صحيفة المثقف

مُراجعة لكتاب الفيلسوف فيتوريو هوزله: الأخلاق والسياسة

بشار الزبيديبقلم: جوزيف شبندلبوك

ترجمة: بشار الزبيدي


قبل وقت قصير من مطلع الألفية، قدم فيتوريو هوزله أستاذ الفلسفة في جامعة إسن، المولود في عام 1960، مشروعًا حول الفلسفة السياسية، بالأحرى حول "الأخلاقيات السياسية للقرن الحادي والعشرين". يُمكن للمرء بعد قراءة هذا العمل العلمي القيم الذي يقع في 1216 صفحة (بما في ذلك قائمة المراجع والفهرس)؛ معرفة التطلعات والحاجة المُلِحة الكبيرة لهذا المشروع وما إذا كان المُؤلف قد فك رهن المهمة التي وضعها على عاتقه مع آخرين.

مُنذ البداية كان يتعين على الكاتب أن لا يقلل من شأن مشروع الأخلاقيات السياسية. فقد أدرك هوزله أنه بدون "الأساس المعياري" وتوضيح"الخطوط الأساسية لنظرية اجتماعية"، لا يمكن إنجاز مشروع "الأخلاقيات السياسية" .بالإضافة إلى ذلك، وبسبب تعقيد المسألة، فلا بد له أن يضفي الشرعية على مجموعة متنوعة من الأساليب: وإلى جانب الطريقة الفلسفية في التساؤل والتحليل والتقييم، فهو يعتمد على الدراسات التاريخية،والعلوم الاجتماعية المختلفة والعلوم التجريبية.

يواجه الفيلسوف السياسي بطريقة ما مُهمة غير قابلة للحل فيما يتعلق بأخلاقيات السياسة: عليه أن يقوم بتأمل أساسي في مبادئ الوجود والفكر وكذلك حول التبرير المعياري للمبادئ الأخلاقية مُسبقاً؛ عليه أن يعرف الخلفية التاريخية للمُشكلة ويُخضع العلوم المعنية لتحليل نقدي وتقييم في ادعاءاها ومنهجها وتشابكها، من أجل تحديد الموقع الفعلي للاستجواب الأخلاقي الفلسفي في المجال السياسي.

إذا حاول عالم الأخلاقيات السياسية نتيجة لذلك شرح "الخطوط الأساسية لنظرية اجتماعية"، فلن يضطر إلى تجاوز الأسئلة الأنثروبولوجية، ولا سيما التحليل التفصيلي لطبيعة وظواهر السلطة في مُختلف أشكال السلطة. من دون مفهوم واضح للدولة ومعرفة بتاريخها التطوري حتى الوقت الحاضر، فلا يُمكنه أن يفي بمتطلبات الأخلاقيات السياسية للقرن الحادي والعشرين.

1697  بشارأخذ هوزله هذا الأفق الشامل في الاعتبار منذ البداية، ولهذا السبب تكمن قوة هذا الكتاب في امتلاكه الجرأة لـــ رؤية شاملة، والتي يٌمكن من خلالها مواصلة العمل. وبالتالي، يمكن من حيث المبدأ تنقيح النتائج المُتعلقة بالجوانب الفردية وتوسيعها وفقاً لحالة العلم الراهنة. كما يُدرك المؤلف أنه لا يمكن رسم الكثير إلا بطريقة مبدئية؛ لكنه يقبل هذا الخطر، لأن الفلسفة السياسية موجهة نحو العمل، الذي يجب أن يتعامل مع اليقينيات الأخلاقية والشكوك بطريقة مسؤولة أخلاقيًا. فاللحظة التاريخية المعنية التي تُتخذ، تتطلب قرارات يكون الضمير مسؤولاً عنها على أساس المعرفة المعيارية والتأملات. وتساهم الأخلاقيات السياسية مُساهمة كبيرة في ذلك.

إذا كانت الفلسفة هي "حب الحكمة" وينبغي أن تتمسك بإمكانية معرفة الحقيقة الموضوعية، فإن هذا الكتاب لا يشيد بأي حال من الأحوال بالعشوائية المتشككة واللاأدرية (الأغنوستية) لما بعد الحداثة. تلتزم أخلاقايات المؤلف بالحقيقة والمعرفىة الدائمة للمؤلفين الكلاسيكيين مثل أفلاطون وأرسطو وأوغسطين وتوماس الأكويني، وفي الوقت نفسه منفتحة على رؤى المفكرين اللاحقين. ويتجلى ذلك بشكل خاص في مرافعة هوزله من أجل "أخلاق مادية عالمية... التي تلعب فيها السلع والقيم دورًا" وفي هذا المنظور تحظى شكلانية كانط الأخلاقية بالتقدير (حيث أن موقف كانط "يعترف ببعض الحقوق الأساسية لكل فرد، والتي لا يجوز التضحية بها تحت أي ظرف من الظروفة لصالح الآخرين"، ولكن في الوقت نفسه يتم تجاوزها من خلال "الرجوع إلى ميتافيزيقيا أكثر شمولية للطبيعة" وفضها بالمعنى الهيغلي.

ما هي أهم البيانات والنتائج "للأخلاقيات السياسية" بالمعنى الدقيق؟ في فصل "الدولة العادلة"، يرى هوزله أن المُهمة الأخلاقية الحقيقية للأخلاقيات السياسية هي "تطوير الدولة، وليس التخلي عن حيزها".

يلتزم المؤلف بقانون طبيعي مادي يستند إلى العقل "كتجسيد لتلك المعايير التي يمكن أو ينبغي تطبيقها لأسباب أخلاقية عن طريق الإكراه، شريطة ألا تكون غير مُناسبة". وفي حالة التخلي التام عن "القانون الطبيعي"، لن يكون هناك مقياس يسمح بالنقد الموضوعي للقانون الوضعي على مستوى عقلانية القيم، ولا يمكن حل مُشكلة صحة القوانين إلا بطريقة دورية أو تناقضية ذاتية. ويجب أن يُفهم القانون الطبيعي على أنه مجموعة فرعية حقيقية من الأخلاق، التي هي في حد ذاتها "غير مُحددة زمنيًا" كما أن معرفتها وإدراكها من قبل البشر محدد زمنيًا". إذن ما هو التطور الملموس لنظام القانون الطبيعي؟

أن جميع الأشخاص الحاصلين على حقوقهم هم اشخاص واقعيين "لأن كل واحد منهم يعبر عن شيئ مُطلق ". وفي ضوء حالة الإجهاض الممكن قانوناً والممارس على نطاق واسع، يجب على المرء أن يكون ممتنا لــ هوزله لحقيقة أنه يذكر، أن الأشخاص "المحتملين" (مثل الأطفال البشريين والأجنة والأجنة الحية) هم أيضاً كيانات قانونية، "يجب حماية حياتهم وسلامتهم الجسدية" وإن كانت هناك ضبابية اصطلاحية فيما يتعلق بمفهوم الإمكانات وفيما يتعلق بحاملي الحقوق.. وعلاوة على ذلك، يمثل هوزله شرعية الدفاع المشروط وحقوق الأداء للأجيال القادمة والحقوق (غير الشخصية) للكائنات العضوية (أي الحيوانات والنباتات). وهو بذلك يدعوا إلى "دولة بيئية" لا تقوم على أي أساس فيزيائي - مركزي، بل على وضع تفضيلي لحياة الكائنات العقلانية مقابل القيم الأخرى.

حسب هوزله لا يمكن للمرء أن يوافق من وجهة نظر لاهوتية أخلاقية مسيحية على الحجة الضعيفة لصالح "احترام أخلاقي للمثلية الجنسية " بسبب الصلة غير الضرورية بين إنجاب الأطفال والتفاني الجنسي حتى في إطار الزواج ولصالح قبول الزواج بين الناس من نفس الجنس "لغرض الحد من الاختلاطية الجنسية". وفيما يتعلق بوسائل تحديد النسل المسموح بها أخلاقياً، تنشأ مُشكلة مماثلة فيما يتعلق باتساق آراء هوزله مع التعاليم المسيحية: فـي رفض قتل الأطفال والإجهاض ومثبطات البويضات، "ولكن جميع الوسائل الأخرى مسموح بها أخلاقيًا، بما في ذلك الوسائل التي لا يمكن التراجع عنها كالتعقيم (سلب القدرة على الإنجاب)، ولا سيما بعد ولادة الطفل الثاني". وفي الحالة القصوى، كان لمجتمع الدولة حتى "الحق في إجبار الآباء على عدم إنجاب المزيد من الأطفال في العالم"، وهو ما يمكن أن يشمل التعقيم القسري بسبب إخضاع الحق في الإنجاب لصالح الحق في الحياة. ولا يمكن للجانب الكاثوليكي أن يتقبل هذه الآراء.

إن تمييز هوزله وتقييمه لدولة الرفاه الاجتماعية أمر لافت للنظر: "ينبغي أن تكون الدولة العادلة دولة رفاهية، أي السعي إلى التغلب على الفقر المطلق وأوجه عدم المساواة التي تهدد السوق والديمقراطية؛ ولكن لا حاجة إلى تكون دولة الرفاه إذا كان ذلك يعني تعزيز الازدهار المتزايد باطراد". ويقدم "اقتصاد التوازن" الواسع، لأسباب بيئية وبسبب تجنب تلك الاضطرابات الداخلية التي "تجعل البحث عن قيم غير مادية عليا أمراً صعبًا"

كما ينجح هوزله بالوصول إلى تقييم إيجابي لأهمية الأديان ومهمتها للدولة والمجتمع، وكذلك لأخلاقيات دولية في خدمة السلام: "فهي تسمح للشعور بالطبيعة المطلقة للقانون الأخلاقي، الذي تشكل المجموعة الفرعية منه القانون الطبيعي، حتى لو بقيت مهمة الفلسفة والعلم لإثبات هذا الشعور حول نظام قانون العقل والمعايير الأكثر ملاءمة". لأنه، كما كشف Böckenförde بشكل صريح، فإن الدولة الليبرالية العلمانية هي التي تعيش على شروط مسبقة لا يمكنها أن تضمن حتى نفسها. وهكذا، وعلى الرغم من تقييد الأسلوب الفلسفي، فإن أخلاقيات هوزله السياسية الحالية تُظهِر انفتاحاً جوهريًا للتعالي والدين، وأيضاً في المظاهر الملموسة للأديان والطوائف الفردية. هذا الشيء البديهي لا ينبغي أن يذهب دون ذكر في السياق الحالي للبحث الفلسفي.

 تقوم السياسة العادلة على المبادئ الأخلاقية في السياسة الداخلية والخارجية على حد سواء؛ إن التأكيد على هذا النموذج لا علاقة له بأخلاق السياسة. في مجال السياسة الداخلية، يتم تقديم "أخلاقيات الفضيلة" و"أخلاقيات الآداب "، للحق الوضعي في مفهومه وعلاقتهما مع بعضهما، قبل أن يسأل عن "الأخلاق الذاتية في الآداب غير الأخلاقية" وعن " المهام الأخلاقية الأساسية للسياسة ضمن إطار الأخلاق الثابتة، وفي أوقات الاضطرابات. أن النتائج المختلفة، على الرغم من المبادئ الأخلاقية المُشتركة، تنتج عن مختلف المتطلبات الواقعية الظرفية المختلفة فيما يتعلق بـ "أخلاق انتهاكات الحقوق في إطار أخلاق ثابتة". هنا يكمن أيضاً الموقع المنهجي لمناقشة الحق في مقاومة سلطة الدولة الظالمة. "المبادئ الأخلاقية للسياسة الخارجية" هدفها الرئيسي الحفاظ على السلام؛ ومع ذلك فإن الإجراءات المحددة المطلوبة تختلف أحيانًا في أوقات السلم والحرب. وعلى الرغم من الهدف المتمثل في إنهاء الحرب وحظرها بالكامل من خلال إنشاء هيئة عالمية دولية تعمل وفقا لمبدأ التبعية مع الحق في استخدام فرض العقوبات الصارمة، فلا يمكن استبعاد "الحرب العادلة" بالمعنى التقليدي للمصطلح حتى يتم تحقيقها بشكل فعال: "ما دام المجتمع الدولي غير قادر على ضمان وجود دولة، فإنه لا يُمكن أن يحرمها من الحق في الدفاع عن النفس واتخاذ التدابير اللازمة لذلك". ويجب إثبات معيار الدفاع العادل وإثباته فيما يتعلق بعدالة أسباب الحرب، وسياسة ما بعد الحرب.

يكتمل عمل المؤلف بـــ " أُسُس الأخلاقيات السياسية للقرن الحادي والعشرين". ويتناول هذا القانون "سياسات المنظمات الدولية" (الأمم المتحدة والأديان والاقتصاد،)، فضلاً عن السياسة الخارجية والمحلية مع مختلف المجالات الفرعية مثل سياسة الدفاع والتنمية، والبيئة، والسياسة الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن سياسة البحث والتعليم. إن أي شخص يتهم المؤلف هنا بالرغبة في تقديم وصفات مفصلة للغاية لطرق الخروج من الأزمة الحالية ويعتقد أن هذا الأمر لم يعد ضمن اختصاص الفيلسوف، عليه أن يعي بأن هوزله يجازف عمداً بهذا الضعف المُحتمل، لأنه يرى الفلسفة وخاصة الأخلاق الفلسفية، على الرغم من قيمتها النظرية، قائمة بشكل لا ينفصم عن المسؤولية الملموسة في الفرد وكذلك في الحياة الاجتماعية والسياسية. وهكذا، سيكون من غير الأخلاقي للغاية "حرمان سياسات النظام الفرعي التفاعلي السياسي الحالي... من قائمة الأولويات الأخلاقية ". وبالطبع فإن التنفيذ التفصيلي هو مُهمة سياسة محددة جدًا. ولم تُستمد سوى جملة رئيسية واحدة من هذا التحليل السياسي للحاضر: "التعاون بين الولايات المتحدة والأمم المتحدة هو المفصل الذي يدور حوله مستقبل العالم". وقد تحقق هذا مرة أخرى في الأسابيع والأشهر الأخيرة فيما يتعلق ببدائل الحلول السلمية أو القسرية للصراع في كوسوفو.

أن عمل هوزله الفلسفي الواسع حول الأخلاقيات السياسية واضح إلى حد كبير ومكتوب بشكل مثير للاهتمام. ويستحق هذا الجهد المبذول التقدير لعرضه التدريب على التفكير الفلسفي والأخلاقي، فضلاً عن الرؤى في السياقات والآفاق الجديدة. ويفضي الانفتاح متعدد المجالات فيه إلى آفاق هامة لجميع العلوم المهتمة بظاهرة السياسة. ومن المأمول ألا تضيع الأفكار الأساسية من التراث الأخلاقي المُشترك للبشرية، التي أُعرب عنها في هذا الكتاب مرة أخرى، وإنما يتم تحقيقها من خلال مسؤولية أكبر عدد ممكن من الأشخاص. وبذلك تُزال المحدودية الأيديولوجية. وفي هذا الصدد، يلتقي الاهتمام بالفلسفة الحقيقية بحثاً عن الحقيقة مع الإيمان الكاثوليكي، الذي لا يلغي الاستقلال النسبي للمعرفة فيما يتعلق بالإيمان، بل يطالب به ويضمنه.

 

.................................

معلومات عن الكاتب:

 (فيتوريو هوزله Vittorio Hösle) هو فيلسوف ألماني ولد في عام ١٩٦٠. درس الفلسفة، والتاريخ العام للعلوم، وعلوم اللغة. حصل عام ١٩٨٢ على الدكتوراه في جامعة توبنغن عن أطروحته "الحقيقة والتاريخ". دراسات حول بنية تاريخ الفلسفة في إطار تحليل نموذجي للتطور من بارمينيدس إلى أفلاطون". وهو مؤلف لعديد من الكتب في مواضيع المثالية الألمانية، وتاريخ الفلسفة، وأخلاقيات الخطاب والفلسفة العملية ويعمل حاليا في جامعة نوتر دام الأميركية. يجمع هوزله في فلسفته،بين "المثالية الموضوعية" ونظرية توافق الذوات، وهو نهج يحاول التوفيق بين الفلسفة المثالية التقليدية لأفلاطون وهيغل والفلسفة التي أرساها كارل أوتو أبيل.، وقد أعطى أساسا واسعا لمشروعه الضخم (الأخلاق والسياسة): "أسس الأخلاقيات السياسية للقرن الحادي والعشرين".

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم