صحيفة المثقف

حقُّ الخطأ وتشكّلُ مفهوم الفرد

عبد الجبار الرفاعي"ألينا" بنت إبنتي تلميذةٌ في الأول ابتدائي، في مدرسة بمدينة ملبورن الاسترالية، تخبرني أمُّها "أبرار" عن صعوبات تفاعلها معها لحظةَ توجيهها في الكتابة. أمُّها تصرّ على محو أخطائها وتحذّرها من تكرارها، "ألينا" لم تتعلم في المدرسة محوَ أخطائها، بل لا تكترث بالخطأ ولا ترتاب منه، كما تربّت أمُّها على ذلك في بلادنا من الابتدائية حتى تخرجت في الماجستير. معلمة "ألينا" الأسترالية من أصلٍ إيطالي اكتشفت آثارَ الكلمات الممحوة في تمارينها على الكتابة، فاستنكرت ذلك، وحذّرت أمَّها مما يتركه هذا السلوكُ من آثار سلبية في تكوينها النفسي والذهني.

سألتني "أبرار" وهي مندهشةٌ عن رفض المعلمة واستهجانها لمحوها أخطاء ابنتها. فقلتُ لها:

أعظمُ الأخطاء في التربية الحديثة منعُ الأبناء من الوقوع في الخطأ، وإشعارُهم وهم بهذا العمر أن الخطأ عاهة، وتخويفُهم من آثاره الوخيمة عليهم. هذا التخويفُ يتراكم ويترسب بالتدريج في اللاشعور، فيكبّل تفكيرَهم، ويجعلهم حذرين متردّدين قلقين في الإعلان عن أيّ سؤالٍ أو رأي مهما كان. تنشد العمليةُ التربوية إيقاظَ عقل التلميذ، وتحريرَ وعيه من الأغلال المبكرة، وتحفيزَه على ابتكارِ الأسئلة، وطرحِها من دون وجلٍ مهما كانت، وتنميةَ قدرته على التفكير بكلِّ شيء. من الخطأ أن ننبّه "ألينا" على الخطأ، أو نمحوه ونكتب لها الصواب، ومن أسوأ الأخطاء توبيخُها على خطأها. تدجينُ الطفلِ على تحصيلِ اليقين السريع والوثوقية، يقيّدُ عقلَه ويغلقُ تفكيرَه، ويُضعِف قدرةَ ذهنه على توليد الأسئلة الخلّاقة، ويجعله مولعًا بمحاكاة غيره، كلُّ محاكاةٍ استنساخٌ وتكرار، وكلُّ تفكيرٍ اختلافٌ لا تكرار. الطفلُ مكتشفٌ يقظ للعالَم، يتطلع لاكتشافِ كلِّ شيء، ينمو ويتسع وعيُه بنموِّ واتساعِ اكتشافاته. عندما تكتشف "ألينا" الخطأَ تتحول بالتدريج إلى مكتشفة لحياتها ولما حولها، تبدأ اكتشافاتِها برصد أخطائها الصغيرة وتتطور خبرتُها بالتدريج لرصد الأخطاء الكبيرة. الكائنُ البشري يتعلم بفعله هو وممارساته هو، ولا يتعلم هذا الكائنُ عندما ينوب عنه غيرُه بالفعل والممارسة.

  مهمةُ المعلّم إيقاظُ العقل وتنميتُه،‏كي يكتشف التلميذُ الأخطاء، ‏ويهتدي إلى الصواب بنفسه، ‏لا أن يقتاده كأعمى، ‏لأن ذلك ينتهي إلى سباتِ عقله، ‌‏وعجزِه عن التفكير ‏النقدي وتعطيلِ ملكة الإبداع لديه. المعلّمُ الناجح هو من يكتشف نوعَ موهبة تلميذه، ويحفّز الطاقاتِ العقليةَ والنفسيةَ المختبئةَ داخله، ويمكّنه من بنائها وتنميتها واستثمارها. ‏

 كلُّ من يفكر يخطئ، من لا يفكر لا يخطئ. لا يتحرّر التفكيرُ من الخطأ إلا بعد وقوع الإنسان فيه. نرجسيةُ الإنسان وتوهمه بكماله تدعوه للتنكّر لأخطائه. ولم تكفل ثقافتُنا حقَّ وقوع الكائن البشري في الخطأ، والأسوأ من ذلك نرى بعضَ الناس يتعامل مع الخطأ الذي يرتكبه شخصٌ وكأنه فضيحة، وربما يتعرض من يقع في الخطأ أحيانًا للسخرية والتهكّم والازدراء، لذلك يرتبك أكثرُ الناس في مجتمعنا ويغمره الخجلُ والشعورُ بالعجز لو اعترف بخطئه.

  تربيةُ الناشئة على عدم الوقوع في الخطأ خطيئة، وهي أسوأُ أشكال تنميط الشخصية الذي يميت منابعَ الإبداع، ويصيّر الكائنَ البشري كأنه ممثلٌ على مسرح، تختفي ملامحُ شخصيته الحقيقية. المعلّمُ الناجح يوقظ إرادةَ التلميذ وثقته بنفسه كي يتصرف كما هو، ويحميه من ممارسة الخداع وإخفاء شخصيته بأقنعةٍ جاهزةٍ زائفة.

 من يمتلكُ شجاعةَ الاعتراف بالخطأ يمتلكُ القدرةَ على تغييرِ ذاته والتكامل. الخوفُ من التغيير خوفٌ من الاعترافِ بالخطأ. لا تنجز التربيةُ والتعليم وعودَها إلا بمنح الحرية في ارتكاب الأخطاء. حريةُ ارتكاب الخطأ ضرورةٌ للتعلّم، ومن لا يرتكب أخطاءَ لا يتعلّم.

 حقُّ الوقوع في الخطأ ركيزةٌ أساسيةٌ تقوم عليها التعدّديةُ وقبولُ التنوّع والاختلاف، وترسيخُ التفكير الحرّ. عندما نسلب هذا الحقَّ من الكائن البشري يتحول المجتمعُ إلى كائناتٍ متماثلةٍ متطابقةٍ، تفتقر إلى كلِّ ملامحها الشخصية المتنوّعة والمختلفة، وتختفي صورةُ الفرد في مثل هذا المجتمع، ويصير الناسُ كأنهم روبوتاتٌ متشابهة، وهذا ما تفعله وتتأسّس عليه كلُّ الأنظمة الشمولية المستبدّة. 

 لا معنى لمجتمعٍ تعدّدي متنوّع من دون بناءِ مفهومٍ راسخٍ للفرد، ولا معنى لمفهومِ الفردِ من دون ترسيخِ مفهومِ الاختلاف، ولا معنى لمفهومِ الاختلاف من دون حقِّ الفرد في الوقوع في الخطأ.

  التربيةُ لدينا في العائلة والمدرسة والمجتمع قلّما تتفهم حقَّ الوقوع في الخطأ وتتقبله. وهكذا التربيةُ والتعليمُ في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا بمختلف مراحلها وأنواعها.كلُّ فلسفةٍ تربوية وتعليمية لا تعتمد حقَّ الوقوع في الخطأ كأحد ركائزها تولد ميتة.

  لا يسود الحقُّ في الخطأ تربيتَنا، على الرغم من أن الإسلامَ والأديانَ في بلادنا تشدّد على الغفرانِ والتوبةِ والعفو، وتغتي بمفاهيمَ مماثلةٍ للتسامح مع الخطأ كما نقرأ في القرآن الكريم والكتبُ المقدّسة. يستعرض القصصُ القرآني أخطاءَ الأفراد والمجتمعات المتنوّعة، ولا يهمل حتى الصغيرةَ عندما تتضمن عبرةً وتشي بخبرةٍ هادية. كما يتحدث القرآنُ الكريم عن المغفرة والتوبة والعفو، فقد وردت كلمةُ المغفرة ومشتقاتُها 234 مرةً في القرآن، وكلمةُ التوبة ومشتقاتُها 87 مرة، وكلمةُ العفو ومشتقاتُها 27 مرة.

 

د. عبدالجبار الرفاعي

.......................

* نشر في (تعدّديَّة) أيضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم