صحيفة المثقف

الغيرة القاتلة

علي القاسميوصرختُ بالرجل الآليِّ محتدمًا:

ـ "توقّفْ، فريد، اهدأْ، تعقّلْ."

وردّ بغضب وهو يرفع مطرقةً حديديَّةً ضخمةً بيده مهدِّدًا:

ـ " لا، سأحطِّم كلَّ شيء."

فصحتُ به، وأنا أحاول إخفاء أَمارات الخوفِ الذي انتابني:

ـ "فريد، أَلْقِ المطرقة، واسمع ما أقوله لكَ، فأنا الذي صنعتكَ. أطعني!"

ولكنَّه كشَّر عن أسنانه الفولاذية، وأجاب وهو يضغط على كلِّ حرفٍ: " كلا! كلا! ثم كلا!"

لم يَدُرْ في خاطري يومًا، أَنَّ الشعور بالغيرة يمكن أنْ يشكِّل دافعًا لاقتراف جريمةٍ ما؛ بل لمْ أعدّ الغيرة سببًا كافيًا للتخلِّي عن السلوك المتحضِّر واللجوء إلى العنف. كنتُ أحسب أنَّ الغيرة لا محلَّ لها في مجتمعٍ متمدِّنٍ، ينعم أفراده بالمساواة، ويتمتعون بحرية الاختيار والتعبير، وأنَّها لا وجود لها إلا في الحكايات الخياليَّة والروايات التاريخيَّة.

ولعلَّ اقتناعي ذاك كان نتيجة خبرتي السابقة، أو بالأحرى، نتيجة عدم خبرتي في الموضوع. فأنا لمْ أقع فريسة الغيرة يومًا، ولم تلسعني نيرانها، ولم تؤرِّقني هواجسها الخبيثة. ربَّما كنتُ في منجًى من هذه العاطفة البدائية العدائية، لأنَّني لم أُحبّ يومًا حبًّا حقيقيًّا يمتلك مشاعري، ويأسر عقلي، ويعمي بصري وبصيرتي عن رؤية الوقائع والحقائق بجلاء. فقد كنتُ أميل دومًا إلى العزلة وعدم الاختلاط بالآخرين. ففي طفولتي، كنتُ أمضي جُلَّ وقتي وحيدًا مع لُعبي الآلية، ألهو بها فترة، ثُمَّ أفكِّك أجزاءها، ثُمَّ أُركِّبها، أو أُجري تحويراتٍ عليها. وفي فتوَّتي، كنتُ أتسمَّرُ أمام حاسوبي ساعاتٍ طويلة. وبعد تخرُّجي في الجامعة استغرقتْ أبحاثي في ميدان الذكاء الاصطناعي وقتي كلَّه، وانغمستُ فيها إلى قمَّة رأسي، حتّى أضحتْ لذتي الوحيدة، وصار مختبري بمثابة خلوةِ ناسكٍ متصوِّف.

ونظرتُ إلى المطرقة الضخمة التي يُمسِك بها فريد بقبضته الحديدية، والغضب يتطاير شررًا من عينيْه. يا إلهي! إذا طفق يحطِّم كلٍّ شيءٍ كما يهدِّد، فإنَّ أجهزتي التي أمضيتُ قرابة عشرين عامًا في تطويرها، ستُمسي ترابًا، تحت ضربات مطرقته المُريعة.

وفيما كنتُ أحاوره بلساني، كان عقلي يفكِّر، بسرعةِ متواليةٍ هندسيَّةٍ، في كيفيَّة السيطرة عليه إلكترونيًّا وشلِّ حركته. وفجأةً صرخ في وجهي:

ـ " كفى نفاقًا. تقول لي "اهدأْ، لنتفاهمْ، لكلِّ مشكلةٍ حلٌّ"، وفي الوقت ذاته تضمر القضاءَ عليَّ، وتفكِّر في الوسائل."

أجبتُ مسترضيًا بابتسامةٍ استجديتُها من الخوف الذي اجتاحني:

ـ " أنتَ مخطئ، يا فريد! لا بُدَّ أنَّ نوبة الغضب التي تجتاحك، تشلُّ عقلكَ عن التفسير الدقيق للذبذبات المغناطيسيَّة الصادرة عن دماغي، كما تجعلكَ تتفوَّه بعباراتٍ لا تليق برجلٍ مهذَّبٍ مثلكَ."

واستحالَ الخوف في أعماقي هلعًا ورعبًا، عندما تذكَّرتُ أَنَّني لمْ اتَّخذ ما يلزم من الاحتياطات التقنيَّة للسيطرة على فريد إذا عَنَّ له العصيان. فلم يخطرْ ببالي أنَّ ذلك سيحصل يومًا. فالرجل الآليُّ، من حيث الأساس، بمثابة عبدٍ قوِّيِّ البنية، ضعيف العقل، ينفِّذ تعليماتِ المُبرمج، ويقوم بالمَهام التي يوكلها إليه صاحبه.

ولكنَّ فريدًا ليس بالرجل الآليِّ العادي. إنَّه يمثِّل جيلاً غير مسبوق من أجيال الكائنات الآليَّة. فقد صَمّمتُ ذاكرته بحجم مئة مليون ميغا، بحيث تتَّسع لخزن جميع محتويات مكتبة الكونغرس الأمريكية ومكتبة البولديان البريطانية والمكتبة الوطنية الفرنسية مجتمعةً في زاوية من زواياها فقط. كما تستطيع وحدة العمليّات فيه أنْ تقوم بمائتي مليون عمليَّة في "الميلي سكند" أي في الواحد من الألف من الثانية، بحيث لا تستغرق منه الإجابةُ على سؤالٍ، أو التوصل إلى قرارٍ، أكثر من رَمشَةِ عيْن. ولا يتَّبع فريدٌ برنامجًا مرسومًا له سلفًا، لحلِّ المشكلات التي تجابهه، وإنَّما يدرس جميع المُعطيات ذات العلاقة، ويمحِّص الاحتمالات، ويقلُب النتائج المتوقعة، ويتَّخذ القرار المناسب في ضوء ذلك كلِّه. وهكذا يقترب، في طريقة تفكيره، من الإنسان الحقيقيِّ، من حيث حرِّيَّة الاختيار المتاحة له. ولهذا كنتُ أحاسبه وأعاتبه على أخطائِه.

واستفدتُ من أبحاث اللسانيات التوليديَّة- التحويليَّة، والصوتيات الحاسوبيَّة، في جعل التواصل مع فريد يتمُّ، لا عن طريق التحكُّم عن بُعْد، ولا بواسطة ملمس الحروف، ولا بالقلم الإلكترونيِّ، وإنَّما بالخطاب الشفهيِّ مباشرة. فبإمكانكَ أن تتحدَّث معه حديثَ رجلٍ مع رجلٍ، في أي موضوع، وتطرح عليه ما تريد من الأسئلة شفهيًّا، فيسمع كلامك، ويحوِّل الصوت إلى معان، ويراجع المعلومات اللامتناهية المخزونة في ذاكرته، ويختارُ الأنسب منها، ليجيبكَ بدوره شفهيًّا، بعد أقلَّ من لمح البصر.

ولكن فريد لا يقتصر على الإجابة عن الأسئلة التي تُطرَح عليه، وإنَّما بمقدوره كذلك أن يأخذ زمام المبادرة، فيتشكّى، مثلاً، من برودة الجوِّ الشتويِّ الغائم، لأنَّ مقاييس الحرارة والرطوبة، وآلات التصوير، والرادارات المثبتة في داخله، تزوِّد دماغه بصورةٍ متكاملةٍ عن الطقس، وتتيح له التعبير، مثلاً، عن تذمُّره من البرد الجليديِّ الذي لم تشهد البلاد مثله منذ ثلاثين عامًا. وكثيرًا ما كنتُ أعود إلى المنزل، فأجده يرتِّب غرفة نومي، وهو يتحدث وحدَه عن الفوضى التي خلَّفتُها ورائي، عند مغادرتي الغرفة في الصباح.

لم يكُن فريد "خادمي" فحسب خلال السنوات الخمس الأخيرة، وإنَّما كنتُ أَعدّه "صديقا" كذلك. فهو يبدو في هيئته رجلاً طبيعيًّا عاديًّا. فقد صنعتُ تقاسيم وجهه على غرارِ ملامح وجهي، وغطَّيته بطبقةٍ رقيقةٍ من البلاستيك الخمريِّ اللَّون. وجعلتُ مقاييس جسمِه مطابقةً لمقاييسي. وكنت أُلبِّسه إحدى بذلاتي المفضَّلة، فيبدو كأنَّه شبيهي، أو بتعبير أدقّ، أخي التوأم. وكان عددٌ من معارفي الذين يفدون إلى المنزل لأوَّل مرَّةٍ، من دون موعدٍ سابق، ويفتح لهم فريد الباب، ينادونه باسمي، ظنًا منهم أنَّه أنا. فكان يصحِّحهم بلطف قائلاً:

ـ "آسف، يا سيدي، إنَّ البرفسور خارج المنزل، وما أنا إلا مدير أعماله."

ولعلَّه كان يهزأُ بهم، ويضحك منهم في سريرته، فأنا أعلم مدى "شيطنته". وما وقع التباسٌ من هذا النوع، إلا وتأكَّد لي نجاحي في صنع الرجل الآليِّ الكامل، وشعرتُ بالزهو والسعادة.

كنتُ أدعو فريد في أوقات فراغي إلى لعب الشطرنج معي، فكان يجيب بارتياح:

ـ"انتظرْ قليلاً، من فضلكَ، حتّى أُعدّ لكَ فنجان قهوة."

فأقول له مكايدًا:

ـ " وفنجانٌ لكَ كذلك، من فضْلِكَ."

فيجيب مازحًا:

ـ "أنتَ تدرك تمامًا أنَّ المشروبات الروحيّة وغير الروحيّة كلَّها مضرةٌ بأحشائي، فهل ترغب في إيذائي؟"

وكان يبادر إلى إعداد القهوة قبل أن نبدأ اللعب خبثا منه، لأنَّه يعرف سلفًا أنَّني كلَّما أقعُ في مأزقٍ في لعبة الشطرنج، أطلب منه أن يعدَّ لي فنجان قهوة، لا لرغبتي في احتسائها فقط، وإنَّما كذلك لأكسب مزيدًا من الوقت للتفكير في الخروج من المأزق.

لا أدري بالضبط متى بدأتِ الغيرة تأكل قلب فريد. ولكنَّ بداياتها تعود، بلا شك، إلى أكثر من ثلاثة أشهر، حينما انتهيتُ، على سبيل التجريب، من تصنيعِ فتاةٍ آليَّةٍ، سمراء، هيفاء، ذات ملامح ساحرة، وصوت نسائيٍّ جذّاب، وتتمتّع بمواصفاتٍ تقنية أفضل من تلك التي يتوفَّر عليها فريد، مع خصوصيّاتٍ نسائيَّةٍ، بالطبع.

في البداية سارتِ الأمور على ما يُرام. فقد اتفقنا ـ نحنُ الثلاثة ـ على تقسيم العمل بينهما. ففي حين تولَّتْ فريدة الطهي وإعداد المائدة لي، واستخراج أخبار الصباح من الشابكة (الانترنت) ووضعها على مكتبي، والقيام بأعمال السكرتاريَّة الأخرى، اضطلع فريد بتنظيف المنزل، ونقل قطع الأثاث الثقيلة من مكانٍ إلى آخر، وإصلاح الأجهزة المنزليةِ المعطوبة، وسقي الحديقة وتشذيب نباتاتها، وقيادة السيارة عندما أكون مُتعبًا، وغير ذلك من الأعمال التي يتولاها الرجال عادة، على الرغم من أنَّ قدراتهما التقنية متقاربة، ولكنَّها مسألة تنسيق فقط.

غير أنَّني أخذت أدعو فريدة، أحيانًا، إلى مجالستي، عندما أخلو بنفسي مساءً في غرفتي، لا لشيءٍ إلا لأنني كنتُ أرتاح إلى طبقاتِ صوتها الأنثويِّ المنغَّم. وإلى النكات التي كانت تختارها من معاجم النكات المخزونةِ في ذاكرتها، وترويها لي للترويح عني أثناء لعبنا الشطرنج أو النرد. وحدثَ أنْ استأذن فريد ليقطع علينا جلستنا قائلاً:

ـ " آسف، يا سيدي! وددتُ أنْ أذكِّرك فقط، بأنَّك ستستقلُّ الطائرة في الصباح الباكر إلى طوكيو، لحضور المؤتمر العالميِّ عن الإنساليات. ولعلَّك تريد أن تأوي إلى فراشك مبكِّرًا، لتنال قسطا من الراحة."

لفتَ انتباهي تكرُّر مثل تلك التصرفات من فريد، كلَّما كنتُ أختلي بفريدة. وحرتُ في تفسير تصرُّفاته. ظننتُ، أوَّل الأمر، أنَّ برامج فريد قد أصابها فيروسٌ طارئٌ، بعد أن ظلَّت تعمل بدقَّةٍ وسرعةٍ متناهيتيْن طوال تلك المدَّة بلا كبوة ولا هفوة. وحرتُ في تفسير سلوكه. لم يخطر ببالي أنَّ نجاحي في تصنيع الرجل الآليِّ الكامل قد بلغ حدًّا يستطيع معه هذا الكائن المصنوع من فولاذ ودوائر إلكترونيَّةٍ وبلاستيك، أنْ ينفعل مثل إنسانٍ حقيقيٍّ مخلوق من لحمٍ ودمٍ وينبض بين جنبيْه قلبٌ بالمشاعر والأحاسيس.

دلَّني الاستقراءُ الموضوعيُِّ لتصرفات فريد، بما لا يقبل الشكّ، على حقيقةٍ واحدةٍ، وهي أنَّ سلوكه المنحرف ناتجٌ عن شعورهِ بالغيرة. وعندما جابهته بالحقيقة وطرحتُ عليه السؤال تلو السؤال، بمهارةِ نفسانيٍّ متمرِّس، راوغ كما يراوغ الثعلب، وتهرَّب من الإجابة المباشرة.

لقد تأكَّد لي باليقين القاطع، أنَّ الغيرة هي علَّة تصرفات فريد غيرِ السويَّة. بَيدَ أنَّ الذي لم أتمكَّن من تشخيصه والتوصُّل إلى كنهه، هو دافع تلك الغيرة. تُرى هل أخذ فريد يغار من فريدة لأنَّها استأثرت بمودتي وحازت على تفضيلي لها، أَم أَنّه صار يغار منّي، لأنَّه وقع في غرام فريدة!؟

***

قصة قصيرة

علي القاسمي - الرباط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم