صحيفة المثقف

الفنان أكرم شكري

جمال العتابيما تزال الدولة العراقية فتية، مقتنعة بالقليل من الخبز والعيش، لكن لم يكن مستحيلاً على الوطن المتفائل أن يمنح مبدعيه بما يستحقون، وتستجيب الدولة لمتطلبات العصر وتحولاته، وحاجتها لتدريب أبنائها ومنحهم فرص التعلم، والإنفتاح على تجارب العالم في ميادين العلم والمعرفة والثقافة والفن .لذا إقترن تاريخ الحركة التشكيلية في العراق بإسم أول مبعوث لدراسة فن الرسم في إنكلترة عام 1930،هو الفتى أكرم شكري، هذه البداية، إشارة لأول إنعطاف نحو الفن بوصفه ظاهرة ثقافية ترتبط بموجبات وتقاليد الحياة الجديدة .

منذ ذلك التاريخ يبدأ الفنان التشكيلي أكرم شكري المولود في بغداد عام 1910 مشروعه الفني، الذي إبتدأ بلوحة لشارع في ضباب لندن، وتخطيطاَ جميلاً بالرصاص لرأس رجل، إلا ان رحلة البحث عن تجارب جديدة، وإرتياد المجاهيل بدأت في مطلع الأربعينات، لجيل من الفنانين الرواد، بدأوا الرحلة في الكشف عن الحلول التشكيلية لمعضلاتهم الفنية، وهكذا غدت تلك التجارب، إشارات لإقتحام جدار المسلمات التقليدية السائدة في الأوساط الفنية أنذاك .

عاد شكري من لندن عام 1932 متأثراً بالإنطباعية أسلوبه المفضل،لم يبتعد عن   الطبيعة، وأجواء بغداد  وأزقتها وشناشيلها وأهلها، وهو ما صار واضحاً في معظم أعماله (بائعة اللبن، أفراح غجرية، الحيدرخانة، مسجد الكوفة، سكلّة الخشب في الموصل، الغزال، دجلة في الليل)، إن المتابع لأعمال أكرم شكري في تلك الفترة الثرية، يستطيع أن يتوقف عند خصوصيتها، وطابع التجريب فيها، وهي تحمل لحظة إفتراقها عن مدرسة عبد القادر رسام، وإبتعاد شكري عن أيامها .

1640 اكرم شكري 2

إن مواجهة الزمن المتحرك، بما يحمله من توقعات حادة، تدفع بالفنان إلى المضي بالتجربة حتى النهاية، وجد أكرم نفسه انه في حاجة إلى معين متجدد للغته الفنية، يضيفها إلى وسائله التعبيرية الأخرى، ليمارس بجرأة ذاك التكنيك الدرامي (البولوكي)، متأثراً بالفنان الأمريكي جاكسون بولوك (1912- 1956)، بعد عودته من زمالة دراسية لليونسكو عام 1954، ورحلته إلى الولايات المتحدة والمكسيك، إلتقط خلالها تجربة بولوك، فعاد متأثراً بها، وقدّم بعضاً من أعماله في معارض فنية مشتركة، كما قدّم البعض الآخر في معرضه الشخصي الوحيد في جمعية الفنانين العراقيين، ضمن مهرجان الفن العراقي،على قاعة معهد الفنون الجميلة، في عام 1956 .

1640 اكرم شكري 1وما دمنا بصدد هذا التأثير، نقول أن (جاكسون بولوك) كان أحد الرسامين الذين تركوا أثراً واضحاً في الرسم الحديث، وفي الحركة التعبيرية التجريدية، إبتدع أسلوبه الخاص في تقطير الألوان على سطح اللوحة المفروشة أرضاً، لتشكيل أنماط إيقاعية تبدو وكأنها متقاطعة، يقول بولوك عن هذا الأسلوب : أشعر أنني أقرب إلى اللوحة، أو جزءاُ منها، يمكنني أن أمشي حول جهاتها الأربع، فنانو الإنطباعات العفوية تلك، تأثروا بالسريالية التي تعتمد التلقائية والحلم واللاوعي، دون مراعاة أي دافع أوهدف خفي، إنما البحث عن التأثير العاطفي للفن، ربما كان أكرم شكري ينظر إلى تلك المحاولات، نظرة من يجرّب أو يقارن أو يقلّد، فتباينت أعماله في الأسلوب، وفي متانة العمل الفني، ولجأ إلى إسلوب التنقيط في بعض أعماله، وإعتمده كأساس في التعبير، لكن مدة التأثر هذه لم تمتد طويلاً، على الرغم من أنه أنجز خلالها أجمل أعماله الفنية، مثل لوحة (حواء)، التي تميزت بغزارة نسيجها اللوني الدافيء، وتوازن كثافاتها وملامساتها، التي توحّد فضاء اللوحة وتحييها، هذا التباين في الإسلوب لايكشف عن صراع حاد في الأفكار إلا بمقدار محدود، لكنه يشير بوضوح إلى جانب تجريبي يرتبط بعملية صناعة العمل الفني .

أكرم شكري من جيل الفنانين الشغوفين بالطبيعة العراقية، إذ تطالعنا مشاهدها في أغلب أعماله، سعياً منه لخلق حالة من التوازن مع العالم المحيط به،وهو يحاول جاهداً أن يبقى على علاقة سليمة به، فإتجه صوب المشهد الحياتي العراقي، دون النفاذ إلى أعماق الأشياء، بقدر ما يريد أن يسجل لحظات يومية يشفق أن لاتضيع من مخيلته المسافرة، كان حريصاً أن ينقلها بحدود إمكاناته التقنية، ولعل أكرم شكري أغفل إغراءات اللون في الطبيعة العراقية، ولم يتهيأ كلياً للإحساس بالأشكال، وكان على الألوان الخافتة أن تشعّ، كما نحسّها نحن أبناء هذا الوطن، من ينابيع الضوء التي تتدفق أبداً من أعماق الظلال الشفيفة .

ما يشد روابط اكرم شكري في التعبير عن الحياة العراقية، والتاثر بأحداثها، مساهمته في تأسيس جماعة أصدقاء الفن عام 1940، ومشاركته معارض الجماعة لعامي 41،1942، ومساهمته في معرض أبن سينا عام 1952،ومن المؤسف ان لازمه المرض في سنوات عمره الأخيرة، ولم يمنحه فرصة الخلود لمرسمه ليواصل عمله الفني، وتوفي عام 1983 .

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم