صحيفة المثقف

منظرو الاقتصاد: توماس مالثس

مصدق الحبيب (1766– 1834)  Thomas R. Malthus

هو القس الانگليزي والمفكر الاقتصادي والديموغرافي الذي عُرف بنظريته السكانية التي وصفت بالتشاؤمية وسميت بأسماء مسيئة منها "الفخ المالثسي" و"الكارثة المالثسية" و"شبح مالثس"، حتى ان هذه النظرة السلبية سرت على الاقتصاد بأكمله فسمي بالعلم المعتم الكئيب   dismal science. وبهذا فقد أثارت نظرية مالثس نقاشات وجدالات واسعة النطاق شملت حقول العلم والادب والصحافة، اكاديميا وشعبيا، وجعلت من مالثس الرجل المثير للجدل من بين كل الاقتصاديين الكلاسيكيين آنذاك.

ولد مالثس عام 1766 في سُري القريبة من لندن لعائلة موسرة وأب متعلم ومثقف وصديق قريب للفيلسوفين ديفد هيوم وجان جاك روسو. فضلت العائلة ان يكون التعليم الابتدائي والثانوي لاطفالها، وسادسهم مالثس، في البيت. وعندما بلغ مالثس السادسة عشرة دخل اكاديمية وورنگتن. وبعد سنتين واصل دراسته في كلية يسوع وتفوق في الرياضيات واللغات والثقافات اللاتينية والاغريقية. وفي عام 1789 أصبح قساً في أبرشية ووتن Parish of Wotton. في عام 1791 بدأ بدراسة الماجستير فأنهاها بسنتين ليصبح زميلا في الكلية.

1504 مالشسفي عام 1798 وفي الثانية والثلاثين من عمره نشر مالثس دراسته الشهيرة بعنوان " مقالة في دراسة السكان" والتي احتوت على فكرته الرئيسية المعززة بالاحصاءات والتي تتلخص بأن النمو السكاني يشير الى انه يزداد بمتوالية هندسية لكن الغذاء ومستلزمات العيش الاخرى تزداد بمتوالية حسابية مما سيؤدي بمرور الزمن الى حدوث فجوة بين الاتجاهين ستتسع لتجعل الغذاء المتوفرغير قادر على الاستجابة لحاجات الناس. هذا الاحتمال، ليس فقط سيعيق من امكانيات التطور والازدهار في المستقبل، بل انه من الممكن ان يؤدي الى حدوث مجاعات واضطرابات وحروب ستفاقم الحال! وقد يصبح البقاء للاقوى وتتغير طبيعة المجتمعات بعيدا عما نعرفه اليوم. كان السكان في وقت مالثس يتضاعف كل 25 سنة لكن الانتاج كان متخلفا عن ذلك بكثير  في عالم ماقبل الثورة الصناعية ومعرفة التطورات التكنولوجية. يشير مالثس الى ان هناك عاملان لتخفيف عدم الانسجام بين نمو السكان ونمو الغذاء والسلع الاخرى من اجل تحجيم الفجوة المؤدية الى الكارثة الانسانية:

العامل الاول سيحد من نمو السكان عن طريق ارتفاع معدل الوفيات. يحدث هذا عادة في حالات تفشي الامراض والاوبئة والمجاعات والكوارث الطبيعية والحروب. والعامل الثاني سيحد من نمو السكان عن طريق انخفاض معدل الولادات. يحدث هذا في حالات تقليل الزيجات وتأخيرها أو العزوف عنها في حالات ارتفاع الرغبة في العزوبية. كما يحدث في حالات الامتناع عن انجاب الاطفال او تقليل عددهم وتأخير انجابهم او تطويل الفاصل بين انجابهم. ولم يعول مالثس على معالجة الطرف الاخر من المعادلة المختلة وهو زيادة نمو الغذاء عن طريق استثمار مساحات اكثر للزراعة وتشغيل عدد اكبر من المزارعين ومنح الامتيازات والمحفزات لقطاعات الانتاج والعمل على تكثيفه وتنويعه ، فقد اعتبر هذه المعالجة بطيئة وغير فعالة. وقد يكون مالثس معذورا لانه لم يشهد آنذاك ما حدث بعده من تطور صناعي وتكنولوجي. كانت فلسفة مالثس الاخلاقية الدينية تجعله ميالا للتعويل على العنصر الاخلاقي السلوكي في الانسان ووعيه وواجبه ازاء مستقبل الاجيال. فقد اعتبر الوسائل المذكورة للحد من نمو السكان ممكنة اذا اعتبرها المرء واجبا انسانيا ينبغي الالتزام به من اجل الخير لمستقبل الانسانية جمعاء. ولم يكن ذلك متوقعا منه كرجل دين خاصة في حالة ذكره لتقنين الزواج وعدد الاطفال كمعالجة محتملة! رغم انه لم يدعو اليهما صراحة.

في عام 1799 سافر مالثس الى عدة بلدان منها ألمانيا وروسيا والبلاد الاسكندنافية من اجل جمع المعلومات السكانية والاطلاع على حال اقتصاداتها ليتم له التحليل الاوسع لنظريته التي مازال متمسكا بها. في عام 1805 اصبح مالثس استاذا للاقتصاد السياسي في كلية شركة الهند الشرقية في هرتفوردشاير. وفي عام 1818 اصبح زميلا في الكلية الملكية البريطانية. في عام 1820 صدر كتابه المعنون "مبادئ الاقتصاد السياسي" فكان ذلك مناسبة لاثارة ماسمي بالمناظرة المالثسية-الريكاردية نسبة الى صديقه ديفد ريكاردو الذي كان قد اصدر كتابا بنفس العنوان في السنة الماضية. استمرت هذه المناظرة طوال العشرينات من ذلك القرن وكانت متعددة الموضوعات منها الموضوع الاساسي "الريع". فالريع عند ريكاردو، وكما أشرنا سابقا، عبارة عن مكافأة لعنصر غير انتاجي وهو ملكية الارض التي لاتنتج كسواها من عناصر الانتاج اي سلعة او خدمة، انتاجا مباشرا! فهي إذاً، في نظر ريكاردو، تأخذ من الانتاج ولا تساهم فيه. أما مالثس فلا ينظر الى الريع بهذا المنطق بل يعتبره فائضا اقتصاديا. كان الجدال الدائر حول مسألة الريع متأصلا عن الجدال حول قوانين الذرة التي فرضت تعريفة عالية على استيراد الذرة من اجل حماية المنتوج المحلي والتي يساندها مالثس بقوة ويعارضها ريكاردو. تضمنت المناظرة مواضيع اقتصادية هامة اخرى كالتخمة في الانتاج glut وقانون سي وتراكم رأس المال. فالتخمة لاتحدث حسب اعتقاد ريكاردو المؤمن بقانون سي القائل بأن العرض سيخلق الطلب اللازم وسيحدث التوازن فلا خوف من تكدس السلع في السوق دون تصريفها. أما مالثس فيرى الامر مختلفا. يقول مالثس ان الانتاج هو عملية واقعة تحت سطوة المنتجين الذين يحفزهم الربح ويدفعهم للاستمرار بالانتاج لكن الطلب غالبا ما تحدده دخول الجموع وقواهم الشرائية وجلهم من العمال الذين يستلمون اجورا بحد الكفاف والتي لا تعينهم على الاستهلاك الذي يؤمن تصريف كل السلع المنتجة! وبالتالي ففرط الانتاج وارد وفائض العرض سيكون نتيجة له. كما اختلف الاثنان على مفهوم الانتاج الشائع فريكاردو يرى الانتاج شاملا للسلع والخدمات. أما مالثس فيراه متعلقا بالسلع دون الخدمات. ولذا، كان ذلك من الاسباب التي دعت مالثس الى الاعتقاد بأن اغلب زملائه الاقتصاديين لا يتوخون الدقة في تعريف المصطلحات المتداولة لما لذلك من الاثر البالغ في تسلسل المنطق وفهم النظريات. ففي عام 1827 اصدر مالثس قائمة طويلة بتعريفاته المفصلة لكثير من المفاهيم والمصطلحات الاقتصادية وتطبيقاتها وطرق استخدامها فكان بذلك أول الاقتصاديين في اصدار مثل هذا الدليل العام للمصطلحات. في عام 1834 تأسست جمعية الاحصائيين البريطانية وكان مالثس احد مؤسسيها. بعد ذلك بفترة قصيرة توفي مالثس اثر نوبة قلبية مفاجئة عن عمر 68 عاما.

في الختام يمكن القول بأن ماسمي بنظرة مالثس التشاؤمية كانت نتيجة لكون مالثس اقتصاديا تطبيقيا تحفز افكاره الارقام والاحصاءات وحساباتها بدلا من المشاعر. كان مالثس قد وُصِف بعد مماته من قبل اصدقائه والمقربين منه بانه كان رجلا مؤمنا كريما رقيق القلب مدنيا بسلوكه ومهذبا باخلاقه . عاش حياة هانئة هادئة تخللتها صداقات حميمة مع العديد من زملائه ومعارفه. كان ايضا رجلا وسيما رغم وجود شق ولادي في شفته العليا وسقف فمه مما أثر على طريقته في النطق والكلام.

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم