب تحطيم القِيَم والمبادئ، حربٌ كانَ الإعلام هو السلاح الأشد فتكاً والأمضى حداً، حيث أستخدمته قوى الشرّ والطغيان، متّخذة من النُخب وسيلة، فبدأوا بشراء الذّمم وتحويلهم الى أسياد بعد أن كانوا عَدَم، فجعلوا منهم قيادات سياسية ورموزاً ثوريّة وإعلامية من أجل أن تُسمع أقوالهم ويُمْتَثَل لأفعالهم؛ فأستعانوا بهم لتمزيق ما تبقّى من قِيَم وتحويلها الى نِقَم، تَنْهَش بخيراتِ البَلَد وَتَستنزف طاقات أفراده فكرياً وسلوكياً. لقد انمَحَت الأماني بعدما غابت المعاني ولم يَبقى لتلك القيم والمبادئ إلّا أشكالها وصورها؛ فَخَلَطوا بذلك الحق بالباطل وألبَسوا على العوام المفاهيم وبدأت الشبهات تغزو العقول، فَسَقَط الكثير وَلَم يَثْبُت بعدها إلّا القليل من أهل البصائر، ممّن لم يَنْخَدع بظواهر الأشياء ولم يَعرِفَ الحَقّ بالرّجال.

أصبحت الأنتهازيّة اليوم هي الآفة العظمى التي تفتك بأوصال المجتمعات والأمم والفأس الذي يُهَشّم المبادئ والقيم، والوسيلة التي يلجأ اليها أصحاب المنافع الخفيّة والمطامع الدنيويّة، بل واتَّخَذَها أهل السياسة فناً فدَوّنوه في قواميس السياسة على أنّه المهارة التي لا يتقنها إلا القلائل. سُوقٌ لا يَرتاده إلّا أصحاب النفوس المريضة، فحينما أجمعوا على بيعِ القِيَم فإنّهم بذلك أضلّوا المجتمعات والأمم، ثُمّ مضوا بطرح بضاعتهم الفاسدة في متاجر الغفلة والجهل، مُنْتَج نَتِنٌ هدفه قتل الفكر والأصالة، ولِتُضرب الآمال عرض الحائط وليَحِلّ محلّها الضّيم والتسلط وسرقة الثورات والثروات.

الأنتهازيون في الحقيقة أناس غرباء بما يمتلكون من قدرة عجيبة في المراوغة والمزاوغة والخداع، براغماتيون حدّ النخاع، لا يحملون قيماً ولا مبادئ في ميادين الصراع، أهدافهم منافعهم، لايثبتون على حال، متلوّنون قد ارْتَدَوا ثياب الحرباء فحيث ما تميل مصالحهم تراهم يسلخون جلودهم ويستبدلونها بلون آخر،متخلّين عن ضمائرهم وإنسانيّتهم. 

ثم نراهم يدّعون الواقعية ويعيشون البراغماتيّة ويجعلون منهما أعذاراً واهية لنيل المنافع الشخصية، لذلك تراهم يزيّفون المبادئ ويحرّفون الحقائق خِدْمَة لأهدافهم. إنّهم لا يمتّون لهذه الأمة بصلة، لقد فقدوا الوطنية واستبدلوها بالأنانيّة، فكانت هي السلاح لتحطيم الصمود وزعزعة الثّبات وتشويه الحقائق بالخُرافات. المبادئ والقيم هي الدرع الواقي ضد كل الخطابات التي تشجّع على سحق الفكر وتدعو الى الجهل وتزرع الحقد والكراهيّة وتُشَرعن للخيانة وتؤطرها بأطار المقبولية وتعطي للغدر عنوان المقبولية، وليكون هو عنوان الشطارة وفي السياسة هو المهارة.

إنّ الأمة التي يقودها ويخطط لمستقبلها ويتصدّر مشهدها السياسي والثقافي أفراد باعوا القيم والمبادئ هي أمّة لن تنعم بالأستقرار أبداً وستعيش المصاعب والمتاعب جيلا بعد جيل، فهؤلاء قد تلوّثوا بالعار وانتهجوا الغدر والخيانة وأتخذوها وسيلة للوصول الى مآربهم فهم بذلك لَوْثَة مُلَوّثَة، لا يمرّون على أمر حتى يستفرغوه من كل القيم ويستبدلوه بالكذب والوهم، لقد خانوا الأمانة وباعوا الضمير بمتاع زائل.

لقد احتَرَفوا وأبدَعوا بجدارة حينما استَبدلوا الوطنيّة بالتجارة، فبات الوطن بسببهم يعيش ما بين مطرقة سياسة الظلم والجور والنهب والسرقة وسندان ضياع المبادئ والقيم والأخلاق. نحن يا أخوتي أصبحنا ضحيّة أناس أستَحمّوا بوحل النّجاسة وشربوا من ماء الرذيلة والدّناسة وامتهنوا الغدر والخداع وأسموها سياسة، ومارسوا الخيانة وأسموها تجارة، ضاع الخجل وانمحى العار واصبح نقض العهود هو الخيار، اصبح سحق القيم وتمزيق المبادئ منقبة وافتخار، فَعَمِيَت أبصارهم وبصائرهم وتناسوا آلام ابناء جلدتهم، قتلوا الضمائر وسحقوا البصائر وجاؤا بالصغائر والكبائر، ذبحوا المبادئ في العلن فضاع بعدها الوطن.

 

د. أكرم جلال كريم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم