صحيفة المثقف

السيادة رؤية ومفهوم ..

نبيل احمد الاميريستخدم السياسيون والإعلاميون كلمة "السيادة" في كثير من خطاباتهم وتحليلاتهم، فما مفهومها وكيف نشأت؟

بداية لابد من الإشارة إلى أن قيام الدولة المعاصرة بأركانها الثلاثة: الشعب، والإقليم، والسلطة السياسية، يترتب تميزها بأمرين أساسيين ..

الأول .. تمتعها بالشخصية القانونية الاعتبارية

الثاني .. كون السلطة السياسية فيها ذات سيادة .. ولأهمية السيادة في الدول فقد جعلها البعض الركن الثاني من أركان الدولة.

تعريف السيادة (لغوياً) ..

السيادة .. من سود، يقال: فلان سَيِّد قومه إذا أُريد به الحال، وسائِدُ إذا أُريد به الاستقبال، والجمع سَادَةٌ، والسَّيِّدُ يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومُحتَمِل أَذى قومه والزوج والرئيس والمقدَّم، وأَصله من سادَ يَسُودُ فهو سَيْوِد، والزَّعامة السِّيادة والرياسة.

وفي الحديث قال صلى الله عليه وآله سلم: "أَنَا سَيِّدُ الناس يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

وخلاصة المعنى اللغوي للسيادة أنها تدل على المُقدم على غيره جاهاً أو مكانة أو منزلة أو غلبة وقوة ورأياً وأمراً، والمعنى الاصطلاحي للسيادة فيه من هذه المعاني.

تعريف السيادة (اصطلاحاً) ..

عُرفت السيادة اصطلاحاً بأنها السلطة العليا التي لا تعرف فيما تنظم من علاقات سلطة عليا أخرى إلى جانبها.

وهي وصف للدولة الحديثة يعني أن يكون لها الكلمة العليا واليد الطولى على إقليمها وعلى ما يوجد فوقه أو فيه.

وعرفت أيضاً بأنها السلطة العليا المطلقة التي تفردت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال.

والتعريفات السابقة متقاربة، ولعل أشملها لمفهوم السيادة هو التعريف الأخير لوصفه السيادة بأنها سلطة عليا ومطلقة، وإفرادها بالإلزام وشمولها بالحكم لكل الأمور والعلاقات سواء التي تجري داخل الدولة أو خارجها.

نشأة مبدأ السيادة في الفكر الغربي ..

السيادة بمفهومها المعاصر فكرة حديثة نسبياً مرت بظروف تاريخية، حيث كان السائد أن الملك أو الحاكم يملك حق السيادة بمفرده، ثم انتقلت إلى رجال الكنيسة فكانت سنداً ودعماً لمطامع البابا في السيطرة على السلطة، ثم انتقلت إلى الفرنسيين ليصوغوا منها نظرية السيادة في القرن الخامس عشر تقريباً أثناء الصراع بين الملكية الفرنسية في العصور الوسطى لتحقيق استقلالها الخارجي في مواجهة الإمبراطور والبابا لتحقيق تفوقها الداخلي على أمراء الإقطاع.

وارتبطت فكرة السيادة بالمفكر الفرنسي "جان بودان" الذي أخرج سنة 1577م كتابه (الكتب الستة للجمهورية)، وتضمّن نظرية السيادة.

وقد قرر ميثاق الأمم المتحدة مبدأ المساواة في السيادة بأن تكون كل دولة متساوية من حيث التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات مع الدول الأخرى بغض النظر عن أصلها ومساحتها وشكل حكومتها، إلا أن الدول الخمس العظمى احتفظت لنفسها بسلطات، ناقضة بذلك مبدأ المساواة في السيادة، وقد حل محل كلمة السيادة في العرف الحديث لفظ استقلال الدولة.

بالتالي فالظروف التي نشأت بسببها نظرية السيادة بالمفهوم الغربي ليست كالظروف التي مرت بها الدولة الإسلامية، فلا يمكننا أن نأتي بتلك النظرية ونطبقها بكل ما فيها على الدولة الإسلامية، أو أن نُعد عدم وجودها لدينا نقصاً، فقد توجد لدينا الفكرة ولكن بشكل آخر، أو لا توجد أصلاً استغناءً عنها بأنظمة وقواعد عامة في الشريعة الربانية ليست عندهم.

السيادة في الدولة الإسلامية ..

بعد معرفة مفهوم السيادة ونشأتها، بقي معرفة من يملك السيادة في الدولة الإسلامية، هل هو الحاكم أو الأمة أو غيرهم، حيث ذهب البعض أن السيادة تكون للأمة واستدل بالنصوص التي تخاطب الأمة بمجموعها بمبدأ الشورى في الإسلام .. وهذا مردود لأمرين:

الأول .. لأنه يعني إمكان التنازل عن السيادة

الثاني .. لأن السيادة سلطة غير مقيدة.

فالأدلة الشرعية حددت الإطار العام لكافة التصرفات سواء أكانت صادرة من الحكام أم المحكومين، فالكل خاضع لها وملزم بطاعة أحكامها، فالشريعة حاكمة لغيرها ولا يجوز تجاوزها أو إلغاؤها أو تبديلها أو تعديلها.

فالسيادة في الدولة الإسلامية لله عز وجل، فالتشريع له وحده سبحانه، وهذه السيادة متمثلة في كتاب الله وسنّة عترة بيته، والدولة الإسلامية إنما تستمد سيادتها من خلال التزامها بالأحكام الشرعية وتنفيذها لها وللأمة بعد ذلك حق تولية الإمام ومحاسبته وعزله ومراقبة السلطة الحاكمة في التزامها حدود الله وليس لها ولا للسلطة الحاكمة الحق في العدول عن شريعة الله.

"فلا عبادة إلا لله، ولا طاعة إلا لله ولمن يعمل بأمره وشرعه، فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه .. فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان، ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد (الله) .. فهذا هو معنى الإيمان بالله.. ومن ثم ينطلق الإنسان حراَ إزاء كل من عدا الله، طليقًا من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله، عزيزًا على كل أحد إلا بسلطان من الله.

وقد ذهب البعض إلى تقسيم السيادة إلى قسمين ..

- السيادة المطلقة وهي لا تكون إلا لله عز

- السيادة النسبية وهي تكون للأمة ضمن حدود أحكام الشريعة الإسلامية.

فإذا كانت بعض الدول الحديثة تعتز بأنها تلتزم بسيادة القانون والتمسك بالدستور، فإن الدولة الإسلامية تلتزم بالشرع، ولا تخرج عنه، وهو قانونها الذي يلزمها العمل به والرجوع إليه، حتى تستحق قبول الناس.

مظاهر السيادة في الدولة ..

بعد الحديث عن مفهوم السيادة ونشأتها فمن المهم بيان مظاهرها، وللسيادة مظهران ..

- الأول .. المظهر الخارجي

ويكون بتنظيم علاقاتها مع الدول الأخرى في ضوء أنظمتها الداخلية، وحريتها في إدارة شؤونها الخارجية، وتحديد علاقاتها بغيرها من الدول وحريتها بالتعاقد معها، وحقها في إعلان الحرب أو التزام الحياد.

والسيادة الخارجية مصطلح مرادف للاستقلال السياسي، ومقتضاه عدم خضوع الدولة صاحبة السيادة لأية دولة أجنبية، والمساواة بين جميع الدول أصحاب السيادة، فتنظيم العلاقات الخارجية يكون على أساس من الاستقلال، وهي تعطي الدولة الحق في تمثيل الأمة والدخول باسمها في علاقات مع الأمم الأخرى.

ومما ينبغي الإشارة إليه أن هذا المظهر لا يعني أن تكون سلطتها عليا، بل المراد أنها تقف على قدم المساواة مع غيرها من الدول ذات السيادة، ولا يمنع هذا من ارتباطها وتقييدها بالتزامات أو معاهدات دولية مع غيرها من الدول.

- الثاني .. المظهر الداخلي

ويكون ببسط سلطانها على إقليمها وولاياتها، وبسط سلطانها على كل الرعايا وتطبيق أنظمتها عليهم جميعاً، لكن الدولة الإسلامية ووفقاً للأحكام الشرعية تمنح الذميين حق تطبيق أحكامهم الخاصة في جانب حياتهم الأسرية، إلا أن هذا لا يكون امتيازاً لهم ولا يُقيد أو يحُد من سلطان الدولة أو سيادتها، فلا ينبغي أن يوجد داخل الدولة سلطة أخرى أقوى من سلطة الدولة .. وينبغي أن تكون سلطة الدولة على سكانها سامية وشاملة، وألا تعلو عليها سلطة أخرى أو تنافسها في فرض إرادتها.

وكلا المظهرين في الدولة مرتبط بالآخر، فسيادتها الخارجية هي شرط سيادتها الداخلية.

وهذه المظاهر للسيادة سواء أكانت في الخارج أم الداخل أقرها الإسلام وفقاً للأحكام الشرعية، فعلى صعيد السيادة الخارجية ينبغي أن تكون للدولة الإسلامية هيبتها ومكانتها بين الدول وألا تتبع أو تخضع لغيرها .. وما مسألة تطبيق الأحكام الإسلامية على المسلمين والذميين أينما وجدوا ما هي إلا مظهر من مظاهر سيادة الدولة الإسلامية على رعاياها.

وتنقسم الدول من جهة السيادة إلى قسمين ..

- القسم الأول .. دول ذات سيادة كاملة لا تخضع ولا تتبع في شؤونها الداخلية أو الخارجية لرقابة أو سيطرة من دولة أخرى، ولها مطلق الحرية في وضع دستورها أو تعديله.

- القسم الثاني .. دول منقوصة السيادة لا تتمتع بالاختصاصات الأساسية للدولة لخضوعها لدولة أخرى أو تبعيتها لهيئة دولية تشاطرها بعض الاختصاصات، كالدول التي توضع تحت الحماية أو الانتداب أو الوصاية وكالدول المستعمرة او المحتلة.

وهذا الاستقلال أو التبعية لا يؤثران على وجود الدولة الفعلي، وهو ليس تقسيماً مؤبداً بل هو قابل للتغيير والتبديل تبعاً لتغير ظروف كل دولة.

مفهوم السيادة ..

السيادة هي التي تعمل على احتكار السيطرة السياسيّة في إقليمٍ معيّن، إضافةً لاحتكارها التبعيّة ووسائل السيطرة، ولو كان هذا الأمر بالإكراه المشروع. ومن وجهة نظر الفقهاء، فإن السيادة هي ما تميّز الدولة عن غيرها من الأشخاص (العامة)، وفي مقدمتهم عناصر الإدارة المحليّة.

وهناك تعريف آخر للسيادة، وهي الصلاحيّات التي تمنح الدولة حق السيطرة ضمن النظام الإقليمي لها، كالحفاظ على الأمن وحماية الحقوق وغيرها.

مبدأ سيادة الدولة هو مُصطلح غاية في الأهميّة في علم السياسة والقانون الدولي العام، إذ أشار لهذا المفهوم فلاسفة اليونان بشئٍ من الغموض، إلّا أنّه قد أخذ بالتطوّر عن طريق تطوّر العلوم والتاريخ والحضارات.

لقد كانت فيما مضى السيادة مُطلقة، ولكن خلال الحربين العالميتين، الأولى والثانية أضحت هذه السيادة مقيّدة بشكلٍ نسبي لتغيُّر ميزان القوى العالميّة، والتي كان لها بالغ الأثر على السيادةِ القوميّة، حيث إنها قامت بإخراجها من عزلتها الأزليّة القديمة والثابتة، ومن هنا وجب على مفهوم السيادة مواجهة العديد من التحديات المعقدة، وعلى رأسها الظروف الدوليّة التي أصبحت بالنسبة لجميع الدول سواء الصغيرة أو المتوسطة ضرورة للانطواء تحت حماية تنظيمٍ دوليّ، يقوم على صون سيادتها ورعاية حقوقها، إضافة لهذا فإن هذه الظروف الدوليّة عملت على التضحية بجزءٍ من هذه السيادة في سبيل إحلال السلام والأمن.

نبذة تاريخيّة عن السيادة ..

أُعيدت السيادة قديماً إلى الذّات الإلهيّة، على أساس أنّ عناية الإله قامت بإيداع عنصر السيادة للسلطةِ القائمة، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، تحت لواء نظريّة (الحق الإلهي).

ففي القرن السادس عشر ظهرت النظريّات الديمقراطيّة، وأدى ظهورها إلى إرجاع عنصر السيادة إلى إرادة الأمّة، حيث كان الحُكّام يُمارسون السيادة باسم الشعوب التي لها السيادة في الأصل، وقد تجسّد هذا الأمر في العديد من الدساتير الحديثة، كالدستور الفرنسي الذي جاء فيه: إنّ السيادة الوطنيّة تنتمي إلى الشعب الذي يُمارسها عن طريق ممثليه، وعن طريق الاستفتاء العام.

لعبت الأمم المتحدة إبان الحرب العالميّة الثانية دوراً هاماً في وضع القيود على سيادة الدول في ضوء حدودٍ مرسومة في ميثاق الأمم المتحدة، فقد أَلزمَت الدول على تحقيق كافة الغايات المرجوة من ميثاق الأمم، إذ إنّ هذه القيود تُسهم في جعل ميثاق الأمم هو القاعدة الدستوريّة العليا والتي تتمتع بالصّدارة والسموّ على دساتير كافة الدول الأعضاء.

أنواع السيادة ..

السيادة أنواع هي:

- سيادة مطلقة

- سيادة بحكم الواقع والقانون

- سيادة داخليّة

- سيادة خارجيّة

وهنا في سياق الحديث عن الصبغة الشمولية للسيادة، تجدر الإشارة إلى أن للسيادة تقسيمات متباينة، ولكنها في ذات الوقت متكاملة، فالسيادة الخارجية التي يكثُر الحديث عنها في العراق خصوصاً تعني عدم خضوع الدولة لأيّةِ جهةٍ أو سلطةٍ خارجية أو  دولة أجنبية أو هيئة دولية، أي تمتّعها باستقلالها وبحق تقرير مصيرها وبحرّية قرارها و سيادة مواقفها.

الفرق بين السيادة والسلطة ..

ببساطة .. إذا سُلبت إرادة الدولة وصار تسييرها بيد الغير، تُصبح دولة مسلوبة الإرادة، وإذا سيّرت إرادتها بنفسها كانت دولة سيداً ذات سيادة .. أما السلطة فهي ممارسة الحكم والقضاء.

أن السيادة تشمل تسيير الإرادة وتسيير التنفيذ، بينما السلطة تختص فقط بالتنفيذ ولا تشمل الإرادة.

أما الفرق بين السيادة والسلطة بين مفهوم الغرب ومفهوم المسلمين .. فإن الغرب توصل إلى نظريتي السيادة للأمة، والأمة مصدر السلطات، بعد صراعٍ دامٍ اجتاح أوروبا في القرون الوسطى واستمر عدة قرون، حيث كانت تُحكم من قبل ملوك يستعبدون الناس تحت إطار نظرية الحق الإلهي، وهي أن للملك حقاً إلهياً على الشعب، وبحكم هذا الحق يملك الملك السلطة والتشريع والقضاء ولا حق للشعب في هذه الأمور، والناس عبيد لا رأي لهم ولا إرادة، وإنما عليهم التنفيذ والطاعة، والظلم والاستبداد الذي يطال الأمة يأتي مما يتمتع به الملوك من حق التشريع وحق السلطة، فضجّ الناس وقامت الثورات وبرزت نظريات متعددة للقضاء على نظرية الحق الإلهي وإلغائها، فكان أن برزت هاتان النظريتان عند الغرب. وتوصلوا إلى أن الشعب يجب أن يسير إرادته بنفسه لأنه ليس عبداً للملك، بل هو حرّ، وما دام الشعب هو السيد فهو الذي يملك التشريع والتنفيذ، ونجحت هذه الفكرة بعد صراع دامي، ووجدت المجالس النيابية (البرلمانات) لتنوب عن الأمة بمباشرة السيادة، فقالوا مجلس النواب سيد نفسه، فنظرية السيادة للأمة معناها أن الأمة تملك تسيير إرادتها وتملك تنفيذ هذه الإرادة.

أما نظرية الأمة مصدر السلطات معناها أن الأمة هي التي تُنيب الحاكم عنها ليحكم باسمها، سواء كان الحاكم منفذاً (سلطة تنفيذية) أم قاضياً (سلطة قضائية) فكلاهما حاكم وكل منهما سلطة.

ولما كانت الأمة تستطيع مباشرة تسيير الإرادة أي تستطيع التشريع فإنها تباشره بنفسها بواسطة نواب عنها، ولذلك كان التشريع للأمة، ومن هنا لا يقال إن الأمة مصدر التشريع، بل يقال إن التشريع للأمة لأنها هي التي تباشره بنفسها .. أما السلطة فإن الأمة لا تستطيع مباشرتها بنفسها لتعذر ذلك عملياً، ومن هنا لم تكن السلطة للأمة بل السلطة يباشرها مُخوّل بتفويض من الأمة ونيابة عنها، فكانت بذلك الامة هي المصدر للسلطة، أي هي التي تعطي السلطة لمن تنيبه عنها، تماماً كما ينيب السيد عبده، لينفذ ما يريد منه تنفيذه حسب إرادته، وكذلك الحاكم .

وهذا الواقع للأمة في الغرب من حيث كونها سيدة نفسها يخالف واقع مفهوم الأمة الإسلامية، فالأمة الإسلامية مأمورة بأن تسيّر جميع أعمالها بأحكام الشرع، فالمسلم عبدٌ لله، فهو لا يسيّر إرادته ولا ينفذ ما يريد، وإنما يسيّر إرادته بأوامر الله ونواهيه، ولكنه هو المنفذ، ولذلك فإن السيادة ليست للأمة وإنما هي للشرع، أما التنفيذ فهو للأمة، ولذلك كانت السلطة للأمة، أما السيادة فهي للشرع.

ولما كانت الأمة عملياً لا تستطيع مباشرة السلطة بنفسها، لذلك لا بد لها أن تنيب عنها من يباشرها .. وهنا جاء الشرع وعين كيفية مباشرتها له بالبيعة ونظام الخلافة فكانت السلطة للأمة تختار برضاها من يباشرها عنها، ولكن حسب أحكام الشرع، أي ليس بحسب إرادتها بل حسب شرع الله.

ثوابت السيادة وخصائصها ..

1 – أنَّ السيادة دستورية و قانونية، أي أنَّها مُدَوَّنة و مُوَثَّقة في نصوص مُلزمة لجميع السُكَّان، قادةً ورعيةَ، المُتواجدين داخل البلاد أو خارجها، إذ يكادُ لا يخلو دستورٌ من الدساتير  المُعتمدة في جميع دول العالم من التنصيص بلغة صريحة على السيادة.

2 – أنَّ السيادة سامية و شاملة، أي أنَّها لا تستثني أحدًا أو مجموعةً أو طائفةً من السُكَّان والمُقيمين من غير رعاياها، باستثناء الدبلوماسيين وموظَّفي الهيئات والمنظمات الدولية، و هي تستوجب الطاعة واحترام القانون من الجميع.

3 – أنَّ السيادة مُطلقة و عامَّة، بمعنى أنْ لا سُلطة ولا هيئة أعلى منها داخليًا و خارجيًا. وهذه رُبّما هي أعلى و أدق خصائص السيادة ومُميّزاتها إذ منها تتفرَّعُ السيادات الأخرى.

4 – أنَّ السيادة دائمة و مُستمرَّة، أي أنَّها لا تخُص جيلاً أو فترةً أو زمنًا دون ما سبق ودون ما سيلي، وهي تدوم بدوام الدولة وتزول بزوالها، فالحكومات و الهياكل تتغيَّر، والدولة تبقى.

5 – أنَّ السيادة غير قابلة للتصرُّف والاجتهاد و لا يُمكن التنازُل عنها جزئيًا أو كلِّيًا أو تجزئتُها، وذلك ما يعني أنَّه لا توجدُ في الدولة الواحدة سوى سيادةٍ واحدة، وليس للنظام الفدرالي، على سبيل الذكر، أيُّ تأثيرٍ على هذه الخاصّية، اعتبارًا بأنَّ السيادة قائمةٌ بذاتها و تشمل كافة الأقاليم و الولايات والمُقاطعات.

6 – أنَّ السيادة مُهيكلة و مُراقبة، إذ أنَّها تخضع لضوابط و حدود يفرِضُها القانون ويسهرُ على احترامها مُمثّلو الشعب (السلطة التشريعية) و كذلك الساهرون على مراقبة القوانين والتشريعات و تطبيقها – المجلس أو الهيئة الدستورية والسلطة القضائية.

7 – أنَّ السيادة لا تتناقض مع ما تتمتَّع به من استقلالية و حياد بعضُ الهيئات وأغلبُ المُنظَّمات و الجمعيات، وحتَّى بعض المُؤسسات (مثل البنك المركزي). فهذه الهياكل على تنوُّعها واختلاف مهامِّها و صيغِها لا يُمكن لها أن تنشط خارج القانون، أي أن تتهرَّب من سلطة الدولة وأن لا تحترم سيادتَها، وإن كان لدينا بعض الأمثلة التي تُبيِّنُ عكس ذلك، وهي حالات نادرة و شاذّة، و الشاذ يُحفظ ولا يُقاسُ عليه.

أصناف السيادة ..

تُعتبر الدولة كاملةَ السيادة إذا كانت تتمتَّعُ بكامل مقوّمات سياستها و خياراتها في الداخل والخارج، وإذا كانت لها الحرّية المُطلقة في إقامة علاقات أو عدم إقامتها أو تجميدها أو قطعها مع كافة الدول الأخرى، ومع المنظمات الجهوية و الإقليمية و القارّية والدولية على اختلاف أنواعها. ومن خلال إلقاء نظرة سريعة على تاريخ الأمم والشعوب، يُمكن تصنيف الدول ناقصة السيادة (مقارنةً بالدول كاملة السيادة) إلى خمسة أصناف .. بعضها لا يزال قائمًا إلى اليوم وبعضها الآخر اضمحَلَّ أو انتهى العمل به .. وهذه الأصناف هي :

1 – الدول التابعة ..

أي الدّول التي خضعت خلال فترة من تاريخها إلى إحتلال سلطة دول أخرى في مجالي العلاقات الخارجية والأمن، وفي بعض الأحيان في كامل أو مُعظمِ صلاحياتها الداخلية الأخرى أيضا، وهو ما كانت عليه مثلاً الدول التابعة للسلطنة العثمانية.

2 – الدول المحمية ..

أي التي وُضعت لفترة ما تحت حماية دولة أخرى، إمَّا بمقتضى اتفاقية دولية أو بمقتضى اتفاقية ثنائية، وهي اتّفاقيات غالبا ما تكون مفروضة.

3 – الدول الموضوعة تحت الانتداب ..

وهو نظام ظهر بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ليُطَبَّقَ مؤقَّتًا من قبل الدول المنتصرة على الدويلات أو الأقاليم و الأراضي التي انفصلت عن السلطنة العثمانية، أو التي تحرَّرت من الاحتلال من طرف إحدى القوى المُنهزمة.

4 – الدول تحت الوصاية ..

وتشمل الدول والأقاليم التي كانت تحت نظام الانتداب و الأقاليم التي تمَّ اقتطاعُها من الدول المنهزمة خلال الحرب العالمية الثانية لتُوضع تحت نظام جديد مؤقت بإشراف أممي.

5 – الدول المُحايدة ..

أي التي اختارت عدم المشاركة في الحروب والنزاعات، حتى تلك التي تدور رحاها غير بعيد عن حدودها، كما اختارت عدم الدخول في أحلاف أو معاهدات، وهي في الحقيقة دول ليست ناقصة السيادة بأتمِّ معنى الكلمة، اعتبارًا بأنَّها اختارت التخلّي عن بعض حقوقها طوعًا.

و يُمكن أن نظيف إلى هذه الأصناف الدول التي لم يتحدَّد مصيرُها لحدِّ الان، والتي ليست لها سيادة و لم يُعترف بها عالميًا وبالإجماع كدولة فلسطين، كما يُمكن أن نُظيف بعض الأنظمة التي هي في ظاهرِها و قانونيا مُستقلَّة وذات سياسة، لكن في باطنها وفي الواقع هي مُنتمية إلى إحدى الأصناف الخمسة المذكورة آنفًا.

السيادة والعولمة ..

مُصطلح « العولمة » الذي هو ترجمة لكلمة Globalization الانگليزية، ثُمَّ تُرجم إلى الفرنسية فأصبح   Globalisation أو Mondialisation ، يعني في الأصل « تعميم الشيء و اكتسابه الصبغة العالمية وتوسيع دائرته ليشمل العالم كلِّه. والعولمة بهذا المعنى تعني أنَّ الاقتصاد والتجارة والاتّصال، وعمومًا جميع أوجه الحياة و جميع مجالات النشاط، لم تعُد لها حدود جغرافية، وهي تعني كذلك أنَّ التكتّلات الكبرى (كالاتحاد الأوروبي، والاتّحادات القارّية الأخرى، و منظَّمة التجارة الدولية، والمؤسسات المالية والمصرفية الدولية، والشركات العملاقة ومتعددة الجنسيات ، وكذلك أغلب الدول العظمى، وفي مقدّمتها الولايات المُتَّحدة منذ نهاية القُطبية الثُّنائية، أصبحت في وضعية شبه أعلى وشبه أسمى من الدول و من الأنظمة القائمة، أي أنَّها أضحت لا تُقيم وزنًا للسياسات الوطنية، فنتج عن ذلك أنْ صارت سلطة الدول، أي سيادتُها كما تمَّ التعريف بها في ما سبق، محدودة، أو هي على الأقل غير مُطلقة وغير سامية وغير شاملة وغير كاملة وغير مُستمرَّة (إشارة إلى الخصائص المذكورة آنفًا باستعمال نفس النعوت)، كما أضحى القرار الوطني (في البداية في المجالات الاقتصادية والتجارية فحسب، لكنَّه اليوم أصبح يطالُ المجالات السياسية) غير مستقل و غير سيادي. وهذا التقويض وهذا التآكُل اللذان أخذا طريقاً ليس فيها رجعة، لم يمسَّا جانب العلاقات الخارجية من مكوّنات السيادة الوطنية فحسب، بل هُما بدءاً يتسلَّطان على السياسة الداخلية للدول، وبالخصوص الضعيفة و المتوسّطة منها. وقد كانت أولى الذرائع لانتهاك سيادة الدول في إطار « العولمة » ما سُمّْي « مبدأ التدخُّل الإنساني » (Intervention humanitaire)، ثمَّ « حقّ التدخُّل » ، الذي تطوَّر ليُصبح « واجب التدخُّل » ، و هو ما أدَّى في النهاية إلى مراجعة و تعديل مفهوم سيادة الدولة بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان وحمايتها، كما أدَّى إلى تسييس التحرّكات الإنسانية و مواقف المساندة و التعاطف، لاستعمالها ذريعةً للضغط على بعض الدول و الأنظمة دون غيرها.

هذا الطرح يجرنا حتمًا إلى التساؤل : هل أنَّ نظام « العولمة » أدَّى اليوم إلى إرساء « سوق حرّة » للأفكار و المواقف و الخيارات، وأسقط بذلك الحواجز و الدروع التي كانت عديد الدول تحتمي بها بحجة صيانة حرّية قرارها والذود عن سيادتها ؟

وهل أدخلت العولمة ارتباكاً على مراكز القرار الوطنية، فأصبحت تُخضِعُ الدول والأنظمة إلى قواعد عمل جديدة ونُظم إشراف ورقابة وتفتيش فوق وطنية (supranationales)، وذلك من خلال تزايد جماعات الضغط العابرة للقارَّات، وعجز الدول على السيطرة على مكوّنات سيادتها و دعائمها؟

بناءً على ماسبق الإشارة إليه، يحقُّ لأي انسان أن يتساءل، و بكلّ هدوءٍ ورصانة، هل أنَّ أركان السيادة وخصائصها بمفهومها الداخلي والخارجي متوفّرة في مجموعة البلدان التي ننتمي إليها ؟

وهل أنَّ قرارات هذه المجموعة، التي تخصّ الشأن الداخلي والبعض من المواقف على صعيد العلاقات الدبلوماسية، مستقلّة وسيادية كما تُريدها قياداتُها وشعوبها؟

وهل أنَّ العولمة و نوعية العلاقات الجيوستراتيجية التي أصبحت تقودُ العالم اليوم هي الوحيدة المُتسبّبة في تقلُّص سيادة الدول .. أم أنَّ هناك ضغوطاً و إكراهات أخرى مُسلَّطة ولا طائل لأيٍّ كان للتصدّي إليها أو للتهرُّب منها.

والله الموفق والمستعان .

 

رؤية لـ / د. نبيل أحمد الأمير

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم