صحيفة المثقف

تأملات حول حكاية بوشكين عن الصياد والسمكة

ضياء نافععنوان هذه الحكاية الشعرية التي كتبها بوشكين هو – (حكاية عن الصياد والسمكة)، وقد نشرها عام 1835(اي قبل وفاته بسنتين فقط)، وكان آنذاك في اوج شهرته ونضجه الفكري، واصبحت هذه الحكاية واحدة من أشهر حكاياته في روسيا، وخارجها ايضا (هي مترجمة الى العديد من اللغات الاجنبية، بما فيها العربية) . الحكاية موجودة اصلا باللغة الالمانية عند الاخوين غريم، بل وهناك حتى من يقول عن بوشكين، انه (سرقها !!!) من الالمانية (انظر مقالتنا بعنوان – بوشكين بين الترجمة والاقتباس)، ونحن نقول هنا وبكل ثقة ايضا، هل كان الشاعر الروسي الكبير بوشكين فعلا بحاجة الى (هذه السرقة !) الادبية العلنية، وهو الذي كان يمنح – وبكل طيبة خاطر- للادباء الروس حوله افكارا وموضوعات للكتابة الابداعية، ومنهم غوغول مثلا، الذي أعطاه فكرة (المفتش)، و فكرة (الارواح الميّتة) والتي حوّلهما غوغول  بعدئذ الى نتاجات خالدة في الادب الروسي والعالمي .

(حكاية عن الصياد والسمكة) لبوشكين تبدو للوهلة الاولى نتاجا فنيّا يدخل ضمن أدب الاطفال ليس الا، وهي فعلا هكذا في الواقع، بل واصبحت حكاية حبيبة للصغار وقريبة جدا لقلوبهم، ولكن عظمة هذا  ألادب تكمن في انه أدب صغار وأدب كبار معا، فالصغار يجدون فيه ما يريدون ان يجدوا من متعة، والكبار يجدون فيه كذلك ما يبحثون عنه من حكمة وافكار عميقة، ولهذا، فان الادباء الذين يكتبون لنا هذا النوع من الادب هم دائما القلّة فقط، او النخبة منهم فقط، من (وزن!!!) بوشكين وأمثاله من القمم الادبية لدى مختلف الشعوب، ونتناول في مقالتنا هنا الجانب (الآخر!) لهذه الحكاية الجميلة، الجانب العميق، الذي يخاطب به بوشكين الكبار في حكايته الطريفة للقراء الصغار، الجانب الذي كان يثير بوشكين في تلك المرحلة من مسيرته الفكرية .

نذكّر القارئ العربي – اولا - بالمضمون العام لتلك الحكاية . هناك صياد سمك يعيش في كوخ متواضع مع زوجته عند ساحل البحر، وهما يقتاتان السمك الذي يصطاده هذا الصياد، وفي يوم من الايام اصطاد سمكة ذهبية، ولكن هذه السمكة قالت له ان يعيدها الى البحر، وانها مقابل ذلك تستطيع ان تحقق له كل ما يطلب منها، وهكذا اعادها للبحر تلبية لرغبتها دون ان يطلب شيئا، وعاد الى بيته وحكى لزوجته قصة تلك السمكة الذهبية، وبدأت زوجته باجباره على العودة الى السمكة والطلب منها ان تحقق رغباتها، اذ طلبت تغيير المنزل، ثم تحويلها من فلاّحة الى نبيلة، ثم الى قيصرة، وكانت السمكة تحقق كل ما يطلب منها الصياد، ثم طلبت الزوجة من السمكة ان تحولها الى اميرة البحار وان تكون السمكة خادمة لها، فاستمعت السمكة الى ما قاله الصياد لها وغطست في البحر دون اي جواب، وظل الصياد يناديها ويناديها، ولكن السمكة تركته و اختفت، فلما عاد الصياد الى بيته، وجد بيته القديم وقد عاد كما كان سابقا، وشاهد زوجته وقد عادت الى وضعها كما كانت في السابق ايضا.

القارئ الصغير يبقى مندهشا وهو يتابع رغبات الزوجة وتحولاتها، ثم يرى عودتها الى حياة البؤس مرة اخرى، ويفهم هذا القارئ بنفسه (او ربما  يوضّحون له)، ان طمع الانسان يقتله . والقارئ الكبير يبقى مشدودا الى احداث الحكاية، ويفهم رأسا (كما الصغير) ان الطمع قاتل، وان رغبات الطمّاع بلا انتهاء، ولكن هذا القارئ يبدأ بطرح الاسئلة، المرتبطة باحداث الحكاية وابطالها، ولماذا كتبها بوشكين وهو في ذروة مسيرته الابداعية. ابطال الحكاية هم الصياد وزوجته والسمكة . الصياد رمز الطيبة والبساطة والنقاء، و تسحره الكلمة الطيبة للسمكة، فيطلق سراحها دون ان يطلب اي شئ . زوجته رمز الطمع والجشع والرغبة باخضاع الجميع دون استثاء . السمكة رمز القوة والسلطة، والتي تقدر ان تعمل كل شئ، الا انها – مع ذلك – سقطت في شباك الصياد البسيط . ولكن اين موقع بوشكين بين هذا الثلاثي المتجسّد بالطيبة والجشع والسلطة ؟ هنا تكمن نقطة الخلاف بين (المجتهدين !) . يرى البعض ان بوشكين أقرب الى الصياد، اي أقرب الى النقاء الذي تسحره الكلمة الطيبة، وان القيصر عندما قابله بعد منفاه، وقال كلمته الشهيرة، في انه سيكون رقيب بوشكين فقط (وهو موقع لم يصله اي شاعر في كل تاريخ روسيا)، اي ان بوشكين، مثل الصياد، سحرته الكلمة الطيبة، وتقبّلها ووثق بها، ولكن لا السمكة ولا القيصر التزما بتلك الكلمة امام رمز النقاء في نهاية المطاف، وهكذا عادا الى حياتهما البائسة مرة اخرى، بغض النظر عن الاسباب التي أدّت الى تلك النتيجة. لكن البعض الآخر لا يتفق مع هذا الاجتهاد، ويرى، ان بوشكين أقرب للسمكة، التي اصطادها الصياد، فوعدته بتلبية مطالبه من اجل حريتها، وان السمكة فهمت في النهاية، انها يجب ان تختار بين الحرية وبين تلبية تلك المطالب، وانها اختارت الحرية، رغم ان الصياد أصطادها ثم منحها الحرية، اذ ان السمكة كانت آنذاك مضطرة ان تعده بتلبة مطالبه، ولكن الحرية تبقى أغلى من كل شئ وأعلى، وعندما وصلت تلك المطالب الى التخلّي عن حريتها، فانها اختارت الحرية رأسا دون اي تردد بشأن هذا الاختيار، وهذا ما فعله بوشكين ايضا في نهاية المطاف . وبغض النظر عن اختلاف المجتهدين بتفسيرهم لموقف بوشكين الفكري، ولكنهم اتفقوا، ان الشاعر الكبير استخدم تلك الحكاية الشعبية الشائعة للتعبير عن موقفه الفكري العميق تجاه تلك القضايا الكبرى، التي كانت تقف امامه في مجتمعه، وهي قضايا خالدة في مسيرة الانسان في كل مكان.....

 

أ.د. ضياء نافع     

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم