صحيفة المثقف

خيبستا.. قصص خيبات الذات مع الآخر

مثنى كاظم صادق ما أن يقرأ المرء المجموعة القصصية (خيبستا)(1) للقاص المبدع حسين البعقوبي، حتى يغرق في تهويمات واختلاجات نفسية عميقة مستذكراً - القارئ - بعض خيبات ذاته في الآخر، ولا أعني هنا الآخر الشخص فحسب، وإنما المكان أو الزمان أو السلطة.. وهي البنية المضمونية لهذه المجموعة فهي مفتاح لتجسيدات خيبات الذات مع الآخر.. الخيبات المخادعة المواربة المنصهرة في الأزمنة والأمكنة والشخصيات.. بكل ما تلوثت به من أدران اجتماعية وسياسية تشكلت في المجاملات المتصنعة والأفعال المنافقة.. يفتتح القاص مجموعته بالنص الآتي: (الخيبة حين أرادت لها دوراً في المسرحية، استنكروا ورفضوها مراراً وتكراراً؛ لكنها حين ارتدت ثوباً بنفسجياً وأطلقت على نفسها اسم خيبستا، هللوا لها ومنحوها دور البطولة) ص 7 فالنص يرمز إلى رفض الناس للخيبة الواضحة في الحياة؛ لكنها عندما تأتي مرتدية لوناً بنفسجياً مخادعاً لمحتواها يرضون بها وهنا اللون البنفسجي قد يشير إلى رمزية الانتخابات التي خيبة آمالهم ولما تزل.. إذ إن اللون البنفسجي في دلالته الكبرى أيضاً يشير إلى الملوك والنبلاء وخصوصاً في مجتمعات أوروبا، وفي عصر ما، تمّ تأسيس قانون لهذا اللون الرمزي كان يسمى بالقوانين الكمالية يحظر فيه جميع الأفراد ما عدا المقربين من العائلة المالكة ارتداء اللون البنفسجي!! كما ارتبط هذا اللون بالخرافات والأساطير فهو يرمز إلى القداسة ويعد لون الآلهة أو الأشخاص المنحدرين من الآلهة. تشتمل معظم قصص المجموعة على ثنائيات ذاتية واضحة وقد أبدع القاص فيها في الولوج إلى عوالم الإنسان النفسية وما يفكر به وما تجول بخاطره من رؤى وأفكار تجاه نفسه واتجاه الآخر؛ لذا تجد ضمير القاص أو الرواي متجلياً ظاهراً في متون القصص، إن اليأس والإحباط تدفع بهذه القصص إلى سيرورة الحدث وتماهيه مع الذوات التي فيه ومنها بالتأكيد ذات الرواي عارضاً مرة ومفسراً مرة ومنشطراً بذاته مرات محاكياً لها، ففي قصة هولواجرام يعرض القاص ما حل بالبلاد من نشوب مخالب الغرباء فيه وتمكنهم منه فــ(الناس أصيبوا بالخيبة وبنوع غريب من الجنون وتطرف بعض منهم فادعى بأن المعاناة اليومية التي يعيشها المواطن، هي السبب الرئيس في مشاعره الملتبسة هذه)ص 10 وظن الناس أن نجاتهم وخلاصهم من خيبة الخطف والقتل هو اتباع هذا أو ذاك (ثم ظهر لأول مرة واحد من تلك الكائنات، وقال إن الموعد يقترب، وأن عليهم أن يتبعوه ليضمنوا الخلاص.. ثم ظهر آخر ليكذب الأول، وقال بأنه هو الأحق بأن يتبع.. ثم جاء اليوم الذي اختفى فيه الناس جميعاً) ص 13 يجسد القاص الذوات الضائعة الحزينة في تلافيف الحياة وسط أتون الحرب الطائفية المقيتة التي أكلت صديقه أو أصدقائه كما في قصة ثلاثة قتلى (وبعناء شديد استطاع أن يرفع يده ليشير بسبابته إلى يميني حيث النافذة تابعت خط الإشارة، فانتقل الرعب إلي، فتى كث الشعر غريب الهندام توقف على بعد أمتار من سيارتنا وراح ينظر إلينا وهو يضع يده اليمنى داخل قميصه القطني الرمادي المتسخ في تلك اللحظة توقف الزمن بالنسبة إلي وبزرت في مخيلتي لحظة اغتيال زميلنا على أيدي أناس من أشباه هذا الفتى.. ثمة فوهة معدنية ستطل علي من تحت القميص لتحيل إلى هذا الجبل إلى كومة رماد) ص 21 تجسيد مشهدي مؤثر يجسد الفجيعة ولحظة استلاب حياة الآخر الذي يعاني من تهويمات مؤلمة. إن اليأس والإحباط يجعل الإنسان مغترباً عن واقعه ومجتمعه بل ربما يصل إلى القطيعة المعرفية بين وبين المجتمع ضمن مخزونيات خيباته المتكررة في حياته التي تنثال على وجدانه وذاته التي قد تنشطر إلى ذاتين أو عدة ذوات في الوقت نفسه، كما في قصة آلهة قديمة، مخاطباً الرجل الذي دخل عليه (كأنك تتحدث عني أو عن أشخاص آخرين تعرضوا لظروف مشابهة لكنك نسيت أن تذكر أنه تعرض لفترتين من الكبت الأولى كانت في زمن الدكتاتورية.. أما الثانية فهي التي تحدثت عنها أنت)ص 38 إن كبت الإنسان للهموم والمعاناة يجعل منه مغترباً في ذاته وواقعه وربما يصل إلى مرحلة الهلوسة أو الجنون حتى وربما يتراءى له تهيؤات في بعض الأحيان ومحاكاة لأشخاص مفترضين؛ لكي يعالج أموراً شديدة القتامة من خلالهم في لقطات مشهدية سردية ترصد السلبيات والتناقضات التي تمور في ذاته الخائبة (وبدأت أصرخ بوجهه وأطالبه وأطالبه بمغادرة المكان؛ فقال: جئتك كي تستعيدني لا لتطردني . في تلك اللحظة دخل المكتبة أحد الأصدقاء.. قال: ما هذا الصراخ؟ قلت: هل يرضيك ما فعله؟ قال: من؟! نظرت إلى حيث كان يقف قريبي فلم أجده . قلت لصديقي: ربما خرج حين رآك تدخل . قال: لم يخرج أحد من عندك . ولم صادفني أحد في الطريق) ص 42 وهكذا تميل بعض قصص المجموعة إلى ميدان علم النفس من أجل تعرية الذات وإدانة الواقع وفضح الشر البشري وهذا من مميزات القاص المبدع ولاسيما عندما يكون هذا القاص لصيقاً بالمجتمع يجيد حفرياته فالقاص يمسك جيداً بحفارة الوعي التي تجوف الآخر والإفادة من علاقة الحيز الذاتي له الذي يتحرك بحركة تقابلية مع الواقع ضمن علاقات إنسانية متشابكة لكنه يلتقطها ويفرزها ويحللها سردياً فهو يؤرخ لذاكرة المكان وذاكرة الذات ويجعل منهما متناً يحيل إلى هامش التشكل؛ فالقاص المبدع حسين البعقوبي يجيد اختيار الحدث أو الموقف ويعيد تشكيله ببراعة ويحيله إلى لقطات قصصية تنقل بشكل مفصل المشاعر والأحاسيس ضمن تقانة الصور المشهدية التي تتماهى مع ذاته في هذه المجموعة، كما في قصة الأرملة السوداء مثلاً (هذا اليوم ونحن نهبط السلم سبقتني متهادية بثوبها الأسود الضيق الذي أبرز تفاصيل جسدها، فزادها جمالاً . فجأة وقبل أن تهبط الدرجة الأخيرة أدارت رأسها بسرعة فضبطتني وأنا أنظر إليها مأخوذاً فضحكت بغنج ودلال وعيناها كأنما تقول: ها أنت وقعت) ص 94 في هذا النص وسواه نلمس الصدق الفني في نقل المشاعر والأحاسيس فالمجموعة القصصية توظف الأنثى بوابة للأمل بوصفها سكناً للذات المضطربة وميناءً للبوح وكشف الخاطر للوصول إلى لحظة التجلي الوجداني. جملة البداية لكل قصة في المجموعة جاءت متقنة جاذبة للمتلقي؛ لأنها تشي بإعادة صياغة شيء ما وتمثله من جديد يربط بها، ولعل جملة البداية أو جملة الاستهلال ليست من السهولة المتصورة؛ من حيث التنفيذ؛ لأنها الطريق إلى النص أو هي الرحم الذي سيلد النص؛ أقول جملة البداية في هذه المجموعة جاءت على ثلاثة أنواع الأول ثمة حدث غير مألوف سيأتي بشكل مفاجئ والثاني: التحضير لخلق البطل في القصة والثالث صورة مشهدية لتفصيلة حياتية وهذه الأنواع الثلاثة تمد عروقها المتدفقة إلى بقية أجزاء القصة وأما من الناحية اللغوية فجاءت جملة بداية القصص من السرد الذاتي بمعنى اعتماد ضمير المتكلم بجمل فعلية ذات دلالة ديناميكية متحركة (كنت أقرأ عن آلهة الإغريق وأنا جالس خلف مكتب متواضع تحوطني رفوف الكتب..) ص 31 (بادرني لحظة أن دخل مكتبي وهو يحمل..) 49 (إلتقيته في السوق على غير موعد، مد يده مصافحاً واحتفظ بيده اليسرى مخبأة..) 59 في قصص آلهة قديمة و أحزان الضفادع وقمر بيوت الطين على الترتيب وجمل جاءت بصيغة لغوية إسمية دلت على الثبات والاستقرار لأنها تريد أن تصف مشهداً صورياً ثابتاً سيحقنه القاص في ما بعد بالأحداث(في شوارع مدينتي وأزقتها..) ص 9 (على الرصيف الأيمن من الشارع ذي الممرين..) ص 22 (أول قاء حدث بيننا كان عندما انتهى العرض..) ص 70 كما في قصص هولوا جرام و بووم وكيس اللكم على الترتيب وتجمع كل هذا الجمل التي تمتد إلى نهاية القصة المهمشين والضحايا ضمن كناية كبرى للمجموعة وهي تشكل أو استقواء الخيبات ضمن سردية ذاتية توحد الراوي والبطل معاً في زمن محدد يتم إيقافه عند لحظة مفصلية معينة والقيام بتعميق هذه اللحظة وولادتها بشكل مغاير.

 

د. مثنى كاظم صادق

..........

(1) خيبستا / قصص / حسين البعقوبي منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق ط1 عام 2018م. 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم