صحيفة المثقف

تحديد مدة حكم الخليفة

ملاحظة: هذا البحث قابل للنقاش

هذه من المسائل التي تبنى فيها حزب التحرير، حيث اعتبر أنّ مدة حكم الخليفة مطلقة مدى الحياة ما دام مطبقا لكتاب الله وسنة نبيه، واعتبر تحديد مدة حكمه لا يوجد عليها دليل أو شبهة دليل، وهو رأي يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ، مثله مثل أي مسألة اجتهادية تستند لأدلة ظنية، ومع التزامنا بهذا التبني إلا أنني أرى أن المسألة مرجوحة لما يلي:

  من استعراض الأدلة والنصوص التي استند إليها الحزب في عدم جواز تحديد مدة حكم الخليفة، فإنني لم أجد دليلا واحدا يمنع تحديد مدة حكمه، ولا يفهم من نصوص البيعة تحديد أو عدم تحديد للمدة، وإنما يفهم منها وجوب البيعة على الحكم بما أنزل الله، وطاعته ما لم يأمر بمعصية، وعدم تحديد المدة للنبي صلى الله عليه وسلم أو للخلفاء من بعده، ليس دليلا على عدم جواز تحديدها، لأنّ هذا الأمر ليس من باب البدعة، بل من باب الشـروط، وأيضا فإننا مأمورون بالتأسي بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ولسنا مأمورون بالتأسي بعدم فعله أو عدم فعل الصحابة، فالولاة والمعاونون لم تحدد لهم مدة، ومع ذلك أجاز الحزب أن تحدد مدة المعاون والوالي دون نص على جواز ذلك، واقتصـر على الاستدلال على جواز تحديد مدة توليتهم بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من جواز عزلهم للولاة، وجواز عزلهم لا يعني تحديد مدة لهم أو عدم تحديد، كما أنه يجوز أو يجب عزل الخليفة في حالات معينة، وقد مكث عثمان ابن أبي العاص الثقفي واليا على الطائف حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، ومكث معاوية واليا على الشام في خلافة عمر وخلافة عثمان، ومكث الولاة والمعاونون في عصور ما بعد الخلافة الراشدة في مناصبهم حتى وفاتهم وورثوها لأبنائهم، فوجدت فتن كثيرة على الأمة وضرر واضح على كيانها، وكذلك جعل الولاة يستقلون بولاياتهم عن الدولة، جراء عدم تنظيم هذا الأمر، كل هذه أسباب اعتبرها الحزب موجبة لتحديد مددهم، والأدلة التي أوردها الحزب على عدم جواز تحديد مدة الخليفة هي أدلة متعلقة بالبيعة على الكتاب والسنة أي البيعة على الحكم بالإسلام، ومفهوم المخالفة لها أنه لا يجوز البيعة على الحكم بغير ما أنزل الله كالحكم بالهوى أو الرأي أو حكم الأكثرية أو حكم الجاهلية، وليس لها علاقة بالمدة، وكذلك أدلة الطاعة التي استدل بها الحزب، فإنها تدل على وجوب طاعة الحاكم وأن لا ننازعه الأمر ما دام يحكم بالإسلام، ومفهوم المخالفة لها أنه لا يجوز معصيته ما لم يأمر بمعصية، ولا يقال إن تحديد المدة هو تقييد للمطلق بدون دليل، لأن المطلق هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه، والمقيد ما دل على مدلول معين مثل زيد وعمرو، وليس للمدة علاقة باللفظ المطلق في هذه النصوص، وكذلك يطلق المقيد على اللفظ الدال على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة مثل دينار عراقي وجنيه مصـري، ولكنه بالنسبة للدينار مطلقا، فهو مطلق من وجه ومقيد من وجه، ومثل رقبة مؤمنة، فهو مطلق في الرقبات المؤمنة ومقيد بالنسبة للرقبة، وهذا كله ليس له علاقة بتحديد المدة، وكذلك اللفظ العام، فإنه يدل على معنيين فصاعدا  ويستغرق جميع ما يصلح له بلفظ واحد مثل القوم والرجال، وليس له علاقة بالمدة.

فالحديث الذي رواه البخاري عن جنادة بن أبي أمية قال دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله، حدث بحديث ينفعك الله به، سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسـرنا ويسـرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان"، فالبيعة كانت على السمع والطاعة وعدم منازعة الأمر أهله، طوال مدة حكمه، فلا يجوز منازعته الأمر مدة حكمه طالت المدة أم قصـرت وتحرم معصيته، واشتراط المدة أو عدم اشتراطها في العقد لا يجيز الخروج عليه خلال حكمه، والحديث لا يدل لا منطوقا ولا مفهوما على تحديد المدة أو عدم تحديدها، بل يدل على وجوب الطاعة وعدم المنازعة خلال حكمه، ومفهوم المخالفة هو أنه لا يجوز معصيته ما دام مطبقا لحكم الله، ووجوب منازعته إذا أظهر الكفر البواح،  ولم يبين الحديث ما يجوز اشتراطه وما لا يجوز، وعدم تحديد المدة ليست شرطا من شروط انعقاد البيعة كما أن تحديدها ليست شرطا من شروط انعقادها.

 والعقود في الإسلام سواء أكانت عقود لازمة كعقود البيع والإجارة، أو كانت عقود جائزة كالوكالة والشـراكة تلزم الالتزام بالمدة إن كانت مقيدة بمدة، وبحث جواز فسخ العقد أو عدم جوازه متعلق بذات العقد وطبيعته، وليس متعلقا بالمجال الزمني أو بتحديد المدة، فهناك عقود يجوز تحديد المدة فيها وهناك عقود لا يجوز تحديد المدة لها، وهذا راجع لطبيعة وواقع ومناط العقد، فعقد البيع لا يجوز تحديد المدة فيه لأن واقعه هو انتقال ملكية المبيع من البائع إلى المشتري، مع جواز تحديد مدة الخيار في إعادة المبيع خلال مدة معينة إن تبين فيه عيب أو كان مخالفا للصفات التي وردت في العقد، وكذلك عقد الزواج فلا يجوز أن يحدد بمدة معينه كما كان عليه الحال في زواج المتعة قبل تحريمه، فتحريم زواج المتعة هو نهي عن تحديد مدة الزواج، أما عقد الإجارة فإنه يختلف عن عقد البيع والزواج، فإنه يبقى على إطلاقه إن لم يحدد بمدة معينة، ويلتزم الطرفان بالمدة إن قيدت بمدة معينة، مع جواز الفسخ بالتراضي في كلا الحالتين، وأيضا عقد الوكالة فإنه يختلف عن عقد البيع وعقد الزواج، إذ أن العقد بين الوكيل والموكل إن كان مطلقا دون تحديد مدة يبقى على إطلاقه، أما إن حددت مدته فيجب الالتزام بمدته، وفي كلا الحالتين يجوز فسخ العقد من أحد الطرفين، إلا إذا كان الوكيل مقرضا للموكل، وحصل على وكالة منه لاسترداد دين له بدل القرض، فاشتراط المدة أو عدم اشتراطها في عقود الإجارة والوكالة ليس شرطا في صحتها، بل شرطا زائدا عن شروط صحتها، فيجوز اشتراطها ويجوز عدم اشتراطها، وعقد البيعة هي أقرب إلى عقد الوكالة منها إلى عقد الزواج والبيع، بل هي مثل عقد الوكالة، بل هي عقد وكالة، إلا أنه لا يجوز فسخها من طرف الأمة دون الإخلال بشـروطها لوجود نص يمنع منازعة الأمر أهله، وبما أنه يجوز تحديد مدة عقد الوكالة وعقد الإجارة فإنه لا يوجد ما يمنع من تحديد مدة عقد البيعة، ويجوز للخليفة تقديم استقالته، ولا يجبر على الاستمرار بمنصبه، جاء في جواب سؤال للحزب تاريخ 1968/10/20 "لا يجبر المسلم على قبول الخلافة لأنها عقد مراضاة ولا يجبر على الاستمرار بها إذا قبلها لأنها من العقود الجائزة شرعا وليست من العقود اللازمة، فالإجارة والبيع مثلا من العقود اللازمة، ولكن الوكالة والشراكة من العقود الجائزة والخلافة من هذا القبيل فهي من العقود الجائزة، فيجوز للخليفة أن يترك الخلافة ويرجع الأمر للمسلمين يبايعون غيره". انتهى الاقتباس من جواب السؤال.

فأمر تحديد المدة أو عدم تحديدها له علاقة بذات العقد وواقعه، وهو شرط زائد في العقود التي تقبل تحديد المدة كالوكالة والإجارة، فمثل هذه العقود يجوز تحديد المدة فيها ويجوز عدم تحديدها، وتحديد المدة هو شرط زائد، وهذا ينطبق أيضا على عقد البيعة، فيجوز اشتراط تحديد المدة كشـرط زائد على العقد.

أما العقود التي واقعها يمنع تحديد المدة كالزواج والبيع، فإنه يكون نافذا على التأبيد، إلا إذا كان عقد البيع فيه شرط الخيار إذا تبين فيه عيب خلال مدة معينة، وهو ما يسمى في أيامنا كفالة المبيع، وعقد الزواج يكون دون تحديد مدة، ويمنع الزواج الذي تحدد فيه المدة وهو زواج المتعة لوجود النهي عن ذلك.

ولا يقال إنّ هذا الشرط هو بدعة لأنه مستحدث وليس مما عليه أمرنا، ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا صحابته، فيكون حراما، لا يقال ذلك لأن البدعة لا تكون إلا في العبادات المخصوصة كالصلاة والصيام والحج، فالزيادة في الصلاة أو النقصان أو إضافة حركة أو كلمة أو ما شاكل ذلك يعتبر بدعة، وزيادة شرط تحديد المدة في عقد البيعة ليست من هذا القبيل، لأن عقد البيعة ليست عبادة بالمفهوم الخاص، بل هو من الأحكام الشرعية المتعلقة بالتصرفات، وتحديد المدة فيه من قبيل الشـروط الجائزة التي تنعقد البيعة بدونها، والشروط الجائزة هي شروط زائدة عن شروط صحة العقد والتي يصح العقد بدونها.

وقد بايع المسلمون عثمان بالخلافة على شرط عبد الرحمن بن عوف له وهو: أن يحكمهم بسنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فقد جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري عندما خطب عبد الرحمن بمن حضر من الصحابة من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد في بيعة عثمان فقال لعثمان: "  أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون" وحدث هذا أمام سمع ومرأى من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فيكون إجماعا، وهذا الإجماع يدل على جواز اشتراط الأمة على الخليفة شرط إلتزامه بالدستور والقوانين المسطرة والتي تم تبنيها سابقا، ومثله اشتراط تحديد المدة، بل يفهم منه فوق ذلك تحديد صلاحيات الخليفة والزامه بالشروط الجائزة التي ترد في عقد البيعة والتي تبايعه الأمة  على اساسها.

فجواز فسخ عقد البيعة من طرف الخليفة جائز وهو ما يسمى بالاستقالة، وعدم حصولها من قبل الخلفاء الراشدين لا يعني عدم جواز الفسخ أو الاستقالة، ولا يقال أنّ موضوع الاستقالة هو بدعة، فعدم حدوث فعل أيام نزول الوحي لا يعني عدم جوازه.

 والوالي والمعاون، لم تحدد مدد لهم ومع ذلك يجوز تحديد مدة كل واحد منهم، كي لا يتمكن ويستقل بذاته، كما حصل مع معاوية، ومع الولاة أيام الحكم العباسي والعثماني، وجواز عزلهم من قبل الخليفة لا يعني تحديد مدتهم أو عدم تحديدها، ولا يقال إنّ أمر تحديد مدتهم هو بدعة، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده لم يحددوها، فعثمان ابن أبي العاص الثقفي عين واليا على الطائف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم ومكث مدة حياته صلى الله عليه وسلم وطول خلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، وحدث هذا مع معاوية كذلك، ومع أبي بكر وعمر عندما كانا معاونين للرسول صلى الله عليه وسلم، فلم تحدد مدتهم ولكن كان أمر عزلهم بيد الرسول صلى الله عليه وسلم كحاكم، وجواز عزلهم لا يعني عدم جواز تحديد مدة لهم، وكذلك الخليفة، فمع عدم وجود نص يجيز تحديد المدة، فإنه كذلك لا يوجد نص يمنع تحديد المدة، لأن تحديد المدة هو شرط زائد عن شروط انعقاد البيعة، وكما أن من الأسباب الموجبة لتحديد مدة الوالي وتقليص صلاحياته هو عدم التمكن والاستقلال، فإن من الأسباب الموجبة لتحديد مدة الخليفة، هو منعه من التمكن والاستبداد من خلال تقريب أصحاب النفوس المريضة منه، ومحاولة التعديل في مواد الدستور بما يمكنه من إبقاء الحكم في ذريته، فتعود كما كانت قيصـرية وكسروية لأكثر من ألف ومائتي عام.

وقد كان لطول مدة بعض الخلفاء في الحكم ضرر واضح على الأمة والدولة، وهي نفس الأسباب الموجبة لتحديد مدة المعاون والوالي، مما يستدعي أن نأخذ بجواز تحديد مدة الخليفة كي لا يستبد.

فتحدد مدة الخليفة بخمس سنوات مثلا، كي لا يستبد، كما حصل مع كثير من الخلفاء، الذين مكثوا عقودا طويلة، خاصة إذا تولى الخلافة شابا، فبقاؤه حتى وفاته يجعل موضوع الاستبداد واردا جدا، فربما امتدت حياته إلى ما بعد الثمانين من عمره، وهي مسألة قابلة للاجتهاد والتبني، وليست مسألة قطعية، ولو تبنينا فيها تحديد المدة فإني أظن أنها ستكون أفضل.

 

أحمد أبو قدوم/عمان

 

 

تعليقات فيسبوك

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم