صحيفة المثقف

قضية للمناقشة.. ربع قرن على تأسيسه

جمال العتابيبيت الحكمة العراقي.. المعنى والبديل!

أجد في وضوح الأهداف التي حددها القانون رقم (١١) لسنة ١٩٩٥ لبيت الحكمة العراقي، مايبرر العديد من الأسئلة التي يطرحها  المتصدي لهذه التجربة، وهو يتتبع عوامل نجاحها، أو إخفاقها، في مرحلتين، قبل وبعد عام الإحتلال ٢٠٠٣. وأول تلك الأسئلة يتعلق بمعنى التأسيس، فهل ورد في عقل المؤسسين ما يتطلب تجديده في الثقافة وغاياتها وطرائق نشرها؟ وما محرك هذا التحول؟ إذا كان وارداً في الحسبان الوعي التخطيطي الثقافي، المدعم بالإحصاءات الدقيقة في حساب النتائج ومردودها الفعلي على هذا الواقع.

على وفق هذه المسلمات، هل بالإمكان القول ان (فكرة) تأسيس بيت الحكمة العراقي جاءت منسجمة مع تلك الأغراض.؟ أم ان هناك نوايا ومتبنيات أخرى (غير الثقافية)، كانت هي الأرجح في الأسباب الموجبة للتأسيس؟

إن قيمة بيت الحكمة تكمن في المعنى الذي يحمله تاريخياً وحضاريا، فالقانون أشار الى الغاية من تأسيسه، وهي إحياء بيت الحكمة العباسي، أو كما يسمى في حينها، خزانة بيت الحكمة الذي أسسه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في بغداد، وأكمل رعايته حفيده هارون الرشيد، ومن بين الأهداف، العناية بالبحوث والدراسات المهتمة بتاريخ العراق والحضارة العربية والإسلامية، وحسب موقع بيت الحكمة الالكتروني، انه يعنى بإرساء منهج الحوار بين الثقافات والأديان، وإشاعة ثقافة السلام والحوار، وقيم التسامح الديني والتعايش بين الأفراد والجماعات.

بتقديري ان ما تمتع به بيت الحكمة من إمتيازات إستثنائية، ودعم حكومي بلا حدود، يفوق بكثير  ما توفر لمؤسسات أكاديمية وعلمية مماثلة، في المرحلتين اللتين أشرنا اليهما، كالمجمع العلمي مثلاً، والتي كانت تعاني من شحة الموارد المالية، بسبب ظروف الحصار الاقتصادي المفروض على العراق، فتراجعت تلك المؤسسات عن أداء دورها وتحقيق مهماتها العلمية والفكرية.

إن هذ التباين في الدعم الحكومي، هو ما يدعونا للسؤال عن مغزى إحتضان مؤسسة دون أخرى، وفي ذاكرتنا أمثلة كثيرة للإجابة، وفي العهدين تعددت أقسام بيت الحكمة في مختلف الإختصاصات، وتضخم كادره الوظيفي، ومن الإنصاف القول انه أصدر عدداً كبيراً من المجلات والدوريات والكتب، ونظّم حلقات دراسية نقاشية، وندوات ومؤتمرات بفضل الدعم الحكومي، وعلى الرغم من تعرضه للنهب والحرق والعبث بكل موجوداته بعد الإحتلال في نيسان ٢٠٠٣، إلا ان بيت الحكمة إستطاع النهوض من جديد بحملة إعمار وترميم، أعادت له الحياة والإستمرار بذات النهج والأهداف.

شهدت مرحلة التأسيس الأولى ركوداً ثقافياً ، وخراباً مريعاً في المؤسسات الأكاديمية والتعليمية، وهي حقيقة لا تغيب عن الأنظار، وأسهمت الدكتاتورية بدرجات متفاوتة بصنع ماكنتها القمعية للثقافة، وإشاعة نمط الثقافة الشمولية، جرت بإسم الحفاظ على التراث والخصوصية، وفرض الوصاية على القيم الثقافية، ومصادرة حرية الرأي وإنتهاك الحقوق، ولا يقتصر هذا الوضع المتردي على حركة الإنتاج الفكري عموما، بل إمتد في الأثر على الجسم الثقافي وأدواته،  فتحول بعض المثقفين الى وجه آخر للسلطة  أو صنيعة لها.

وفي ضوء ذلك، يمكننا القول ان بيت الحكمة لم يكن مشروعاً ثقافياً، وفق أهدافه المعلنة والمنصوص عليها في القانون، إنما كان مشروعاً دعائياً، أو واجهة سياسية عبر الفعل الثقافي، وأجادت السلطة بمهارة فائقة وسط تيه من التناقضات  وتضخم المشكلات، من إسناد الدور لقيادات حزبية في المؤسسة الثقافية، وهي أسماء لها حضورها المميز والمهم في الساحة الابداعية. فهو لا يختلف  بالغايات المضمرة، عن مشاريع بناء أكبر الجوامع في بغداد، وأضخم القصور فيها في فترة الحصار، في حين ظل المثقف العراقي يمتلك صوته الخافت، يعاني من وجع الحروب والموت والحصار، والخوف من زنازين الإعتقال، يعاني الإحباط وتكسر الأحلام والجوع، وراح أغلبهم يعرضون مكتباتهم للبيع والبحث عن مصدر للعيش على دكات وأرصفة المدن الغريبة. هؤلاء كان لهم صوتهم الخافت، رغم أحقية وجودهم وصحة منطلقاتهم، ويتسق مع هذا الوضع حالة الإستياء العام من إستبداد الدولة، خصوصا عندما تتراكم أخطاؤها الفادحة وخساراتها المتلاحقة، بما جعل منها هدفاً لسخط شعبي مكتوم.

السؤال الأهم، هل أستطاعت إدارة بيت الحكمة الجديدة، من تجاوز آثار الخراب الثقافي؟  وتحويل المشروع  الى بنية تابعة للثقافة ما بعد ٢٠٠٣؟ ، بنمطٍ جديد من مستوى التفكير والسلوك، وأساليب جديدة لثقافة تحافظ على مسافة بينها وبين الحكومة، وتبتعد عن آليات التدجين التي غالباً ما تمارسها السلطة. أم أن ذاك النهج مابرح لم  يغادر  واقع الأداء؟ ويترك ظلاله القاتمة عليه، بفرض عناصر حزبية أو موالية لإتجاه حزبي محدد ، غير مؤهلة علميا للإضطلاع بهذا الدور، إنما تعمل وفق ولاءاتها وإنتماءتها الدينية أوالطائفية، وتابواتها الثقافية، لتمارس تدخلاتها في الميدان المعرفي، وإحتكار النشاط الثقافي، وتغلق الأبواب أمام ولادة مشاريع ثقافية برؤى مختلفة.

واقع الحال يشير الى ان  بعض هذه المخاوف حصلت بالفعل! أتساءل هنا على سبيل المثال : ما معنى إقامة ( ندوة عن شأن عراقي)  في دولة المغرب مثلاً ؟؟ لا أعتقد ان الإجابة على السؤال تحتاج إلى شطارة في البحث عن السبب ذي المصلحة الشخصية الضيقة جدا، في تحقيق إمتيازات إيفاد الموظف الحكومي!!

بينما كان الوسط الثقافي يتطلع الي كيان جديد يتلمس فيه حيوية ونبض الضمير العراقي في رصد التحولات والظواهر الثقافية، فهل إستطاع بيت الحكمة من أن يتجه في الدرب المعرفي الأصيل المتنور؟ وبصيغة أخرى، هل تمكّن من أن يسد فراغاَ ثقافياً وفكرياً في الساحة الثقافية، وأن يكون منبراً للآراء والأفكار الحرة؟ الوقائع تشير خلاف ذلك! فالإدارات لم تتجرد من الهوى وتتحرر من نزعات الإستئثار، مازال ذات الإيقاع فاعلاً ومؤثراً، لم يتجاوز عوامل النكوص والإنكفاء. وبعد ربع قرن من التأسيس، لم يخلق بيت الحكمة خطابه الثقافي الجديد القائم على أخلاقيات جديدة من الحوار النقدي، أو صياغة أسئلة جديدة في الفكر والثقافة.وإختلاف الرؤى يدعونا الى أن نحذر التعميم في وضع الحلول، ويدعونا الحرص على ان لا نلقي العبء على طرف دون ذاك، لأن توسيع القاعدة الثقافية يستلزم إتاحة الفرصة لمن يمثل الأجيال الجديدة، في البحث عن بديل جديد يأخذ بهذه المهمات، ولنا في تجربة مصر الثقافية والمجلس الاعلى للثقافة فيها، مثلاً متقدما كنموذج في النهوض الثقافي، ولاسيما في فترة الستينات والسبعينات.

من هنا تبدو الحاجة للمراجعة ماثلة بقوة  وبإلحاح، بشرط ان تكون مخلصة وواعية، دون تردد في نقد الماضي بمستوياته كافة، إنطلاقا من غنى الأفكار وتنوع الأساليب وتعدد المنطلقات، وأول شروط هذا الجهد، هي العودة بالأرقام والإحصائيات الى المتحقق والمنجز، لا الكمي، إنما النوعي، بمعنى أن تكون المؤسسة بصفتها الفاعلة شريكاً في الحياة الثقافية والعامة، وأن يسمح للثقافة بصفتها المعرفية بالتدفق الحر، وتأصيل القيم الجمالية، ان دور المؤسسات ومراكز البحوث في العالم يقوم على ستراتيجيات بعيدة المدى، تقاوم ما هو سائد مهيمن وجامد متخلف، وتسعى للتغيير والتجديد والتنوير والتجاوز المتصل. وغالبا ماتكون في غنى عن السياسات الحكومية المكبلة لحريتها والمقيدة لنشاطها، لا أن تكون تابعة لها، محصورة خلف هيمنة أيديولوجيا السلطة وأحزابها، تكتفي بالإمتيازات الخاصة على حساب المشروع الثقافي.

والضرورة تقتضي كذلك مراجعة إصدارات بيت الحكمة (الكتب والمجلات)، والإفادة من تجارب دور النشر العربية في إختيار العناوين والموضوعات المهتمة بآخر التحولات والمتغيرات  الفكرية والسياسية في العالم، بمختلف الإتجاهات والرؤى المستقبلية، والإنفتاح على تجليات الإبداع والكتابة على أنواعها، ان الثقافة لاتتحدث في العادة بصوت واحد،  بل هناك خلافات وتعددية حول أغلب القضايا الإنسانية، وتهتم دور النشر عادة بالشكل في صناعة الكتاب، وتعتني بالإخراج الفني(التصميم، اللون، الحرف) وغالبا ما تبتعد عن الرتابة والجمود لتحقق نقلة نوعية في الشكل والمضمون وهي إحدى أهم متطلبات تسويق الكتاب ونجاحه، إن (س) من دور النشر العربيةبإمكانه إصدار عشرات الكتب سنويا، بمواصفات فنية عالية الجودة، وبمهارات بشرية بسيطة ومتواضعة،لا ترقى إلى إمكانات بيت الحكمة المادية الذي ظل عاجزاً من تحقيق الشرط الجمالي في إصداراته، وغياب هوية المطبوع فنياً.

المتابع لأجنحة معارض الكتب يشعر بالأسف الشديد امام المستوى المتواضع جداً في إصدارات بيت الحكمة ، وهو يقارنها مع تفوق إنتاج دور النشر  الأخرى، ودونما اية صعوبة في التمييز، يجد المرء مسافة بعيدة تفصل بين الأثنين.  لذا أدعو المعنيين بهذه المهمة، أن يطلعوا على تجارب دور النشر، على الأقل العربية منها، ويتعلموا، ويطوروا مهاراتهم بالدراسة، والإنفتاح على منجزات صناعة الكتاب الحديثة في العالم.

إن تساؤلاتنا المشروعة عن حاضر ومستقبل بيت الحكمة هي محاولة، أو بادرة تمهد الطريق لدور أفضل، لا أن تكون مجرد رمي حجارة في مياه راكدة.

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم