صحيفة المثقف

تفكيرٌ في الدّين (8)

مجدي ابراهيمخصّص المستشرق البريطاني "رينولد ألن نيكولسون" (Reynold Alleyne Nicholson) في كتابه عن الأدب العربي، فصلاً ممتازاً عن "محمد والقرآن" جاء فيه : أنه لم يكد محمد يظهر حتى زالت الغشاوة الكثيفة. ورفع ذلك السّتار السميك عن ذلك العصر الذي تقدّمه، ثم نجد أنفسنا قد وقفنا فجأة عند حقائق وتقاليد تاريخية صحيحة وثابتة.

ولكي نفهم أسباب ذلك التغيير المفاجئ، لا بد من ذكر المصادر الرئيسة التي نستمد منها ما نأخذه من معلومات عن حياة النبي وتعاليمه : فالقرآن هو لا شك أول المصادر، وهو السجل الإنساني الكامل البنيان، والبيان الذي نقف منه على جميع أطوار شخصية محمد، وعن مختلف العلاقات بينه في حياته الخاصّة وبين الحياة العامة. ويتابع نيكولسون وصفه للقرآن كونه الأساس الصالح بإطلاق لكل ما يمكن أن يكون مرآه تنعكس عليها شخصية النبي صلوات الله عليه وعلاقاته مع كل من يحيط به ليقول : وهكذا؛ نجد بين أيدينا هذا الكتاب (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)؛ وإنّه لكتابٌ عزيزٌ : أي فريد في بابه، نستخرج منه الأصول والتطورات التي مرَّ بها الإسلام في أول عهده. وإنها لميزة لهذا الدِّين لا نجدها لغيره من الأديان الأخرى؛ كالبوذية والمسيحية واليهودية وغيرها" (أ. هـ).

غير أنه في موضع آخر ادّعى أن القرآن صنع فجوة بين الإنسان والله المتسامي، وأن الأولياء الكمَّل وحدهم بإمكانهم عبور هذه "الفجوة" التي صنعها القرآن كيما يتوحّدوا مع الله  ( P.78 .studies in Islamic mysticism). ولكن اللافت للنظر حقاً هو غرابة هذه الدعوى التي يدَّعيها نيكولسون وغرابة المقصود بها، وهى غرابة توضّح قلة حظ المستشرقين من فهم مقاصد النصوص القرآنية في أغوارها البعيدة.

فلئن كان المقصود بتلك "الفجوة" أن القرآن عائق للإنسان عن الاتصال الروحي بحيث يكون العيب في النص الديني نفسه، فهو قصد مُوَجّه نحو تشويه النصوص الدينية في الأساس وقلة الإحاطة بمقاصدها ومراميها، إلا أننا نفترض في نيكولسون حُسن النية؛ ليجيء المقصود من تلك الفجوة هو أن يكون القرآن قابلاً لتوجه الإنسان الروحي وإثارة كوامنه الباطنة في بلوغ قمة التواصل الروحي؛ وإذْ ذَاَكَ يكون العيب في الإنسان نفسه الذي عطل وسائل تواصله، وعطل معها قواه الباطنة لا في النص القرآني : قانون الأمة الذي تهتدي بهداه، وتخاطب بواطنه وخوافيه كما تخاطب ظواهره وبواديه.

ولا يعقل أن يصنع النص القرآني تلك الفجوة وهو قادر على مخاطبة كل ما في الإنسان من تواجد الملكات : حضورها وتنميتها واتساعها.

وفي التعطيل تكمن كل آفات الغفلة التي هى ضد مطالب الحضور. وهكذا؛ نلاحظ كما يكون القرآن مطلب حضور بالنسبة (للقارئ، التالي، الذاكر) لا يتسنى الإقبال عليه من غير توافر هذا المطلب، يكون كذلك مطلب علم للذين يدرسون الإسلام، ويعرفون من خلاله الأصول والتطورات التي مَرّ بها هذا الدين.

فلا يكاد يعرف العارفون شيئاً عن الإسلام بغير الرجوع إلى القرآن؛ ليتخذونه مصدراً من مصادر المعرفة سواء عن شخصية نبي الإسلام، صلوات الله وسلامه عليه، أو عن ظروف نشأته الأوليّة وتطوراته الروحيّة والخُلقية على وجه الإجمال. وممّا ذكره المستشرق الفرنسي "إميل ديرمانجيم"؛ وهو الذي أخذ عنه الدكتور محمد حسين هيكل كتاب "حياة محمد"، أنه لاحظ أن التسرع في الأحكام قد حال زمناً طويلاً دون دراسة علمية حَقة لأصول الإسلام؛ وهو يقصد بذلك آراء بعض المستشرقين الذين لم ينصفوا الدين الإسلامي. ولم يكن لهم نزاهة البحث وأمانته إزاء الحديث عن نبي الإسلام؛ ففي القرون التي اشتعلت فيها الحرب بين الإسلام والمسيحية اشتد النفور بين الفريقين، وأساء كل واحد منهما فهم الآخر، ولكن يجب الاعتراف - هكذا يقول "إميل ديرمانجيم" ممّا نقله عنه الدكتور محمد غلاب - بأن إساءة الفهم كانت من جانب الغربيين أكثر ممّا كانت من جانب الشرقيين. وفي الواقع أنه على أثر تلك المعارك العقلية العنيفة التي أرهق فيها الجدليون البيزنطيون الإسلام بمساوئ واحتقارات، دون أن يتعبوا أنفسهم في دراسته، هَبَّ الكتاب والشعراء المرتزقة من الغربيين، وأخذوا يهاجمون العرب، فلم تكن مهاجمتهم إيّاهم إلا تهماً باطلة، بل ومتناقضة.

ويؤكد "البارون كارا دي فو" في كتابه "المحمديّة" هذا الذي ذهب إليه "ديرمانجيم" قائلاً :" إنّ محمداً ظل وقتاً طويلاً معروفاً في الغرب معرفة سيئة، فلم توجد خرافة ولا فظاظة إلا نسبوها إليه". وإن "ديرمانجيم" ليذكر منصفاً كثيراً من جوانب شخصية محمد - صلوات الله وسلامه عليه - كونه حكيماً وإنساناً ونبياً.

غير أنه يقول عن القرآن :" إنّ كل نبيّ يجب أن يأتي ببرهان من طبيعة خاصّة يكون آية على صدق رسالته. وهذا البرهان يسمى بالمعجزة، وهو يختلف عما يأتي به الأولياء ويسمى كرامة ... والقرآن معجزة محمد ... فإنّ جماله الأدبي الفائق وقوته النورانية، لا يزالان إلى اليوم لغزاً لم يحل، وهما يضعان من يتلوه - ولو كان أقلّ الناس تقوى - في حالة خاصّة من الحماسة. وقد تحدى محمد الأناسي والجن أن يأتوا بمثله. وهذا هو برهان رسالته بالمعنى الكامل. ولم يكن الأمر في القرآن يتعلق بقيمة أدبية استثنائية، فإن محمداً كان يحتقر الشعراء ودفع عن نفسه أن يكون واحداً منهم ... ولكن الأمر يتعلق بشيء آخر غير هذه القيمة وهو الفرق بين وحي الإله وإلهام الشيطان" (هذا هو الإسلام : ص 84  وص 92).

ويظهر - كما نلاحظ بمقدار لا حظنا في السابق تلك "الفجوة" التي أحدثها القرآن في رأي نيكولسون - من طريقة عرض هذا المستشرق لفكرته عن القرآن : أنه يكتب للغربيين، لم يستطع أن ينفذ إلى أغوار المعنى في آيات الذكر الحكيم؛ لأن هذه الآيات نفسها لم تنفذ إلى أغواره الباطنة كما لم تكن تنفذ في أغوار نيكولسون الباطنة، وإنما كما يبدو من كتابة "ديرمانجيم" يأخذها مأخذ الظاهر العابر الذي يدرس القرآن دراسة نظرية لم يتحقق فيها بشيء على مستوى المباشرة، أعنى المستوى العملي التطبيقي، وهو عندنا الشرط الذي إذا غَاب أو فُقد لم يجعل من الحضور مادته الأولى. ومعلومُ ببداهة النظر إلى القرآن الكريم أنه قد جعل العقل حَكَمَاً منذ البداية، وجعل البرهان أساس العلم، وعاب التقليد وذم المقلدين، وأنَّبَ من يتبع الظن وقال : "إنّ الظن لا يُغني من الحق شيئاً".

وعَابَ تقديس ما عليه الآباء، وفرض الدعوة بالحكمة لمن يفقهها، وأخذ بالموازنة والترتيب واستخلاص النتائج بالاستنباط القائم على المقدمات العلمية. ولم تكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم القاهرة إلا في القرآن, وهى معجزة عقلية. وما أبدع قول البوصيري حيث قال : 

لم يَمْتَحِنا بما تعيا العقولُ به

                        حِرصَاً علينا، فلم نَرْتَبْ ولم نَهِم

أمّا كون القرآن معجزة عقلية؛ فلأن طريقة القرآن هى نفسها طريقة علماء السلف المسلمين. وما أنصف المقدمة النقدية التي كتبها الأستاذ الأكبر محمد مصطفي المراغي في 15 فبراير سنة 1935م على كتاب "حياة محمد" للدكتور هيكل، وما أكثرها حيطة؛ فقد جاء فيها : أن أوّلُّ واجب على المكلف كما قرّر علماء السلف هو معرفة الله، ولا طريق إلى المعرفة إلا بالبرهان وإقامة الحجة. وهذا نفسه القانون العلمي في البحث معروف في القديم والحديث.

وقد جرى الإمام الغزالي على الطريقة نفسها، طريقة القرآن، إذْ قرّر في أحد كتبه أنه جَرّد نفسه من جميع الآراء ثم فكر وقدّر، ورتب ووازن، وقرّب وباعد، وعرض الأدلة وهذبها وحللها، ثم أهتدى بعد ذلك كله إلى أن الإسلام حق وإلى ما أهتدى إليه من الآراء، وقد فعل هذا ليجافي التقليد؛ وليكون إيمانه إيمان المستيقن المعتمد على الدليل والبرهان، ذلك الإيمان الذي لا يختلف المسلمون في صحته ونجاة صاحبه (حياة محمد، دار المعارف، القاهرة د/ ت، ص 13-14).

ومن وجهة النظر العقلية البحتة، وهى التي تجعل من القرآن معجزة عقلية : لم يكن في الإسلام ما في الدين - من حيث هو دين - من خصوصيات الأسرار في جميع الثقافات؛ فإنّ الحق الذي لا مريّة فيه - من وجهة النظر العقلية البحتة أيضاً - أن الإسلام؛ رسولاً وكتاباً؛ يتميز عن غيره من الديانات بخلوّه من ثقل "الأسرار" (Mysteres) التي تجعل المعرفة "بالدين" تقع خارج تناول العقل. إنّ المعرفة الدينية في هذه الحالة من اختصاص فئة قليلة من الناس هم وحدهم "العارفون" المتصلون بالحقيقة الدينية، وهم وحدهم رؤساء الدين ومرجعياته ورعاته، والبقيّة رعية ومقلدون. أمّا "الرئيس الأول" المؤسس للدين، فيوضع في مرتبة الألوهية والبشرية، وأحياناً يُرفع إلى مستوى الألوهية. وأمّا النصوص الدينية فتُعتَبر رموزاً مليئة بالأسرار لا يتولى تأوليها وفك ألغازها إلا "العالمون" بفك الرموز وتأويل الأحلام (يُراجَع : محمد عابد الجابري : مدخل إلى القرآن الكريم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2006م؛ ص 429). ربما كان هذا من "خصوصيات الدّين" في جميع الثقافات. ومن المؤكد أن الإسلام قد عرف تيارات تلتقي بصورة أو بأخرى مع هذا النوع من التصور للدّين، تيارات تنتمي إلى الموروث الديني الحضاري الذي كان يقع خارج الدعوة المحمديّة كما اكتملت عناصرها وتحدّدت آفاقها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. فالدعوة المحمدية نفسها، نبيّاً وقرآناً، لم تعرف أسراراً من هذا النوع، تغذي هذا الوجدان الصوفي بمثل ما يتشابه مع المسيحية، إذْ لم يوجد فيها بوصفها "دعوة" ما يدعو إلى اعتبار العقل قاصراً عن معرفة أي شأن من شؤون الدين الذي تدعو إليه. بل بالعكس، لقد كانت حياة الرسول وتعاليم الكتاب الكريم (القرآن)، موضوعاً مفتوحاً لإعمال العقل. كانت تجربة الوحي مرفوقة بمعاناة نفسية واجتماعية معروفة في عصره، هى نفسها تلك التي اتهمه بها خصوم الدعوة المحمدية منذُ ابتداء أمرها. (راجع : مدخل إلى القرآن الكريم : ص430). فكل هذا؛ يؤكد أن القرآن كما كان على القصد مطلب حضور، كان كذلك مطلب علم وبحث ونظر وتعليل. فلئن كان هذا المُدخل يؤكد ما في القرآن، فإن مناقشتنا له - مع خلاف الرأي والرؤية ـ ليست بأقل تأكيداً أيضاً على ما في القرآن الكريم.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم