صحيفة المثقف

دور المدرسة في بعث مفهوم التّعايش وترقية المُوَاطَنَة في وقت الأزمات

علجية عيشكيف يمكن تحقيق الحكم الراشد بعيدا عن المدرسة التي تعتبر العمود الفقري التي تقوم عليه الأمة، وهي في اتجاهها نحو العولمة هذه المدرسة التي تعمل على بناء مواطنا صالحا، ولذا وجب الربط بين ثلاثة عناصر أساسية هي: " المدرسة، العولمة والمواطنة" طالما الأمر متعلق بقضابا التنمية والإصلاح المؤسساتي، لقد حان الوقت للعودة إلى مدرسة النبوة التي تخرج على يديها علماء وفقهاء وعباقرة ومواطنون صالحون والعمل بنهجها وتكريس فكرة المواطنة داخل المؤسسات التربوية وجعلها مادة إجبارية في المقررات المدرسية، لأن العلم هو الطريق الةحيد الذي يوصل إلى الحضارة شرط استعماله لأغراض نبيلة، إن هذه الهبّات التي قام بها مواطنين لإنقاذ الناس من فيروس كورونا يدخل في باب المواطنة ومسايرة الأوضاع الراهنة

اعتادت الشعوب والدول أن تظهر تضامنها مع الآخر الذي في حاجة إلى دعم ومساندة مهما كانت عقيدته أو إيديولوجيته خاصة في الكوارث الكبرى كالزلازل والفيضانات أو ظهور أمراض خطيرة يستعصي علاجها ومقاومتها ، وقد شهد العالم الكثير من الحالات التي استوجبت تظافر الجميع من أقصى الأرض إلى جنوبها، وتدخل الحكومات، وضعت لها سياسات وقائية، وجندت لها جيشا عرمرم للقضاء على هذه الظواهر المرضية التي سجلت خسائل مادية وبشرية وأنهكت حتى القوى الكبرى، وقد شهد العالم كله وهو يعيش الكوارث الطبيعية والمصطنعة، ( أي التي من صنع المخربين من البشر) هبّات جماعية لإنقاذ البشرية، كل هذا يدخل في باب التعايش السلمي مع الآخر، ويدخل أيضا في باب المواطنة  la citoyennete، والمواطنة لا تعني فقط أن يكون لنا الحق في التعبير عن الرأي والمشاركة السياسية أو  تلك الحقوق التي أوردها الدستور كالسكن والشغل وحق التداوي وما إلى ذلك، وإنما ان يكون لنا الحِسُّ  الوطنيُّ تجاه الآخر أو من يحيط بنا حتى لو كان على غير ديننا ومذهبنا أو ثقافتنا تختلف عن ثقافته.

لقد صاغت المنظمة الدولية مفهوم "المواطنة" من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وذلك في إطار التحول الديمقراطي الذي يعتبر وسيلة لتحقيق العديد من الأهداف السياسية، ولذا ربط الحقوقيون دولة المواطنة بحقوق الإنسان في العيش في سلام، والمشاركة في الحكم من خلال العملية الديمقراطية، و المواطنة  في  المفهوم المعاصر تعني التعبيرعن علاقة الفرد بدولته، تلك العلاقة التي يحكمها دستور الدولة والقوانين الصادرة عن سلطتها التشريعية لتنظيم تلك العلاقة، بتحديد حقوق الأفراد، وكيفية التمتع بها،  إلا أن مفهوم المواطنة لم يحدد في جانبه البيداغوجي التربوي، وكيف نغرس هذه الفكرة في أذهان الجيل الجديد، فما يعرفه العامة  عن المواطنة سوى أنها تعني أن جميع أبناء الوطن يعيشون متساوون في الحقوق بدون أدنى تمييز،  يشعر فيها المواطن بالإنتماء والولاء للوطن، وتأتي المواطنة من خلال وعي المواطن بأنه حرٌّ في بلاده وليس مجرد مقيم يخضع لنظام معين، دون أن يشارك في صنع القرارات.

في كتاب الأستاذ يحي اليحياوي من المغرب بعنوان: "العولمة في مجتمع الإعلام" كتب مقدمته المفكر المغربي مهدي المنجرة  صدر عن منشورات الزمن، تحدث عن فكرة العولمة و المواطنة هذه الأخيرة كثير من المفكرين والباحثين حصروها في مجال السوق وقالوا: لا مواطنة في زمن العولمة إلا مواطنة السوق ولا مواطنة إلا لم يملك ويتملك ولا مواطنة إلا لمن يضع القوانين واللوائح، وفي نهاية المطاف لا مواطنة إلا للأقوى ، وأهملوا الجانب الإجتماعي والتربوي في بناء المواطن الصالح، وفي مقدمته المدرسة التي تعمل على التنشئة الإجتماعية، وتسليح العنصر البشري بسلاح المعرفة، وهذا ما أفرزته مواطنة السوق للأسف من بؤس وتفقير وتهميش ولا مساواة أمام المواطنة الحقيقية، فهذه الفلسفات والسياسيات أنشأت مواطنا ماديا همّه سوى الكسب السريع، وأنشات جيلا سلبيا جعلته  إمّا متكاسلا عاطلا لا يفكر،  وإما مجرما يمتهن السرقات وتعاطي المخدرات..الخ، وبذلك فقد حدد يحي اليحياوي مفهوم المواطنة بأنها وسيلة للإندماج الإجتماعي قبل الإندماج الإقتصادي، أي وسيلة للتحسيس بالعيش في المجتمع (  une manière d’etre ensemble) وقال أن المواطنة تاريخية، ولسيت وليدة الساعة ولها علاقة بالحاكمية  والعولمة وهنا وجب حل اشكالية المواطنة بكل أبعادها ، وحلها يكمن في  تفعيل منطق التشاركية  وقيم المساهمة  ثقافيا واعلاميا حتى يمكن لها أن تصمد أمام مد العولمة، والمدرسة تعتبر الأرضية لتجسيد هذا المشروع على أرض الواقع.

والمتتبع للسيرة النبوية يقف على أن مدرسة النبوة شملت جميع  شروط  المواطنة، وحتى قبل النبيّ محمد ، ولنا في قصص الأنبياء خير مثال، النبي ابراهيم، والنبي يوسف عليه السلام والنبي عيسى علي السلام ثم خاتم الأنبياء وكيف كانوا متسامحين متعاطفين  متواضعين مع الناس، متواطنين معهم،  والرسول (صلعم) كان يمارس هذا المفهوم في حياته وفي تعامله مع الآخر، والجميع يعلم مجاورة النبي (ص)لأحد اليهود الذي كان يؤذي النبي ويضع القمامة عند بابه والشوك في طريقه، وقد زاره النبيّ لما مرض وكان يحسن إليه، فهذا السلوك يدخل  في باب التسامح والمواطنة، لقد استطاعت مدرسة النبوة  أن تعطي المثل في التعايش مع الآخر، ألا يحق الإقتداء إذن بمعلم البشرية والسير على نهجه؟، ذلك بخلق مدرسة رائدة تمتلك أسباب النجاح تقوي عزيمة الفرد والجماعة وتدفعهم نحو التضحية  والتفاني لخدمة الأمة، حيث استطاعت مدرسة النبوة أن تبعث وترقي المواطنة الحقيقة لدى الفرد المتعلم، ليصبح عنصرا فاعلا ومبادرا ومتجاوبا مع تطلعات الأمة، وهو ما نشاهده الآن من مبادرات وقوافل لنجدة الناس وإنقاذهم من الهلاك، ولذا وجب اليوم أن تدمج "المواطنة" كمادة بيداغوجية في المقررات الدراسية وتلقينها للتلاميذ بدءًا من الطور المتوسط، ليس كثقافة بل كقاعدة أساسية وجب الإلتزام بها، شأنها شأن المواد التعليمية الأخرى، لما لها من دور إيجابي ينعكس على حياة الفرد اليومية.

 كما أن إدراج المواطنة كمادة تربوية من شأنها أن تساهم في القضاء على الظواهر الخلقية الفاسدة المنتشرة ( كالتدخين وتعاطي المخدرات  في الوسط المدرسي)، كونها تعمل على اكتمال مقاصد أي عمل علمي، وتبعث في النشء الإعتزاز بالهوية وترقى به إلى مرتبة أعلى، وتمنحه القدرة على فهم الحقوق والواجبات والتكيف والعطاء والمواجهة والإستمرارية والمسؤولية وهو يتفاعل مع الآخرين، فمن هنا يبدأ مشروع بناء المواطن الصالح، المواطن الذي يحترم الخصوصيات الفردية والجماعية ، وبالتالي فإنجاح هذا المشروع يحتاج إلى من يغذي في النشء العادات الفاضلة وصفات التعاون في المجتمع الإنساني، وهنا يدخل دور "المجتمع المدني" في مواجهة العقبات وخلق بيئة مناسبة، يكون فيها المواطن مواطنا صالحا يعرف واجباته فيؤديها من تلقاء نفسه، حاضرا ومستقبلا، لكن اين هي هذه المدرسة التي اسسها النبي وصحبه في زمن كثرت فيه الإرهاصات والتناقضات والصراعات.

لقد تسيّست  المدرسة ولم تعد فضاء للتربية والتعليم والتثقيف، حيث أقحم التلاميذ في الممارسات السياسية والدليل المسيرات الشعبية التي ينظمها الطلبة  والتلاميذ وهم يجهلون ما يحدث، يكفي ان توجه لهم أوامر وتعليمات فينفذونها بتلقائية ودون شعور بالمسؤولية، ووصل ببعض المعلمين والأساتذة بأن يُحرّضوا التلاميذ على الإضراب والخروج إلى الشارع والتوقف عن الدراسة مقابل تضخيم لهم العلامة وتحسين معدلهم السنوي في نهاية الموسم الدراسي، وهذه السلوكات أدت حتما إلى التراجع في المدّ التربوي والثقافي والحضاري لهذه الوحدة الإجتماعية، وساهم هذا الوضع كذلك في نشوء ظاهرة  أخلاقية تتمثل في "الدروس الخصوصية"، فأربكت البناء التربوي، وأصبح التلميذ مشتت الأفكار، لأن ما يتلقاه في المدرسة يعكس ما يتلقاه  في الدروس الخصوصية ، لأن المنهجية والطرائق تختلف من معلم لآخر، حيث لم يستقروا على اتباع مناهج وطرائق  تضمن لهم الفهم والوصول إلى الكفاية في التعليم، وفي يوم الإمتحان يكون فكر التلميذ مشوشا، وهذا بسبب الضغوطات التي ولدها الكم من المعلومات، ووضع كهذا يبين قصور دور المدرسة، وغياب الرقابة جعلت المعلم وكذلك التلميذ منفصلان عن الوحدة المجتمعية والإجتماعية التي ينتميان إليها.

 

علجية عيش

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم