صحيفة المثقف

قول في: نجاسة الكفار والمشركين

نستهل الكلام بقوله تعالى: [.. إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وإن خفتم عيلة يُغنيكم الله من فضله ..] - التوبة 28، ونقول: أن ما يقوله فقهاء المسلمين حول - نجاسة الكفار والمشركين - لا معنى له ولا دليل عليه، بل هو قول واهن ضعيف وغير صحيح، وهذا ما يدل عليه الكتاب المجيد وصريح العقل وصحيح النقل .

 والفرق كبير بين لفظ - نجس - الوارد في الكتاب المجيد ومعنى - نجس - عند الفقهاء، ويعتمد الفقهاء في أقوالهم وفتاويهم في هذا الشأن على مجموعة أخبار وروايات مبتورة السند ساقطة الدلالة، ولا تصمد أمام النقد والبرهان والتحليل، ولتداخل اللفظ بالمعنى الدارج كان لا بد لنا من وقفة تحليلية موضوعية من أجل البيان والتوضيح، وذلك لأهمية الأمر وحساسيته، ونقول:

أولاً: يجب رد دعوا الإجماع والاتفاق في ذلك، والتي يقول بها بعض الفقهاء، وكذا رد دعوا أهل التقليد من الفقهاء والمتكلمين .

وثانياً: التأكيد على ان (الأصل في الأشياء الطهارة)، ومن ذلك طهارة بني آدم القطعية .

وثالثاً: التأكيد على أن (النجاسة هي عرض زائل) .

 وهذا القول يسري حكما على جميع الناس مؤمنين كانوا أم كفاراً ومشركين وغيرهم، ذلك: [ان دعوى الإجماع في هذا الشأن ليست دليلاً مستقلاً بحد ذاته، حتى يمكننا الاعتماد عليها في تقرير هذا الأمر وغيره]، والتقليد في هذا الأمر من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم، غير جائز قطعاً، والأحوط تركه مطلقاً، (لأن التقليد من حيث هو تحجير للعقل وإلغاء للاجتهاد ومعناه)، ودائماً يكون على نحو المطلقة السالبة التي نبذها الله في قوله: (هذا ما وجدنا عليه أباءنا ..) – لقمان 21، وكذلك قوله تعالى: (.. بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا ..) - البقرة 17، والقول الصحيح: (إن فساد التقليد على نحو عام)، يكون باعتبار: (التقليد قائم في الأصل قائما على خبر ساقط سنداً ودلالة)، قال العلامة الحلي وكذا السيد الخوئي (والخبر جاءنا برواية سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير) - التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري ..

والصحيح - ان الأصل في الأشياء الطهارة - حكماً ومنه (طهارة الآدمين جميعاً) ولا استثناء في ذلك ولا تخصيص ولا تقييد، والشيء نفسه يُقال عن النجاسة بعنوانها العام: (وفي كونها عرض زائل، تزول بزوال سببها)، وهذا ما عليه عامة الفقهاء والأصوليين، وأما: [ما ذهب إليه بعض الإمامية في هذا الشأن فليس عندنا بشيء]، وعدم صحة دعوى الإجماع في ذلك فلأنها

أولاً: مخالفتها لظاهر الكتاب وعمومه، كما في قوله تعالى - (ولقد كرمنا بني آدم) - الإسراء 70، والتكريم صفة إطلاق وعموم، ومنها رفعة المقام والقدر، ولا يصح التكريم مع النجاسة، وكقوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) - البقرة 30، ولا تصح الخلافة مع نجاسة المستخلف مطلقاً .

وثانياً: معارضتها للأخبار الصحيحة المروية عن النبي الأكرم، ومنها قوله: (.. كلكم لأدم وأدم من تراب ...) .

وثالثاً: ضعف ما يستند عليه الإجماع في الأصل .

 وأما حكم المسألة لدى - أئمة المذاهب الأربعة - وفقهائهم فالمشهور عندهم القول: بطهارة أبدان الكفار والمشركين مطلقاً -، وأما نجاستهم فهي عرض زائل، أي إن النجاسة لا تسري للذوات من الأبدان .

وإن قلتم: وإنما المُراد من - نجاسة الكفار والمشركين - فلاعتقاداتهم الباطلة وأفعالهم المحرمة .

قلنا: إن هذا القول في أصله باطل، لأنه يفتقد للدليل المحكم الذي يعضده، والقول المظنون ليس حكما وهو لا يغني من الحق شيئا، والاعتقاد من حيث هو (عمل فكري مباح)، ولا ضير في مخالفته للمشهور في ذلك، قال تعالى: (لا إكراه في الدين) – البقرة 256، وقال كذلك: (أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) - يونس 99، وأما نسبة النجاسة فلما يقومون به من فعل محرم، وهذه كذلك نسبة باطلة: لأن طبيعة النجاسة وماهيتها كما قلنا (هي عرض زائل مفارق)، وزوالها مرتبط بزوال سببها -،: وليس من خواص النجاسة الالتصاق وعدم المفارقة بالأبدان أو الذوات، قال تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات ..) - هود 114، وعلى ذلك إتفاق العقلاء وسيرتهم .

 طبيعة الفقه الإسلامي:

يُناكف البعض فيدَعي: (ان الفقه الإسلامي - جامع مانع وغني بأحكامه وموضوعاته -) !!!!!!، وهذه الدعوى ليست صحيحة من وجوه، بل ولا تصح في المطلق على الفقه القديم والفقه الجديد والمعاصر كذلك، لأن الفقه المتداول في حقيقته ليس سوى إجترارا وتكرارا لمن سبق، وما يُقال عن الإجتهادات الفقهية والتفريعات فهي ليست سوى إعادة إنتاج لما هو قائما بالفعل في كتب التاريخ والتراث .

وأما طريقة الإستنباط فلم تتحرر منذ عهد الشافعي وإلى يومنا هذا، لا في طريقيتها ولا في كيفيتها ولا فيما تقوم عليه أو تؤسس، وأصول الإستنباط كذلك هي ذاتها التي قررها الشافعي في رسالته المشهورة من غير تغيير أو تبديل، ولم نسمع أو نقرأ عن محاولات جادة في تطوير طرق الإستنباط أو إعادة النظر في اصولها ومتبنياتها، ونصطدم دائماً في هذا المقام بذلك التطرف البشع من البعض، وبتلك المزاعم من البعض الأخر .

فيما يخص مفهوم الأخبار المنسوبة إلى الرسول محمد - ص - وطبيعتها وحجيتها ودلالتها، والتي غالا البعض فيها فنزلها منزلة نصوص الكتاب أو أعلى رتبة منها، بل وجاوز البعض الحد منهم فقال:- هي ناسخة لكتاب الله واحكامه -، مع إن هذه الأخبار في أحسن الأحوال لا تفيد سوى الظن في اغلبها، والمعلوم إنها قد كُتبت بظروف غامضة ونوايا نجهلها .

ولذلك فلا يعتد بها ولا يجوز إعتبارها صنو الكتاب، ومن هنا فنحن ندعوا لإعادة النظر في أصول الإجتهاد والإستنباط وطرقهما وموضوعاتهما وقواعدهما، والذي نفهمه عن الإجتهاد السائد إنه إجتهاد تنقصه الكفاءة والقدرة على تلبية حاجات الناس المعاصرين، ونعلم كذلك أنه لا يستطيع الإجابة عن الكثير من المسائل ذات الصلة، وهذا المعنى بالذات دفع الإمام الخميني للقول: بإن عامة علماء الدين والروحانيين منهم لا يدركون معنى الإجتهاد، ولذلك جعلوه مقتصراً على شؤونات الحيض والنفاس، مع إنه في حقيقته أعمق وأهم من هذا بكثير، إنه ذلك الفكر أو التفكير العلمي الذي يستجيب لتطلعات المجتمع في الحاضر والمستقبل، ولأهمية ذلك يتطلب تنبيه العلماء لبذل الجهد ومضاعفته، وأعمال النظر في المسائل الحيوية التي تهم إدارة المجتمع والمشاركة الجادة في تقديم الحلول لذلك .. - صحيفة النور ج21 ص 100 .

 ولكن هل الفقه الإسلامي غني بالفعل ؟ كما تقول المقدمة !!، أم إن غناه في اصوله وقواعده الموجودة في الكتاب المجيد ؟، وهذا الإستدراك في السؤال يقودنا للقول التالي أن: الغنى المقصود إنما هو ذلك الموجود في نصوص الكتاب المجيد، والنصوص هي التي تؤسس لتلك القواعد والأصول، واما الفروع والتفريعات من الفقهاء فقد غاب عنها المنهج الصحيح، وغابت عنها الأداة الواقعية أعني (العقل المؤمن بالتطور السنني الطبيعي الغالب في الحياة والكون)، وتغييب العقل إخراج متعمد للقدرة الذاتية في الكشف الدقيق عن الأحكام ومناسبتها للموضوعات بحسب الزمان والمكان، وكذلك في قدرته على المشاركة في التخطئة والتصويب لكثير من المسائل والموضوعات والأحكام العامة - .

 يقودنا هذا للتعرف على السبب الحقيقي في تخلف الفقه الإسلامي عن مجاراة الحياة وتطورها !!، وقد قيل: إن السر يكمن في عدم إهتمام الفقهاء بكتاب الله واحكامه في الإستنباط أو في الإجتهاد، وبدلاً عنه يتمسكون في تحليل الأخبار والروايات وتحليل وعرض أقوال من سبقهم من الفقهاء، وفي تلك الدورة يفتون ويحكمون ومن هنا تبدو المخاطرة التي نوهنا إليها في أكثر من مناسبة .

 ولا يخفى أن عجز الفقه عن التطور في الحياة واضح بيَّن، وشاهدنا على ذلك ما نحن فيه أعني قولهم القديم الجديد - [نجاسة الكفار والمشركين] -، تلك المقولة التي أثرت على الضمير والوجدان الإنساني وحالت دون التعامل احسن بين الناس، ومعلوم أن تلك المقولة إنما قامت وتأسست على أخبار وظنون ونوايا غير صالحة، ومع ذلك أدعَّوا عليها الإتفاق والإجماع !! مع إن إجماعهم على ذلك في أصله باطل، وسبب بطلانه ضعف مستنده الذي يتكئون عليه هذا من جهة، ومن جهة أخرى وجود المانع له من الكتاب والعقل .

 وأما ما يُحكى عن تواتر الأخبار في هذا الشأن فهو ليس صحيحاً سنداً ودلالة، وقد مر بنا تكريم الكتاب المجيد لبني آدم على نحو مطلق ومن غير تمييز، حين قال: (ولقد كرمنا بني آدم) - الإسراء 70، وفي قوله كذلك: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات 13، وظاهر الكلام في الحجرات عن مطلق خلق الناس (الذكر والأنثى)، وما يعزز ذلك الظاهر هو القيمة المضافة التي تكون في اللقاء والتعارف والتجاوب وعدم الخلاف فيما لا ينفع الناس ..

ولكن ما معنى الكفار ؟

الكفار جمع كافر، وأصل اللفظ من - كفر - بمعنى رفض، والكافر هو الرافض وجمعها الرافضين أو الرافضون، وقد أخطأت المعاجم حينما اعتبرت معنى الكفر هو الستر أو الإخفاء والتغطية، وقد أخطأ أهل الإصطلاح في معنى الكفر بقولهم إنه الإنكار أو الجحود، والصحيح ما ذهبنا إليه إذ الأصل في اللفظ يكون من اللفظ الثلاثي الصحيح - كفر - والذي هو بمعنى رفض -، وليس بمعنى أخفى أو أنكر أو جحد، إذ الرفض في لغة العرب أكمل وأعم دلالة من مقولات أهل المعاجم، والكفر مصدرا مادة تدل على - الرفض - كذلك، أي الرفض الفكري والعقلي، ذلك بإعتبار كونها مادة نظرية بحتة، ولهذا جاءت في سياق الكلام، قل: (لا أعبد ما تعبدون)، ويكون التذييل اللاحق بصيغة تأكيد الأمر، في قوله: (لكم دينكم ولي دين)، والخطاب في مجمله يتحدث عن الكفار لا عن المشركين، ومعلوم ذلك الفرق بين الكفر والشرك والذي لا يخفى على أهله .

أقول: ولما كانت مادة الكفر تعني الرفض، إذن فيصح القول: إني أكفر بدين بوذا -، وأنا أعني به: (إني أرفض دين بوذا) على نحو ما تكون عليه طريقته بالتفكير وبطريقة الإيمان التي يتبعها، إذن فقيد الرفض هو للطريقية والكيفية وليس لطبيعة الوجود والعدم، ونفس الشيء يُقال: إني أكفر بمذهب إبي حنيفة - مثلاً، ولا يريد القائل معنى الرفض الوجودي على نحو (الإنكار)، بل يُريد القول من ذلك: (رفض طريقة ابي حنيفة في الإجتهاد وتحرير المسائل)، والكلام في مجمله هنا فكري ونظري محض ولا دخل له بالجانب العملي، ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن – الرافضة -: وهو الصفة المشبهة المرافقة للجماعة التي: (رفضت الطريقة والبيعة التي تولى بها أبي بكر وعمر الخلافة)، وليس هي بمعنى إنكار خلافة أبي بكر بالفعل (فلإنكار شيء والرفض شيئا أخر)، ولا دخل لجدلية (الوجود والعدم) في هذا المقام، وسواء قلنا إن - الرافضة - هي أسم صفة أو صفة مشبهة فالمتبادر للذهن من اللفظ يعني: تلك الجماعة التي كفرت بخلافة ابي بكر -، أي رفضتها ولم تنكروها كواقع موضوعي وتاريخي، وهذه غير هذه كما هو واضح، والأمر كله يتعلق بمعنى الرفض، والفرق بينه وبين الإنكار والجحود .

 وأما ما ذهب إليه أهل اللغة وما تعارف عليه أهل الشرع في ذلك فليس صحيحاً، بدلالة معنى الكفر الوارد في لسان نصوص الكتاب والتي حصرته بالرفض دون سواه .

قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ) – البقرة 89 .

وقال تعالى: (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً) - الإسراء:99

هذه النصوص وغيرها كثير تدفعنا:

أولاً: لطرد الفكرة المتداولة والسيئة في أدب المسلمين وفقههم، والتي تمزج بين المعاني والألفاظ تبعاً لمقولة الترادف .

 وثانياً: تدفعنا للتمييز بين لفظ - نجس - ولفظ - كافر -، فلكل منهما معناً مغايرا للآخر، وقد بينا معنى - كفر – في اللغة والإصطلاح .

 .. .

ولكن ما معنى كلمة – نجس - ؟:

حان الآن للتعرف على معنى كلمة - نجس - في اللغة والإصطلاح، ونقول: هي لفظ متشابه، فإذا جاء في صيغته المُنكرة دل على مطلق عنوان النجاسة، والتي هي ضد الطهارة، وجمعها أنجاس، وقد خالف في ذلك الفراء فقال: (والنجس لا يجمع ولا يؤنث)، وقد أختُلف في معناه الإصطلاحي بين الفقهاء إلى أقوال منها:

أولاً: إنه لفظ دال على معنى العين النجسة أو الذات النجسة، ومثلوا على ذلك بالمشرك، فقالوا: هو عين نجسة أو ذات نجسة .

وثانياً: انه لفظ دال على ما يتعلق به أو بسببه فيكون نجساً لذلك، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير .

وثالثاً: انه لفظ دال على لزوم ومداومة الفعل النجس وعدم التطهير منه .

ورابعاً: انه لفظ دال على ما يعتقد به المرء، فيكون نجسا بسببه، وهذا من قبيل النجاسة المعنوية !! .

و قيل: انه لفظ دال على الفعل النجس وعدم التحرز منه .

واما بالنسبة للقول الأول:

فجهة الإستدلال به تقوم عندهم على أساس النص الذي بدأنا به الكلام أول مرة، قوله تعالى: (إنما المشركون نجس)، وفي توضيح ذلك قالوا: [إن عامة المشركين هم أعيان نجسة أو ذوات نجسة] !، وهذا التوضيح تنقصه الدقة الوثائقية والدليل وشاهد الإثبات، وبحدود علمنا لم نجد ما يوثق هذا القول أو يؤكد عليه ويدل .

وإذا كان ذلك كذلك: إذن فما هو الدليل عليه أو ماهي العلة التي أستند عليها الفقهاء في قولهم بالنجاسة الذاتية ؟ .

 فإن قلتم: إن الدليل عندهم هو النص المتقدم نفسه: (إنما المشركون نجس) .

قلنا: إن النص المتقدم لا يبين ذلك المعنى ولا يدل عليه إنما هو إشارة أو نعت لما فعله المشركين، وليس في ذلك دلالة تفيدنا بالقول: أن نجاستهم ذاتية أو عينية -، وقولهم على نحو مطلق لا يُفهم منه المتعين في هذا الشأن،: (لأنهم أعتمدوا في ذلك على التعريف الإصطلاحي)، وليس على النص الذي جاء قبل ذلك بكثير، وتحميل النص المعنى الإصطلاحي اللاحق مثلبة، وتحميل للنص ما لا يحتمل من المعاني .

والعين النجسة بتعريف الفقهاء: هي تلك التي يستحيل طهارتها ولو بمياه الأرض جميعاً -، ومعلوم أن اللسان العربي قد وسع دائرة (معنى النجاسة) وجعلها شيئا مطلقا، أي إنها عنده أعم وأشمل من الجانب المادي، بل جعلها - صفة متعدية - تشمل حتى القيم والأخلاق، وفي هذا السياق نفهم مقولة الحسن البصري عن ذلك الرجل الذي زنى بإمرأة، فقال عنه: (هو أنجسها – إذن - فهو أحق بها) – أساس البلاغة للزمخشري ص 447 .

ويدخل في هذا الباب كذلك - نجاسة الشيطان - والتي هي مفهوما ذهنياً تسالمياً، ويطلق على كل فعل يفعله الناس فيه مكر وخداع وتضليل ويريدونه يسمونه - عمل شيطاني نجس -، وعليه فلا يصح تخصيص وحصر معنى النجاسة بالذاتية كما هو مُراد المعنى الإصطلاحي .

 كما ولا يصح الربط بين معنى النجاسة هذا ومفهوم منع المشركين من زيارة البيت الحرام، لا بسبب ذلك أو لمجرد توارد سياق اللفظ مع قوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام)، فالذي نفهمه من سياق النص: إن المنع من دخول المسجد الحرام كان بسبب علة خاصة، وليس بسبب نجاستهم الذاتية، أي إن المنع كان بسبب ما فعلوه من نقض للعهود والمواثيق مع رسول الله (وهذه علة طارئة)، كذلك ولا يصح الربط بين مفهوم نجاسة المشركين ومفهوم الخوف من النقص المادي (العيّلة)، على إعتبار ان مبنى القول اللاحق وأداة الشرط الواردة في النص: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) وردا في سياق إتمام الحجة على المعترضين، بدليل أن النص إنما يتحدث بلسان حال ما يمكن قوله من قبل الأخرين، وليس في صحة قولهم .

والملفت أن كثيراً من المفسرين لا يفرقون ويخلطون بين (من كفروا من أهل الكتاب وبين المشركين)، مع ان الله قد ميز وفرق في كتابه ذلك، وبنصوص متعددة ومنها قوله تعالى: (ان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم) - البينة 6، ومنها قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من اهل الكتاب والمشركين منفكين) - البينة 1، والواو هنا للمغايرة قال الكسائي وللتمييز بين مختلفين، سواء في الطبيعة أو في الماهية أو في الإيمان والتفكير، وليس بين اللفظين وحدة معنى ومفهوم .

وأما بالنسبة للقول الثاني:

فجهة إستدلال القائلين به على نحو: (إنما المشركون نجس)، أي بسبب نجاسة ما يأكلون، وهذا الإستدلال ركيك جداً ولا يصمد أمام النقد والتمحيص، إذ لا علاقة بين نجاسة المأكول والآكل، فالنجاسة بهذه الحالة لا تنتقل بالتبعية من المأكول إلى الآكل، وفي وصفنا للنجاسة قلنا: ان من صفاتها عدم الملاصقة للمتنجس بها -، لأن النجاسة في أصلها عرض زائل تزول بزوال سببه، والامتناع عن الأكل النجس سبب كاف في زوال النجاسة .

 وإذا كان ذلك كذلك: فيصح إذن القول: (ان المشركين اذا تطهروا من النجاسة فلا مانع من حجهم وزيارتهم إلى البيت الحرام)، وهذا القول أو التقرير يكون بمثابة نفي المنع على نحو مطلق .

وأما بالنسبة للقول الثالث:

 فالاستدلال بالمنع من الحج بسبب الجنابة أو غيرها من النجاسات، إستدلال ركيك بل متهالك إذ الجنابة هي عرض زائل، والأعراض الزائلة لا يكون المرء بسببها نجساً، وكل العوارض من هذا القبيل تزول بالتطهير بالماء وغيره من المطهرات، ولهذا لا يكون وجود الجنابة سبباً كافياً في المنع من الحج والزيارة وعلى نحو مطلق .

واما بالنسبة للقول الرابع:

 فجهة الإستدلال بالنص لما يعتقد به الناس لذلك هم محكومون بقوله: (إنما المشركون نجس)، وهذا الإستدلال باطل كذلك، لأن الله أباح حرية الإعتقاد وجعل الإيمان مسألة شخصية تخضع لضوابط المعرفة والتدبر والعلم، ونفى المولى الإكراه والعنف والإبتزاز في ذلك وكما قلنا: إن مفهوم الإعتقاد أو الإيمان يرتبطان بالفكر وبالحرية، لأنهما من المسائل التي تخضع للإختيار عبر الدليل والبرهان، ولذلك ترك المولى شأنها للناس فقال: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) – الكهف 29 .

 والنص مورد البحث لم يربط مفهوم النجاسة بالإعتقاد مطلقاً، بل إعتبر من يكره الناس على الإيمان ليس مؤمناً قال تعالى: (أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) - يونس 99، معتبراً الإكراه هذا بمثابة - المطلقة السالبة الملازمة - .

إذن فالإستدلال بالنص من جهة الإعتقاد وإعتبار النجاسة من هذا الباب مانعة لهم من دخول المسجد الحرام، إستدلال باطل كما قلنا لا يمنع من دخول المسجد الحرام وزيارته .

وخلاصة الكلام:

في معنى قوله تعالى:: (إنما المشركون نجس)، ظهر لنا إن هذا القول لا يحمل معنا عاما، أي لا يجوز تعميمه على كل أفراد لفظ المشركين وعامتهم، كما ولا يجوز حصر معنى المشركين بالمعنى الإصطلاحي الفقهي، كما ولا يصح إعتبار النجاسة شيئا ذاتيا أو عينيا، ذلك لأن النجاسة في طبيعتها عرض زائل ولا تكون ذاتية مطلقاً .

 وأما المنع من دخول المشركين البيت الحرام فلم يكن منعاً مطلقاً، كذلك ولم يكن بسبب ما يعبدون من أصنام، ولهذا لا يجوز إعتبار المشركين نوعا واحدا أو فئة واحدة، إذ المشركين بلسان النص فئات متنوعة، وما عناهم النص المتقدم إنما هم، [فئة معينة خاصة من المشركين لا جميعهم]، وهذه الفئة: (هي تلك الجماعة التي نقضت عهدها مع رسول الله)، والتي وصفها الكتاب المجيد بقوله: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاَّ ولا ذمة) - التوبة 8 .

أقول: هذه الفئة من المشركين هي التي لا يصح دخولهم المسجد الحرام على نحو معين وبزمن معين، وصيغة الخطاب هذا تدل على ذلك، بدليل البيان التالي: (إلاَّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فاتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) - التوبة 4، ففي هذا البيان نجد أن نفي (تعميم المنع) واضح بيَّن، هذا بدليل التقابل الذي يؤكد على أن الفئة التي حفظت عهدها مع رسول الله غير مشمولة بالحكم، الذي صدر بحق تلك الفئة التي قال عنها الله - (إنما المشركون نجس)، ويؤكد هذا دعوته تعالى للإستقامة مع تلك الفئة التي حافظت على عهدها ولم تنقظه، قال: (فما أستقاموا لكم فاستقيموا لهم) - التوبة 7، وفعل أستقام يدل على الثبات في الموقف، ولهذا أمتدحه الله بصيغتي الفعل والصفة:

 قال تعالى: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) – هود 112 .

وقال تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا ..) - فصلت 30 .

 وقال تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم أستقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ..) - الأحقاف 13 .

إن تصحيح الفكر والإعتقاد عملية مهمة وشاقة، ولكي تكون مؤدية للغرض يجب ان تتكأ في ذلك على كتاب الله، وليس على ذائقة الفقهاء وتقليدهم لمن سبقهم، ولأن هذه المهمة كذلك تطلب الأمر رفضا لترجيح مقالات الفقهاء على نصوص الكتاب المجيد، لأن في ذلك مخالفة ومغامرة غير محمودة، والمشركون وفقا لمنطق الكتاب المجيد ليسوا واحدا، وكذلك هم في لسان العرب ليسوا سواء لا في المعنى ولا في الموقف، بل هم فئات متنوعة والحكم الصادر بحق البعض منهم لا يشمل البعض الأخر، ونسبة النجاسة للبعض منهم لا تصح على البعض الأخر طالما أرتبطت النجاسة بالسبب، والذي هو دائماً سببا مفارقا بكل تأكيد، لأنه سبب جدلي يصدق على كل ما يمكنه ان يكون كذلك .

تنبيه 1:

فإن قلتم: ماذا لو كان المُراد من نجاسة المشركين جميعهم ؟ .

قلنا: لو كان ذلك كذلك، لتطلب الأمر بطلان القول بحليَّة طعامهم مطلقاً !، في حين ان الله أباح لنا طعامهم جميعاً، حيث قال تعالى: (. وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ ..) - لمائدة 5، والحليَّة بصيغتها المتقدمة وردت على نحو مطلق، والقيد الوحيد الذي ورد فيه التذكير، هو بالتذكية أي ذكر أسم الله عليه، وهذا الشيء يصدق كذلك على ما علمتم من الجوارح مكلبين، وبهذا يرتفع الحرج من النجاسة الظنية التي يذهب إليها البعض من غير حاجة شرعية، سوى التكلف والإحتياط الزائد المبالغ فيه .

تنبيه 2:

فإن قلتم: وكيف يمكن تبرير قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح أبن الله ..) – التوبة 30 .

قلنا: إن هذه الجدلية المثيرة يتبادر منها إلى الذهن، صفة الشرك التي هي ضد التوحيد، والحق إن النص لا يعني هذا إنما يُركز على مفهوم أخر، ليس له علاقة بالعبادة والتوحيد، ونفي القول من جهة الله إنما يتناول مفهوم الخصوصية من جهة الرعاية والتعليم والتربية، مع أهمية عزير النبي وعيسى النبي، والكتاب المجيد لم يقل إن (عزيرا ولد الله أو المسيح ولد الله)، لأن مفهوم الولد ممتنع على الله بحسب المنطق التالي (لم يلد ولم يولد)، والذي ورد على نحو المطلقة السالبة، وبالمقابل رفض الكتاب فكرة بنوة الله لأحد من البشر على نحو خاص، وكذلك رفضها بإعتبارها دعوة ترسخ المفهوم السلبي لله في ذهن العامة، فيظنون ويكأن العزير أو المسيح هم أولاد الله، من هنا أنطلق الرفض لذلك قال: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ..) - المائدة 73، ولم يقل (لقد أشرك الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة !!) فتدبر ..

 

آية الله الشيخ إياد الركابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم