صحيفة المثقف

في تفاعل قطبي البطل التاريخي والجمهور البطولي

محمد الدعمينرتجع إلى الماضي في حالات عدة ومن أهمها الحالات المشحونة بالدروس والعبر، زيادة على الحالات الجديدة في تواريخ الشعوب (“الجديدة” في سياقي هذا يأتي بمعنى: غير المجربة من ذي قبل). لذا أفدت من دراستي للأدب والتاريخ والفكر البريطاني كثيرا، خصوصا على عصر الثورة الصناعية (عبر القرن التاسع عشر)، إذ واجهت أذكى العقول المسؤولة حقبة ذاك معطيات اجتماعية وسلوكية لم يسبق لبريطانيا أن عهدتها. وقد كان أهمها ما يلي: (1) ظهور وتبلور الطبقة البروليتارية العاملة العامة؛ (2) ظهور المدينة الصناعية بمسالكها العصية كظاهرة لم يسبق للبلاد أن عهدت مثيلا لها؛ (3) تبلور آثار المكننة وغزو الماكينة على حياة الجمهور؛ (4) إفراز طبقة مفكرة مرهفة الحس وعالية المسؤولية من نوع جديد، يختلف تماما عما سبق من نخب مثقفين.

والحق، فإن الفقرة (4) أعلاه كانت الأكثر أهمية وحساسية، نظرا للمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق هذه العقول في سياق التعامل مع المستجدات الفكرية والاجتماعية البنيوية عامة: ففي لحظة تاريخية مثل هذه، يتوجه الجمهور نحو الأذهان المثقفة الوقادة بحثا عن الإجابات الذكية الناجعة لما يواجه المجتمعات والحكومات على حد سواء. والحق، فإن النخبة الفكرية البريطانية قد تصدت للتعقيدات الجديدة بدرجة عالية من إرادة التغيير، درجة يتوجب علينا في دول الشرق الأوسط أن نحسدهم عليها الآن: فقد ظهرت عقول عبقرية فلسفية المنحى من عيار “توماس كارلايل” Carlyle و”جون ستيوارت مل” Mill و”ماثيو آرنولد” Arnold من بين سواها من الأذهان الوقادة التي لم تحاول حل ألغاز العصر الجديد (أي عصر الماكينة) للإجابة على أسئلته ومستجداته، ولكنها (كخطوة أولى) حاولت هذه العبقريات “وصف” أهم التعقيدات والمستجدات على سبيل تشخيصها أسبابها وجذورها، كما تشخص الأمراض من قبل الطبيب: فبدون التشخيص الدقيق لا يمكن مباشرة الفكر الاجتماعي ثم معالجته. وإذا كان المفكرون الاشتراكيون من أمثال كارل ماركس Marx وفردريك أنجلز Angels قد تعاملوا مع معضلة اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء مع تبلور الطبقة البروليتارية على سبيل طرح نظرية الاشتراكية، حاول آرنولد حل خانق بريطانيا الجذر (كما أراه) عبر أوروبا بكاملها باعتماد طريق أخرى، وهي إصلاح وتطوير نظم التربية والتعليم، على سبيل التأسيس لثقافة مستنيرة جديدة قادرة على استيعاب “النقلة التاريخية” وإيجاد الحلول الموائمة لمعضلاتها، ناهيك عما تقدم به كارلايل للعالم بأسره عبر “نظرية البطل” Theory of the Hero، إذ ارتجع هذا المفكر الفذ إلى الماضي ليلاحظ بأن خوانق التاريخ التي تمر بها الأمم عامة عبر دورات التاريخ إنما تتطلب “البطل” المنقذ والراشد القادر على السمو بنفسه وبرؤيته فوق تعامي الجمهور وغموض وتخبط الحاضر كي يعاين الحاضر على نحو دقيق يوفر له أسباب انتشال الأمة من حال اللايقين والخوف من المستقبل بمعالجة فريدة لمعضلة “البحث عن مركز سلطة قوي”، وهي المعضلة التي أرقت جميع المفكرين أعلاه، من بين آخرين، في سبيل أن يستحضر شخصية الرسول الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) واحدا من أعظم الأبطال في التاريخ بضمن شريط البطولة التاريخية الذي، كما يرى كارلايل، وجه وشكل جوهر حركة التاريخ عبر جميع الأمم، مؤكدا على حقيقة خطيرة، مفادها بأن البطل لا يتمكن من ليّ المشاكل المستعصية بدون جمهور بطولي يستجيب له ولرؤيته. وهنا تكتمل “المعادلة المنتجة” التي تصنع التاريخ.

 

أ. د. محمد الدعمي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم