صحيفة المثقف

من أقلامكم سُلَّط عليكم!

مجدي ابراهيمفي سنة 1998م، كنتُ أكتب لجريدة الأهرام المسائي بصورة دائمة، وبلا انقطاع، المقال تلو المقال، وبالتحديد في 10 يناير من تلك السّنة نشرتُ مما أعتز به هذا المقال الذي يُشْبِه نظام المقامات مسجوعة مقفاه، وينهج نهجها؛ لتجيء هذه الشكاية فتقول:

عجبتُ - وليعجب القارئ معي - لحملة الأقلام في هذا العصر .. وأي عجب! يوظفون أقلامهم فيما يشتهون ولا يطلقونها فيما يكرهون؛ فلربما عادت عليهم هذه الأخيرة بنكبات هى كالجبال وأودعتهم السجون وأودتهم وراء القضبان، لربما مَزَّقَتْ لديهم مصادر الرزق وقطعت بينهم الأرحام أو زعزعت الصداقات الزائفة والمصالح المشتركة .. لربما جعلتهم لا ينامون لا بالليل ولا بالنهار، ولا يقتاتون بقوت، ولا يشربون غير ما يُؤذيهم ويضرهم ويقلقهم، فلا يهنئون ولا يسلمون ..!

ما تعودوا -  يا صاح -  إلا على النفاق، وما تبينوا أنه الداء الفج العضال زادوا في المقت والضغينة على "المثل العليا" ودهسوا جميع الخصال، هاموا وراء الشهوات، وما اشتهوا شيئاً غير الملذات، وباتوا يطالبون بحق من حقوق الإنصاف، وهم أبعدُ خلق الله عن حق واحد من حقوقه الضائعات! كيف يجيء الإنصاف على سنان أقلام تعيش من فتات النفاق، وتتوهم أنه الأصل الأصيل في هذا الزمن اللعين: زمن القيم الساقطة، وزمن المنافقين والمنافقات، زمن كثرت فيه الدعاوى بغير حق، والمطالب بغير جهد، والغرور الكاذب والشطط الأهوج بغير عقال من وعي أو بصيرة هادية، والمكاسب غير المشروعة بدون عناء في السعي أو عناء في العمل.

ضاعت - ووا أسفاه - أخلاق القلم ..! وضاعت الحقوق بعد ضياع الواجبات! لو أن قلماً واحداً منصفاً طالب بحق من حقوقه لهام في وادٍ وهام عقلاء هذا الزمان في وادٍ آخر. ولو أن عقلاً واحداً فكر واهتدى ودَبّر وأصلح، لاحتجز في ركن ركين أو حصن حصين بعيداً عن عقول هذا الزمان .. الكلمة على أقلام هذا العصر ساقطة كاسدة مبتذلة، وضيعة هزيلة سقيمة، خبيثة منفرة باطلة؛ لأنها تخرج عن طرف اللسان ولا تصدر عن قلب مؤمن بصدق الكلمات، تخرج كذباً ونفاقاً ولا تمتزج بعصارة الروح أو فورة الوجدان. أقلام هذا العصر مبتورة المقاصد ومبتورة الأهداف؛ لأنها مبتسرة البواعث مبتسرة في العمق ونقطة الانطلاق. وخيالُ هذا العصر عاطل عن التصور المُجدي لا يسمح بحركة نافعة تقود إلى الإبداع. ورياء هذا العصر هو سيد الأخلاق غير منازع ! كتَّاب هذا العصر مهمون بــ "كرش" يشبع، وأوداج تنتفخ، وحديث هنا وهناك من أحاديث السَّمر على شاشات المرئيات حتى ضيعوا وأضاعوا ولم يطالبوا أنفسهم بأية واجبات! لن يفعلوا واجب القلم وإنْ فعلوه، ولن يمنعوا أيديهم عن التَّسوِّل بشرفه وإنْ منعوها، ولن يحجبوا عن أنفسهم آفات السقوط في إهدار الكرامة الأدبية وإنْ حجبوها. الكبير فيهم بلع الصغير، والمُحسن منهم تذرَّع بأسباب الخمول.

أيها السَّادة ..! أفعالكم رخيصة رغم أسمائكم العالية، وأقوالكم لا تتجاوز حناجركم رغم وجاهتكم البادية؛ فافعلوا الصدق - قولاً وكتابة - فإنه واجب القلم الصادق والضمير اليقظان؛ فإن لم تفعلوا، ولن تفعلوا ! فاتقوا العار الذي يلاحقكم في السَّر والجهارة.

وإذْ نجدهم - وأيم الله - مفتقرين إلى المنازع الروحيَّة والقيم الداخلية والأخلاق الباطنة، ومخمورين بعقال الدراهم المعدودة التي يُفَاء بها عليهم نظير ما يكتبون، لا يكتبون لأنهم كتّاب يحملون أمانة القلم ولكن يكتبون لأنهم مأجورون! وإذْ نجدهم - وأيم الله - أعمالهم ناقصة مبتورة، وأبحاثهم ضعيفة فقيرة - إنْ لم تكن مسروقة - ومقالاتهم موجهة ممَّن أمتلك ناصيتهم، وقد صاروا ألسنة بلا ضمائر، وأبواقاً بلا أرواح، وأقلاماً بلا مداد.

وإذْ نجدهم - وأيم الله - حَرَّفُوا اللغة لا طورها، وسطَّحوا عقولهم لا أعملوها، وعوجوا المفاهيم والقيم الباقية لتمسي رهينة ما يفهمون، ولا يزالون يحرِّفون ويُعوَّجُون. وإذْ نجدهم كذلك؛ كانت هذه الشكاية من مداد قلم يئن تحت وطأة ما يرى ويشهد تحللاً من الأخلاق؛ فيناجي وجيب قلبه ليقول: إن للقلم أخلاقه فاعتبروا يا أولي الألباب.

***

كان للاستعمار فضلٌ في تخريج جيل من حملة الأقلام يدفعون عن بلادهم بغى الاستعمار. أما الآن فلا استعمار فماذا ندفع إنْ لم ندفع عن أنفسنا بغي أنفسنا، وإنْ لم نجاهد "الجهاد الأكبر" الذي يصدق إذا عرفنا مواطن الداء، ويكذب إذا غابت عنا القدرة على مواجهة النفوس بما هو أقوى منها وأهل لمواجهتها؟ دفع البغي عن أنفسنا حكمة؛ إذْ الحكمة تقول:" ما كثر مَنْ كثره البغي، ولا قوى من قواه الظلم، ولا مَلَكَ من يملكه الغضب. وكم قدر مدة الأعمار مع هدم الليل والنهار! وعدو الإنسان من عمل عمله".

كان القلم في الأزمان الماضية يحرر الأمم من سيطرة الدخلاء المستعمرين. انظروا إلى مقالات "المهاتما غاندي" كيف ألجأت الإنجليز إلى التخلي عن الهند لمَّا عرفوا عزم الرجل وتصميمه على تحرير بلاده، أو انظروا إلى مقالات "جمال الدين الأفغاني"، والشيخ "محمد عبده" كيف ربَّتْ عقولاً، وهذَّبت ضمائر، وأرهفت أحاسيس، وقادت إلى ثورات فكرية مغيرة.

كانت أقلامهم من فورة الروح تنطلق، ومن معدن الخلود تملأ مدادها، ومن مصدر الثقة بالله والضمير تستمد قوتها وصدقها، فلا تؤذي غير الباطل ولا تقهر إلا الضلال. مداد جهادها مستمدٌ من معدن الحق ومعدن الإيمان بالحرية والعدالة والمساواة، وبجملة الأقانيم العلوية الخالدة، ولو لاقوا في سبيل هذا الجهاد عواقب تهدد مصالح الآباء والأبناء, وتشرد الأسر, وتقلق بال كل مسئول منحرف عن جادة الصواب.

انظروا كيف كانت حياة "عبد الله النديم" خطيب الثورة العرابية، وكيف بلغ به الدفاع عن قضية البلاد أن يتنكر ويتخَفّى ثم يتشرد من قطر إلى قطر، ومن بلد إلى بلد طالباً الأمان فِيِمَن لا أمان عنده إلا بجهاد النفس وضبط النزوات. لا بل انظروا إلى المعارك الأدبية والفكرية خلال عشرينيات هذا القرن وما بعدها. كان الرأي كرامة هو هو الرأي ولا سبيل إلى المهادنة، وكانت الزمالة والصداقة أو إنْ شئت قلت: "الشللية" ليست عائقاً في طريق الحق والكلمة الصادقة، كانت الغيرة على الفضائل الخلقية هى الذخيرة الباقية عند كتاب الأزمنة الماضية. أمّا اليوم؛ فلا أخلاق ولا غيرة حيث لا غيرة على قضية ولا وطن ولا عروبة ولا هدف ولا مبدأ إلا أن يكون شيئاً يخدم النفس وينأى عن خدمة المجموع؛ لأننا في زمن بلغ فيه عوج الأهواء مبلغاً يجعلنا نختلف حتى على "الثوابت"، أهى من جنس الحقائق أم من وهم الأباطيل؟ فما تراه أنت حقاً أراه أنا باطلاً، وما يتزيَّن لك أنه صلاح يورطني أنا في الجور الاعتساف.

أين هو القلم الذي يكتب بالحق ولا ينطق عن هوى وهو وليد أفكار في عقل صاحبه مبددة؟ وأين هو القلم الذي يدفع الشر ويزجر الطغيان وهو أسير آراء في العقل مطموسة وبالواقع القذر المتردي مقيدة؟ وأين هو القلم الذي يحيي نهضة الأمم ويعيد بناء الشعوب وقد ماتت فيه الرُّوح الحيّة والحياة الناهضة؟

أنه أحد المستحيلات الثلاثة بغير خلاف !

"ولأمر ما تخلّفنا وتقدَّم الناس"

عندي أن أخلاق الكاتب يجب أن تكون ملازمةً له حين يكتب وحين يقول، ولا يَركنها عندما يمسك بزمام القلم في ركن مهجور. ولنذكر أن بعض رجالات القلم العظماء كانوا إذا جلسوا إلى مكاتبهم دخلوا في محراب القداسة لكأنهم تأهبوا للصلاة، إيماناً منهم بأن الكتابة كالصلاة: ضربٌ من العبادة، وليست، ولن تكون، إزجاءً لأوقات الفراغ.

وفي مقال له بعنوان "عالم الكتابة والكتَّاب في حاجة إلى التطهير" قال الأستاذ الكبير "عباس العقاد" - طيَّب الله ثراه - منبّهاً على هذه الفضيلة الباقية:"... وإنما نعتقد وجوب التطهير في عالم الكتابة قبل غيره؛ لأن الكتابة في الأمة صورة للكاتب والقارئ في وقت واحد؛ فإذا حَسنت هذه الصورة فهى علامة حسنة على خلائق الكتَّاب وعقولهم، وعلامة حسنة كذلك على الأخلاق والأفكار بين أنواع القرّاء ..." (أ . هـ).

هذا كلام قاله "العقاد" في عصره، وهو عصر العمالقة والقمم النوابغ، بين أناس يفهمون ويقرئون ويجيدون القراءة والفهم, فما بالك ونحن في عصر صارت فيه القراءة والكتابة عبئاً ثقيلاً وكلفةً عزيزة إنْ لم تكن تدهورت فلم يعد أحد يبحث ولا يقرأ. ثم إنه لكلام يقودنا إلى التفرقة الفارقة بين الكلمة الصادقة والكلمة الزائفة وهى تفرقة أقلُ ما يُقال فيها أن الطبع المستقيم يلاقي الكلمة الصادقة تفعل فيه الأفاعيل، وتسري في أعمق أعماقه كسريان الدم في مجرى العروق ويلمحها ويحسها ويعقلها في وقت واحد؛ وكأنها مخلوق حي تتأثر به نفوسنا وعقولنا ومداركنا فلا نملك أمام سحر الكلمة الصادقة إلا الاستسلام اليقظ الواعي نميز به بين القول النافع والكذب المختلق.

وبما أن الكلمة أساسُ الفكرة ومفتاحها؛ فليست مجموعة الكلمات التي تبدو متراصة مجرّد ألفاظ مصفوفة بعضها إلى جانب بعض في غير دلالة من بطن الشعور النابع من ضمير الكاتب أو القارئ، ولكنها معنى يتدفق من عالم الروح وينهمر عن ممالك السماء، يجيء حكمها محكوماً بمشاعر الصدق في باطن الإنسان الصادق، فتضيف إلى طاقاته الروحيّة طاقات متجددة من بهجة الحياة. والأمر الذي يجعلك تؤمن بأثر الكلمة وفاعليتها في النفس والضمير هو هو الأمر عينه الذي يجعلك لا تزْوَرَّ عن قصد فيه مطلبها الذي عرفته وتوخيته ثم تذوقته بعد المعرفة؛ فلست تنشد حقيقة من الحقائق العليا في عالم المعرفة وقاموس الكلمات غير حقيقتها تدل عليها من قريب أو من بعيد.

أما الكلمة الزائفة المبهرجة فلا تنقلك من مكانك ولا تحرك فيك ساكناً ولا تحسّ فيها إلا جعجعة فارغة تملأ الأفواه ولا تملأ القلوب، هى طحن بلا دقيق؛ لأنها فارغة من المعنى ساقطة من الإحساس، لا ترى فيها إلا صياحاً وضجيجاً لا يَتَعَدَّى قيود اللفظ وحدوده وخوائه من وضوح الفهم ودلالة التفسير والتقدير.

فرقٌ, وفرقٌ كبير؛ بين كلمة داعية للعمل تجيش لها المشاعر ويتقبلها الطبع العاقل وهو عنها راض وبها شغوف، وبين كلمة زائفة قليلة الحيلة عديمة النفع فاقدة التأثير. ويود أكثرنا لو عادَ كل كاتب - وأي كاتب - إلى نفسه يسألها: هل لدىَّ شعور بالكلمة؟ وليكن صادقاً معها كل الصدق، وليكن كذلك أميناً معها على ما يجيب؛ فلئن كان لديك هذا الشعور فأنت كاتب بغير مراء؛ لأنك قارئ ممتاز، والقارئ الممتاز لديه شعور بما يقرأ، وإنْ لم يكن لديك هذا الشعور؛ فمن الأسلم والأكرم أن: " تدع عنك الكتابة فلست منها .. ولو سوَّدتَ وجهك بالمداد" !

لسنا نجد سبباً لهذا الفراغ العقلي الذي نحيا آثاره ونعيش ظلماته سوى تلك الجهود المضنية في الاستخفاف بالكلمة؛ فالأمة التي تهدر كرامة الكلمة تكرم الجهل وتبوِّأ الجاهلين مبْوَأ علياً. على أن تقدير الكلمة موصول بتقدير الوقت والجهد. والأمة التي لا تقدر الوقت ولا تلتفت لجهود الشباب هى أمة تهدم نهضتها من الأساس وتقضي على  البقيّة الباقية من كيانها، فلا يكون لها مستقبل تستقر فيه على أساس من المنعة والتقدم والسلام بالمقدار الذي لم يكن لها حاضر تشرف به بين أمم العالمين.

والرجل الذي لا يقدّر كرامة الكلمة لا يحيا حياة جديرة بالحياة، ولا تنهض حياته شاهدة على رجولة رشيدة؛ لأن الكلمة كما قيل هى الرجل. والرجل الذي تخرج من بين فكيه كلمة لا يتحمل وزرها، أو ينطق من بين شفتيه لفظة لا يقدر فعلها على الآخرين هو رجل يقول بأصدق لسان: إنه لرجل حقير لا يصلح للحياة، وحسبه من حقارته أنه يقول في غير اعتقاد، ولا يؤمن بما يقول بيد أنه لا يقدّر ما عَسَاه ينطق أو يقول؛ إنْ أغضب فإنما يغضب من لا يملك إزاء الغضب أن ينفع أو يضر، ولا يغضب بما يقول أو يكتب مرة واحدة مَنْ هم أقدر على المنافع والإضرار. وأخطر من ذلك كله، هو خطر الكلمة المطبوعة التي تسبِّب جراحات دائمة لا تندمل، ولا تزيلها كلمات الأسف، ولا تمحيها آيات الندم على الأخطاء.

ما ترك من الجهل شيئاً مَنْ حَمَلَ قلمه وأراد أن يفسد دنيا الناس، ويخلق من الضغائن والحقود بين الأفراد والجماعات كيفما يريد مما شأنه أن يتسبّب حتماً في خراب النفوس لا صلاحها؛ فإن الغيبة بالقلم أخطر من الغيبة باللسان.

ومن المنقول عن "ديوجانس" الحكيم قوله:" ... ولا تعودوا أنفسكم إلاّ ما يكتب لكم أجره ويجمل عنكم نشره وذكره. ولا تقولوا ما يسرُّكم عاجله ويضركم آجله, فربَّ كلمة جلبت نقمة وسلبت نعمة، وربَّ لسان أتى على الإنسان حجة عليه ... والإنسان يوزن بقوله، ويقوَّم بفعله، فليقل ما يرجح وزنه. وجمال الإنسان اللسان، وما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مرسلة. وأحسن الأخلاق ما حَثَّ الإنسان على المكارم، وأحسن الآداب ما كفَّ عن المحارم".  ولقد كان القدماء يقولون:

جراحات السِّنان لها التئام       ولا يلتأم ما جَرَحَ اللسان

ومع التفرقة بين بيئة القدماء والبيئات الحديثة يمكننا أن نقول إن جرح القلم أبقى وأنفذ أثراً من جرح اللسان, جراحات اللسان قد تداوى مع الزمن, ولكن كيف تداوي جراحات القلم فتتجنب خطر الكلمة المطبوعة في آلاف المطبوعات.

القلم رسالة والكتابة موهبة يمن الله بها على أذكياء الرجال. ولا يتمنى الكاتب المطبوع من خالص قلبه وأغوار خوافي ضميره شيئاً قدر ما يتمنى أنْ لا يترك القلم من يده؛ فإذا فارقه لكأنه فارق الحياة، إلى هذه الدرجة يتعلق الكاتب بقلمه؛ لأنه بالنسبة له هو هو الحياة, ولا حياة غيره يعيشها أو يعرف لها قدراً بين حيوات.

القلم رسالة والكتابة موهبة بغض النظر عن فوائدها وثمراتها. أن تكتب وكفى، ولا يعنيك إنْ كان الذي تكتبه سيلاقي عند الناس ما كنت تظن وتحسب وتأمل. تكتب؛ لأنك تفكر وإذا لم تكتب فقد تموت. تكتب كما أنك تأكل وتشرب، وتكتب لأنك تحيا، وحياتك هى القراءة الجادة الدائمة، وهل يحيا المرء دون أن يأكل ويشرب، وكذلك العقل لا يحيا بغير غذائه، وغذاؤه أن يقرأ ويفكر ثم يكتب ويُبِين.

وتلك هى طبيعة "العقل الوَلاًّد", يُخرج على السعة ما كان تلقاه مزيجاً من عصارة الروح وخميرة الذوق وحصيلة المعاناة. لم تكن خاطرة عابرة تلك التي خطرت سانحة عبر لحظة فارقة بل حقيقة مؤكدة تقول: العقل يعمل كما تعمل الفرن. والخبز  الموجود فيها هو الإنتاج. والنار التي تطيّب الخبز هي القراءة الدائمة. هي الوقود. إذا توقفت القراءة توقف الإنتاج، وكلما أعطيت العقل زاده من القراءة والتأمل أعطاك زادك من الإنتاج، ما رأيتٌ آلة تعمل بغير ملل كما الفرن قدر ما يعمل العقل بوقود القراءة والتأمل.

الكاتب المطبوع يتمنى على الله ألا يقصف له قلم، فلا يترك أداته الفاعلة من يده يوماً واحداً، وهل يتمنى المرء على الله غير ما وقر في قرارة نفسه وأستكن في أعمق أعماق طواياه؟ إن أناساً يكتبون أكثر ممّا يقرأون ويملئون الدنيا تسويداً وتحبيراً، فتسفر كتاباتهم عن كزازة في الطبع، وضيق في الأفق، وعجز عن ملابسة البيان. وهذه نقائص تعاب في الكاتب المطبوع إنْ لم يكن تعاب في كل كاتب يحمل القلم ويزود عن ذمار الرسالة.***

الأقلام عندي نوعان: حبيسةٌ وطليقة. فأما الأقلام الحبيسة؛ فتلك هى أقلام الرهبان: رهبان العلم والفكر وصُنَّاع الحكمة وطلاب المعاني وعُشَّاق الخلود. تعمل؛ لأنها تجد للعمل على الدوام قيمته ولا تنتظر من الناس كثيراً يُحمد عقباه، وتحبس ذاتها في منظومة "القيم" الغوالي تدور في فلكها ولا تخرج عن حدودها؛ فهى من أجل هذا رهينة هذه القيم أينما حَلَّت، حبيسة تلك المبادئ كلما كتبت وسطرت من مقبول الآراء.

وأما الأقلام الطليقة؛ فهى طليقة من القيم؛ أقلام تقلب مفهوم الحرية قلباً تتحلل فيه من كل قيمة، فتبحث عن القيم من طريق الهوى والتحلل لا من طريق العزم والإرادة؛ فتختلف لديها حقائق الأشياء اختلافاً مَرَدَّه الأول والأخير إلى شهوة عقلية طاغية؛ فتسمي تلك الشهوة حرية فكرية وطلاقة عقلية وروحية، وهى في الحق أغلالٌ وقيودٌ مرهونة بالافتقار الدائم إلى خالص المعاناة فضلاً عن أنها تغل صاحبها عن الحرية وتقيده عن الطلاقة الروحية والعقلية؛ فمن أقلامنا سُلّطَ علينا، إذا كانت أقلامنا بالفعل هى هى أفعالنا !

كنتُ من سنين طويلة أزعم لنفسي أن هنالك علاقة وطيدة بين سيوف الأفكار إذا هى تحولت إلى كلمات وبين القلم الذي خطها على الأوراق، ولم تزل هذه العلاقة ماثلة في ضميري حتى هذا اليوم، وأنا على اعتقاد جازم بأن الأقلام كالقلوب: منها الطيب ومنها الخبيث - إنْ جاز أن تكون القلوب خبيثة في كل حال ومع كل حال. قلم الكاتب كضميره وكقلبه ولا يزيد؛ فمن شأن القلوب أن تتقلب بين القوة والضعف، وبين الخضوع والتمرد, وبين الثبات على العهد من جهة والنكوص عنه من جهة ثانية.

وكذلك الأقلام منها ما هو ما لا يزرع إلا خيراً ولا يحصد صاحبه إلا خيراً؛ لأنه كان تعوَّد النبْت في تربة صالحة جديرة بالإخصاب على الدوام. والقلم المبارك ما يخط على الأوراق إلا الخيِّر الصالح ولا يدفع بصاحبه وبالمجتمع من حوله إلى شيء سوى ما هو خير وصالح، يجذب الأفكار جذباً حنوناً رفيقاً من رحم الذهن وينزع فتيل الثورة نزعاً أميناً من رواكد الحياة؛ ليحرّك ما فيها من قيم كادت أن تبلى وتنداس تحت مطارق الاستبداد.

إن للقلم - هذا الكائن الحي - الذي قضى معك دهوراً، وعاش بين يدك ليالي طويلة يبحث عن المخبوء من نفائس العرفان، ويقضي ما تقضيه أنت عاكفاً ومنقباً وأميناً كل الأمانة على تراه وتعتقده مخلصاً من آراء؛ لسراً علوياً من أسرار وجودك الروحاني، ذلك الوجود الضخم العملاق الذي يخفي ويدق أحياناً عن الظهور؛ فلا يبقى من ظهوره شيء إلا أن يذكرك به معنى قائم هو أقرب المعاني إلى هاته الأداة المثلى والوسيلة الصادقة "القلم". وإنه ليسوؤه ما يسوؤك، ويغضبه ما يغضبك، ويسرّه ما يسرك، ويرضيه كل الرضا أن تكون سعيداً بما أبقيت وأعطيت من خالص نفسك، وقرير فؤادك، وغاية ما تستطيعه من جهدك الفكري والعقلي والروحي.

فمن الأمانة أن نكتب عن الأقلام التي تدِّون أوهامنا وآمالنا وترفع عن قلوبنا عنت الأيام القاسية، وتقشع سحب الظلمة إنْ استطاعت عن ليالينا الكالحة، وتنير سبل الحقيقة إذا كانت أقلامنا بالفعل جديرة بكشف سُبل الحقيقة على الحقيقة. ومن الأمانة مرة ثانية أن نعطى هذه الأقلام حقها من الكرامة اللائقة بها، ولا نجعلها هكذا تمر علينا، وبنا، ومعنا في غاية المهانة والنكاية والفقدان: فقدان القيمة التي نكشفها من خلال أقلامنا. وإنه لشيء عزيز على النفس مؤلم للفؤاد أن تكون لنا أقلام ثم نهجر الكتابة عن تاريخها؛ ففي هذا الهجران هجر لتاريخ الفكرة في أذهاننا، وضربٌ أكيد لشعورنا بذواتنا مع الأفكار، ومع الأيام، ومع الليالي، ومع الأحداث: الأحداث التي تجرى في أعماقنا قبل واقعنا ونَتَجَرَع غصص مرارتها في دخائل نفوسنا قبل أن نعيشها حياة فتذهب معها نفوسنا حسرات.

يوم أن نهمل أقلامنا بهذه المهانة هو اليوم الذي نهمل فيه حياتنا العقلية المنتجة المبدعة؛ لأننا أهملنا من قبل جلالة التفكير؛ فما من تفكير حقيقي إلا ووراءه قلم حقيقي؛ مبدع وخلاق يخرجه للناس بالصورة التي تتجاوب مع مثل هذا التفكير. أقلامنا هى حياتنا إن أردنا لحياتنا أن تكون ذات قيمة بين حيوات وأقلامنا هى هى حياتنا إذا كانت حياتنا جديرة بالعطاء المبدع الخلاق. أنني على يقين عظيم منذ اليوم الذي حملت فيه القلم فعرفت منه معنى الوجود ومعنى الكرامة ومعنى الحياة بأن الكتابة ما إن دخلت نطاق العادة؛ فذلك هو الضعف بعينه؛ لأن العادة ضد الفكرة, والقلم الذي يكتب صاحبه بالعادة لا يفكر قبل أن يكتب. أقول؛ نعم! ذلك هو الضعف الذي لا يقوى على تغييره ضعيف، وإنك لتجد كتاباً كثيرين يقولون لك: إنهم اعتادوا الكتابة بهذه الطريقة وفي تخصص معين لا بطريقة غيرها ولا في تخصصات منوعة بمقدار اعتيادهم على قلب الحقائق وتغيير الموازين، وأنهم ليحسبون أنهم مبدعون كبيرون، وهم في الحقيقة اعتادوا على شيء تَرَسَّب في أغوار نفوسهم، وتطور معهم تطوراً يتماشى مع كل ما في النفوس من شراهة وطغيان، فبدا الحق لهم أنه كذلك، وهو غير ذلك .

سألني صديقي: وهو يقرأ إحدى مقالاتي في الجرنال: لماذا ترهق وقتك ونفسك في كتابة المقالات، وما الذي يعودُ نفعاً عليك منها، فلتنصرف إلى بحوثك المتخصصة، ولتترك هذا كله لأهله؟ قلت: أوَتراني ليس من أهله؟

أنا لا أستطيع الفصل بين البحوث الأكاديمية المتخصصة والنشاط الثقافي والفكري العام الذي أقدّمه على شكل مقالة. أنت تطلب مني أن أترك "الخبز" لخبازه. وأنا أقول لك: أنني أجدني من أشد الناس خبزاً لهذا الزاد، زاد الروح والفكر والوعي والإدراك؛ فإنّ لصرير القلم عندي - يا صَاح - حلاوة لا تداينها حلاوة الدنيا كلها ولو اجتمعت، حيثما وضعته على الأوراق جاءتني الحلاوة هبة وعطية، لا أعرف لها مطلباً غير مطلب "الواجب"؛ فهذا الزاد العلوي المبارك لا يخبزه إلا ممنوّ برسالة علوية. وأظنني من أولئك الذين ابتلاهم الله بنعمة أقذاء العيون تحت أنوار التفكير؛ وأن الكتابة أهم وأرقى عمل يمكن أن نقدّمه ابتغاء وجه الله، وإثراءً لتلك الرسالة، واندفاعاً لها، وتمكيناً فيها، وأخذاً بمقوماتها وأشراطها في كل حال، وعلى أية حال.

ومن المؤكد أن الروح التي ستظل تكتب إلى أن تفارق البدن لهى هى الروح التي كتبت من قبل، ولم تألوا جهداً في الكتابة والقراءة إلا أوفته غاية ما يُستطاع الوفاء، ومع ذلك كانت على الدوام فياضة بالمعنى مسترسلة مع الفكرة في ملكوت العرفان.

كادَ الإمام أبو حامد الغزالي - طيَّب الله ثراه - أن يكسر مغزله لمَّا أنْ أُسئ فهمه فطعنوا عليه، وحرقوا كتابه "الإحياء"، فلم يجد لعزله نسَّاجاً، ولم يشهد في الطاعنين لما يقوله أو يكتبه صدى لدى من يسمع أو يقرأ، فأنشد يقول:

غزلتُ لكم غَزْلاً دقِيِقَاً فلم أجد         لغزلي نسَّاجَاً فكسرتُ مِغْزَلي

ولكنه لم يفعل، ولم ينكسر له قلم، يغزل بما لم يستطع سواه أن يغزله، ويبقى النساجون من ورائه ينسجون ما غزل على منواله، فلا المغزل أنكسر ولا جَفَّ النسيج؛ فظل قلمه بياناً عقلياً وروحياً ومعرفياً للمعاني الخالدة، يتخطى حدود الزمان والمكان؛ فكانت قيمته باقية، وكان زاده الروحي هو خير الزاد .. أتراه كان يبحث عن نفع مادي يعود عليه من وراء ما يكتب أم كانت غايته الذود عن ذمار الرسالة؟ 

يرضى عنك القلم - هذا الكائن الحي - حين يرضى عنك الله سبحانه وتعالى الذي علم الإنسان بالقلم ما لم يعلم؛ فلن يقسم الله بشيء، ولا يكون لهذا الشيء الذي أقسم الله به، تجلياته في الحياة: أقسم الله بالقلم، وللقلم سرُّ علوي موصول لا مقطوع، وله لا شك تجليات في الفكر والواقع وفي الحياة بوجه عام، كما كانت له في الأزمة الماضية، وفي كل زمان، ثورات يثورها، وصولات وجولات يصول فيها ويجول، تتحدد تحت سنانه المبارك قيم التغيير؛ لكأنما التغيير الذي يحدث في الواقع من ثورات ومبادئ وأفكار إنما هو تنفيذ لتجليات القلم حين يختارها الله لتكون موضع تجليه؛ لأنه كان من ذي قبل موضع قسمه المبارك وتعليمه الموهوب. وكذلك؛ يكون كل تغيير مطلوب يوجّه إلى النفس ورعوناتها، وإلى الهوى ومطالبه، وإلى الدنيا ومباهجها، وإلى الأخلاق وإصلاحها، وإلى القيم واعتدالها، إنما ينبثق في الأصل من تحت سنان القلم، ذلك الذي يحمل في الحقيقة طاقات الوعي بوجوب التغيير. من أجل هذا؛ صار علاج الآفات النفسية يتمُّ عندي من خلال القلم: فعل المراقبة لله؛ وتدوين مثالب النفس على الورق قبل أن تصبح واقعاً محققاً بالفعل يقبل التطبيق والتنفيذ.

هَبْ أنك أقدَمْتَ على فعل شيء ولم تقدِّر على الحقيقة عواقبه ثم أمسكت بالقلم ودونت احتمالات النهاية التي تنتهي إليها فور عملك هذا فيما تعتقد أو حين تريد أن تَقْدِم على فعل هذا الشيء أو تحجم عنه سيان، ثم نظرت إلى ما كنت دونته من قبل .. أتراك تفعل إلا ما هو خير لك، فيه رضى الله تعالى؟ لهذه الطريقة - كما ينصح الإمام محمد عبده مخلصاً - فوائد جمة:" لأنها فوق نفها في تمرين ملكة الكتابة تحمل الإنسان على مراقبة نفسه وتصفية حسابها في منتهي كل يوم " (أ . هـ).

ثق أنه من المؤكد، عندما يقسم الله بالقلم، يكون قسمه مبروراً بقيمة ذات دلالة مشيدة على أصول الذوق الرُّوحي وفهم الأسرار عن الله، فالجميل في القسم جلال الغاية، والجميل في القسم كذلك تجلي الجلال ليكون واقعاً ذا سرِّ من مخزن الأسرار.  

  

بقلم: د. مجدي إبراهيم  

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم