صحيفة المثقف

اللوحات التشكيلية والمنحوتات والاعلانات بحيز النظر

لدينا بعض البحوث الفنية تدعو الى استكشاف، بعد ان غزت الغثاثة البحوث المدعية المعرفة او شؤون الثقافة، والثقافة بمفهومها العام تشمل كل شيء في حياتنا ومنها كمثال عاداتتا الغذائية ونوعه والاثاث المنزلي باعتباره احد المنتجات الابداعية والفنون الحياتية وهذا الجانب او المنحى الفني والحياتي من اكثر الفرع الفنية تطورا ولكن عدم الاهتمام به لا يلغي اهميته في الحياة اليومية وربما يفوق في الحياة العملية العديد من الفروع الادبية والثقافية والفنية الاخرى لكنه غير منظور بحكم العادة او الالفة .

وقد يفوق رواد الصالات البيتية اعداد رواد المعارض التشكيلية او النحتية باعتبارها ملتقى افراد العائلة والضيوف من مختلف الشرائح والمستويات الثقافية والاجتماعية . وتشكل بعض نماذج من هذه الصالات دافعا لتقليدها وانتشارها باشكال وترتيب مختلف ومتباين لا يقل تأثيرها عن تأثير اللوحة التشكيلية او المنحوتات التي تعرض وتختفي خلال ايام معدود .

ما يؤشر ان الفنون بمستوياتها التقليدية المعروفة لم تعد الرافد الوحيد للثقافة الفنية والذوق العام في المجتمع . لانها انتقلت الى حياتنا العملية بشكل غير محسوس، ودخلت الفنون والابتكارات سواء بتصاميمها الفنية او طرق استعمالها بجميع شؤون حياتنا اليومية والاجتماعية واصبح الفن جزءا غير محسوس نصادفه في كل مكان تقريبا،اثناء تجوالنا في المدن والاسواق، حيث نصادف معارض فنية بشكل يومي تبيع مختلف المواد واللوازم الضرورية وتحتوي على جميع المؤثرات المفترضة لمعارض الرسم او النحت اي الجاذبية والتأثير الذي يغني الثقافة الفنية وينمي الذوق الفني العام لدى المشاهد والمستهلك . 

والمثال الاقرب اذا اخذنا احد الشوارع او المنتزهات فان المنحوتات او النصب تشكل حيزا صغيرا من الشارع او المنتزه قياسا بفضائه واحيانا تطغى مكونات الشارع الاخرى خاصة اذا كان تجاريا على المنحوتات والنصب او الابنية التراثية واشكالها الفنية اذا كانت تقع ضمن الشارع او فضائه العام،وفي كل الاحوال فان نصب ومنحوتات الشارع او المنتزه ليست وحدها من يقرر جاذبية الشارع او المنتزه او الرافد الوحيد لتشكيل الذوق الفني للرواد وانما احد روافده الاساسية .

القشلة وشارع المتنبي اوحيز المكتبات بشارع السعدون عبارة عن لوحات تشكيلية متحركة غير ثابتة سوى عناصر محدودة فيها تقع ضمن مكوناتها كلوحات تشكيلية مجسدة بالوان واشكال مختلفة ومتغيرة . وتشكل احد الروافد الاساسية للتأثير في الذوق الفني العام مع بعض الخصوصيات رغم انها ليست كذلك بمفهوم الفن التشكيلي وتقنياته ورغم ان تأثيرها يفوق تأثير معارض الفنون التشكيلية مهما كانت شهرتها وانتشارها يظل تأثيرها محدودا قياسا باللوحات التشكيلية المتحركة لتلك الشوارع والمنتزهات وحجم تأثيرها على الذوق العام من الناحيتين الثقافية والفنية .

هذا لا يقلل من اهمية اللوحات التشكيلية او الفنون التشكيلية والمنحوتات وتأثيرها، رغم اننا نعتبرها مؤشرات على ان اللوحة والمنحوتة لم تعد معزولة عن الحياة وانما دخلت في العديد من نواحي حياتنا العملية بطريقة او باخرى، ولم يعد الفن التشكيلي او النحتي قابلا للتاثير او المساهمة بصياغة الذوق العام اذا ظل حبيس ابراجه العالية ليتغلغل بشؤون حياتنا ومقتنياتنا واشكالها المجسدة لهذه الفنون.

وعلى الصعيد الادبي لم يعد الشعر ديوان العرب، او الرافد لتطوير اللغة خاصة الشعر التقليدي منه واصبح تأثيره ودوره ثانويا وعدد قراء الشعر خصوصا وصل الى ادنى مستوياته قياسا الى باقي الفروع الادبية كالسرد والنصوص بشقيها الشعري والنثري وسواها من فنون الكتابة المعاصرة، علما ان الشعر العمودي ظل في تأريخ الادب تحت اسم: الشعر التقليدي والسبب انه حصر بقوالب محددة من الصعب وربما الاستحالة اضافة اشياء جديدة او عمل تجديد ضمنها يمكنه مواكب تطورات عصرنا . وجدل التقليد او التشبه بالمعاني السابقة اوالمطروقة انتبه لها نقاد الشعر منذ ما قبل عصر ابو هلال العسكري ومن الامثلة على التقليد وتوليد المعاني نفسها . يذكر العسكري في كتابه:"ديوان المعاني" ان ابا عمرو بن العلاء قال لاصحابه يوما: ما احسن ما قيل في العيون قال بعضهم قول جرير:

ان العيون التي في طرفها حور

قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

وهن اضعف خلق الله انسانا

ويواصل العسكري القول: اخذ بعض المحدثين قول جرير "وهن اضعف خلق الله انسنا" فقال:

كأنما ازدادت قوى اجفانها

ضعفا تقوين على ضعف القوي

ومثله قال الناشئ:

لا شيء اعجب من جفنيه انهما

لا يضعفان القوي الا اذا ضعفا

والغرض من ذلك ان الشعر التقليدي ظل في مجمله يولد نفس المعاني المكررة باساليب مختلفة واطلق في عصرنا او صيغ بمصطلح منفرد دعي ب "التناص" والكثير من النقاد العرب ادعوا ان اصل المصطلح الغربي كتاب ابو هلال العسكري: "ديوان المعاني" وبغض النظر عن ذلك فان التناص بمفهومه الغربي ابعد من عملية توليد نفس المعاني باساليب مختلفة وبذلك عجر الشعر العمودي عن مواكبة شؤون عصرنا وطغى النص على ما عداه وتراجعت كذلك نتيجة لهذه التطورات قصيدة التقعيلة التي شكلت في الستينات وما بعدها حضورا لافتا في الثقافة العربية ولكنها سرعان ما تراجعت لتفسح المجال للنصوص بشقيها النثري والشعري اخذ الصدارة في المشهد الشعري العربي .وظل تأثيره محدود بسبب تراجع عدد قراء الشعر عموما، وبالتالي تراجع تأثيره وحضوره في التأثير او اعادة بناء الثقافة العربية او المساهمة بشكل فعال بمواكبة تطورات عصرنا  .

هكذا تطورت الكثير من المفاهيم حول الثقافة والفنون ودورها في بناء الذوق الفني والثقافي العام، اهمها الخروج الى الشارع والمقهى والاسواق والمنتزهات او النزول من الابراج العالية، اذا ارادت ان تكون مؤثرة ومساهمة بتشكيل وبناء الذوق العام على المستوى الثقافي والفني بدون التحصن في القوالب والاساليب القديمة التي فقدت تأثيرها وحضورها في المجتمع .

الثقافة والفنون في الدول المتقدمة تغلغلت بجميع شؤون الحياة نجدها حتى في الاعلانات التجارية التي يشاهدها ملايين الافراد يوميا في الشوارع وعلى الطرقات بينما الثقافة والفنون في تراجع بمجتمعاتنا العربية، بسبب عجرها عن مواكبة ما يحدث من تطورات ثقافية وفنية والمثال الاخر الادوات المنزلية التي نستخدمها اصبحت كذلك عبارة عن اشكال نحتية وتشكيلية تفوق تأثيرها على الذوق العام تأثير الفنون التشكيلية والنحتية . لان هذه الفنون في الواقع انتقلت الى جميع مقتنياتنا والادوات التي نستعملها في المنزل او خارجه باشكالها ووظائفها والوانها الجذابة .

واقتراب الفنون بفروعها المختلفة من الحياة اليومية العادية، يساهم بشكل مؤثر في حضورها الثقافي وتأثيرها في المجتمع وتطوره الفني والثقافي، كما يحدث في بقية الدول والمجتمعات رغم اختلاف مستوياتها الثقافية وتطورها المدني والحضاري .

 

   قيس العذاري

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم