صحيفة المثقف

إشكالية الحاجة إلى فقه الأقليات

نابي بوعليأهمية فقه الأقليات، وأسباب العناية به

أستهل بحثي بالحديث عن إشكالية الحاجة إلى فقه الأقليات الإسلامية، نظرا لأهمية هذا الفرع الفقهي وفائدته الكبيرة ومن ثمة ضرورة الاعتناء به لمعرفة الأحكام الشرعية والبحث عن أفضل المخارج الدينية والتكييفات الفقهية المناسبة للكثير من المسائل التي أصبح يثيرها وجود المسلم المقيم في ديار المهجر حتى يكون على بينة من أمر دينه، ومثالا للإسلام عقيدة وسلوكا، لأنه مأمور بتحكيم شرع الله في كل ما يتصل بحياته" ولهذا احتاجت (الأقليات المسلمة) إلى فقه خاص ولا يعني ذلك إحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة"[1].

إن الجمود الفقهي يتعارض مع التغير كحقيقة وسنة من سنن الله تعالى في خلقه، ولكن رحمة بالمسلمين، فإن حياتهم مخصوصة بعقيدة وشريعة صالحة لكل زمان ومكان باعتبار النص يتجاوز التاريخ، أي يتجاوز السياق الذي نزل فيه ليمتد إلى مطلقية الزمان والمكان، وهو ما يستدعي قراءة متجددة تضمن استلهام الحلول من خلال الواقع ومشكلاته وحاجاته ومستجداته، لأن كلام الله يخاطب البشر في كل حين مادامت أحداث التاريخ متجددة ولا تستقر على حالة واحدة ثابتة. وهذا ما يؤكد خلود النص وحيوية، ويمنح فرصة للإنسان للاستفادة منه في إطار تحقيق مقاصد الشريعة من حيث السعة والشمول، ويمنح للفقه الإسلامي مرونة كبيرة في التعاطي مع النوازل والمستجدات التي تواجه المسلمين في حياتهم، لا تعطل روح الشريعة التي لا تغفل حاجات العصر ولا تهمل الضوابط الشرعية، وذلك فضل من الله ونعمة" ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظهرة وباطنة"[2]. ومن حكمة الله سبحانه وتعالى كذلك أن ترك للمسلمين باب الإجهاد مفتوحا، لاستنباط الأحكام الشرعية لرفع الحرج عن العباد في النوازل التي قد تنزل بهم" وما جعل عليكم في الدين من حرج"[3]، وهي نتيجة عظيمة لمرونة الإسلام في التعاطي مع المستجدات والالتفات إلى سلطة الواقع والتحرر من التزمت المذهبي، فكل التفاصيل التي سكت عنها النص هي من طبيعة المتغيرات التي تظل متروكة للاجتهاد وبذل الوسع فيها لاستيعاب الوقائع المتجددة من قبل الفقهاء وهم صفوة الخلق وأشد الناس معرفة بالحق، لأنهم ورثة الأنبياء، فيتحرون أحكامها استنادا إلى شريعة الإسلام ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا﴾[4]. والجدير بالذكر أن الاجتهاد وإعمال الرأي لم يغفل عليه الرعيل الأول من المسلمين، فقد ثبت أنه جرى منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار عليه أصحابه من بعده.

وتحقيقا لمقاصد الشريعة الإسلامية التي أوصى الشارع بها، انفرد الدين الإسلامي الحنيف بمساحة واسعة للاجتهاد في القضايا التي لم يكن للسابقين عهد بها فصار" فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين وضرورة يحتمها الواقع"[5]، وقد حثّ علماء الأصول على ذلك حيث قال الإمام  الشاطبي رحمه الله أيضا" إن قاعدة الاجتهاد أيضا ثابتة في الكتاب والسنة، فلابد من إعمالها. ولا يسع الناس تركها، وإذا ثبت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالا للاجتهاد، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه. ولو كان المراد بالآية*[6] الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل، فالجزئيات لا نهاية لها، فلا تنحصر بمرسوم، وقد نص العلماء على هذا المعنى، فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل[7] .

ومن هذه الرؤية الدينية التي يطبعها اليسر والتخفيف، يسعى فقه الأقليات الإسلامية إلى توجيه جهوده للتصدي للتحديات التي تواجهها الأقليات المسلمة في بلاد المهجر والتي تحرص على المحافظة على هويتها وخصوصياتها الثقافة، وامتدادها الحضاري القادم من أعماق التاريخ أمام قوّة وشراسة الثقافة الغربية التي تسعى إلى تذويب المختلف والمغاير، زيادة على انتشار البدع والمحدثات. وفي هذا الشأن يلاحظ يوسف القرضاوي أن:" كثيرا من مشكلات المسلمين في بلاد الغرب لها طابع فقهي وذلك ناشئ من رغبة الأقليات المسلمة في تلك البلاد بالتمسك بهويتها الدينية وعقائدها الإسلامية وشعائرها التعبيرية وأحكامها الشرعية في الزواج والطلاق وشئون الأسرة ومعرفة الحلال والحرام في أمور المطعومات والمشروبات والملبوسات وسائر المعاملات وشتى العلاقات بين الناس  وخصوصا غير المسلمين هل ينعزلون عنهم أو يندمجون فيهم وإلي أي حد يجوز الاندماج"[8].

من هنا تبرز الحاجة إلى فقه الأقليات للتعامل مع هذه الظروف التي يواجهها المسلمون المقيمون وسط المجتمعات الأخرى، والتي تفرز أوضاعا جديدة قد تتعارض مع مبادئ دينهم، فيكون فقه الأقليات منهجا حقيقيا يستجيب لمقتضيات بات يفرضها الواقع الجديد بتحدياته وتعقيداته، للنظر والتعامل مع القضايا المطروحة على هذه الجالية التي تعيش خارج أرض الإسلام وتخضع لسلطة لا تطبق أحكامه وليس في مقدورها تغيير تلك القوانين.

إن الوقائع المستشكلة على الأقليات الإسلامية تفرض على الفقيه إعادة قراءة النص ليستوعبها في ظل التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومن ثم الحصول على إجابات جديدة وتفعيل الفتاوى وإدراجها في دائرة الاجتهاد الفقهي إذ" يعد إلى اجتهادات كانت مرجوحة، أو غير مشهورة، أو متروكة لسبب أو آخر من أسباب الترك، فيستدعيها وينشطها ويحييها، لما يُرى فيها من أسباب مناسبة لأوضاع الأقلية المسلمة تتحقق بها المصلحة، فيعالج بها تلك الأوضاع، في غير اعتبار لمذهبية ضيقة، أو عصبية مفوتة للمصلحة، مادام كل ذلك مستندا في الدين إلى أصل معتبر"[9]. ومن جهة أخرى، وأمام تحدي الغرب الذي يشتعل حبا في فرض التبعية بكل أشكالها وعولمة قيمه والدعوة إلى قيام إسلام أوروبي يسعى الغرب من خلاله إلى فصل الأقليات الإسلامية عن دينها الإسلامي، زيادة على مظاهر العنف المادي والرمزي والنظرة الدونية والاضطهاد المعنوي، والضغوط السياسية والمضايقات الأمنية التي يتعرض لها المسلمون في الغرب، وتزايد نمو مشاعر الكراهية ضدهم من قبل شرائح تتوسع باستمرار، كل ذلك يشكل هواجس حقيقية تجعلنا ننظر إلى هذه الأقليات الإسلامية من جديد في واقعها داخل فضاء الحضارة الغربية. ومن هذا الواقع، تكتسب الكتابة عن فقه الأقليات الإسلامية أصالتها وأهميتها، وتفرض العناية بها. ولعل اهتمام المملكة العربية السعودية بشأن المسلمين خارج حدود المملكة عامة، وبالشأن الفقهي للأقليات الإسلامية في البلدان التي لا تخضع للحكم الإسلامي خاصة، يمثل خدمة جليلة، ودعما قويا لهذه للأقليات من وراء الحدود الإسلامية، حرصا على التشبث بهويتها الإسلامية، وحفاظا على دينها وحماية لها من أي غزو ثقافي محتمل ومنعا لأي خطر قد يتسرب إلى الأجيال المسلمة اللاحقة في ديار المهجر. إن تقديم هذه الخدمة الجليلة من قبل القائمين على شؤون الفتوى في العالم الإسلامي لمن هم في أمس الحاجة إليها، يعتبر مكسبا كبيرا في تثبيتهم على دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وتحقيقا لتطلعاتهم المشروعة إلى حياة مستقرة آمنة في إطار العقيدة والشريعة الإسلامية باعتبارهم جزءا من الأمة الاسلامية، وما تمثله تلك العقيدة بالنسبة للمسلم بوصفها مرجعيته في تطبيق أحكامه التفصيلية. وعلى أية حال فإن " ملف الأقلية المسلمة في البلاد غير الاسلامية يبقى مفتوحا لمزيد من البحث والدرس والاجتهاد والمتابعة، على المستوى الفكري والفقهي والثقافي"[10]

وتنطلق إشكالية هذه الورقة من كون الوجود الإسلامي في ديار الغرب يتعاظم باستمرار، في الوقت الذي لا يحظى فيه الإسلام كدين برعاية الدولة في الغرب، فالدولة ذات طبيعة مدنية وعلمانية في الغالب، مما ولّد الشعور بالحاجة لدى الأقليات الإسلامية إلى معرفة رأي الدين في الوقائع المتجددة التي يصطدمون بها في بلاد المهجر، والتحديات التي تواجهونها في معيشتهم اليومية، فلا يمكن ترك هذه الجالية المسلمة في المجهول والضياع وعدمية الحياة تتخبط في مشاكلها دون تبيان ما ينبغي عليها فعله. وتتمثل فرضية هذه الورقة في: إنه يصعب التعامل مع الظروف التي يواجهها المسلمون المقيمون في الغرب في إطار القوانين الوضعية لتلك البلدان فقط، والتي تتعارض في معظمها مع جوهر ومبادئ الدين الاسلامي من دون اعتماد فرع فقهي يختص بشؤونهم، ويقوى على استيعاب الوقائع المتغيّرة في المجتمعات التي يعيشون فيها استنادا إلى شريعة الإسلام التي جاءت باليسر والسماحة، فالمشقة تجلب التيسير ﴿يريد الله ليخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا﴾[11].

وقد قسمت هذه الورقة البحثية إلى مقدمة، وثلاثة فصول: الفصل الأول يحمل عنوان: فقه الأقليات: المفهوم النشأة والتطور، والفصل الثاني يحمل عنوان: خصوصية وجود الأقليات الإسلامية في الغرب، والفصل الثالث:  ضرورة الاعتناء بفقه الأقليات وتأصيله، وخاتمة تتضمن جملة من الاستنتاجات والتوصيات.

فقه الأقليات: المفهوم، النشأة والتطور

يكون من المفيد في البداية تحديد المفاهيم التي تشكل محور الدراسة، والتي من أهمها: فقه الأقليات، فما المقصود بذلك؟

أما فيما يخص مفهوم الأقليات، فإنه توجد اختلافات كثيرة بسبب بنية المفهوم في حد ذاته والتفريعات الناتجة عنه والمبنية على أساس الدين أو اللغة أو العرق أو الحيز الجغرافي، وهذه العوامل تتحكم إلى حد بعيد في تمييز الأقليات في مقابل الأكثرية في أي مجتمع غير متجانس، ومن هنا تمثل الأقلية" كل مجموعة بشرية في قطر من الأقطار تتميز عن أكثرية أهله في الدين، أو المذهب أو العرق، أو اللغة أو نحو ذلك، من الأساليب التي تتمايز بها المجموعات البشرية بعضها عن بعض"[12]

أما الفقه في اللغة: هو الفهم، وقيل هو الفطنة، أي المهارة والحذق في التوصل إلى النتائج من المقدمات ومن ثم استنباط الأحكام. ‏وهذه الفطنة وهذا الحذق لا يتأتيان لكل أحد، بل لابد من موهبة أصيلة، وقدرة راسخة، وملكات فائقة يستطيع بها الفقيه الفهم والاستنباط الصحيح. ‏ أما الفقه في الاصطلاح فيطلق على ما يستنبط من أحكام الشرع التي تتعلق بأعمال المكلفين، من حيث حلها أو حرمتها، أو إباحتها أو كراهتها.‏ إذن فالفقه هو ذلك النبراس الذي يضيء للبشرية طريقها، فينظم علاقات الناس بعضهم ببعض، سواء ما تعلق منها بالأفراد أو الجماعات، كما أنه الطريق الموصل إلى تنظيم العلاقة بين العبد وربه عز وجل .[13]وفقه الأقليات الإسلامية: مفهوم يقصد به معرفة الأحكام الشرعية التي يحتاج إليها المسلمون المقيمون في بلاد لا تطبق الشريعة الإسلامية. أي علاج  المشكلات التي تتطلب حلا من الفقه الإسلامي في ضوء الشريعة الإسلامية" وقد كان دأب النظار من الفقهاء المجتهدين في كل زمان أن يعالجوا الأحوال الطارئة في حياة المسلمين بالحلول الشرعية، وأن يوسعوا الاستنباط الفقهي بالنسبة لتلك الأحوال التي لا يكون فيها من نصوص الوحي تفصيل ... بل كان من دأبهم أن ينتقلوا بالنظر الفقهي من تشريع الأحكام التفصيلية في معالجة تلك الأحوال إلى تأسيس القواعد والأصول المنهجية التي توجه ذلك النظر وتكون له ميزانا هاديا يُتحرى به ما يريده الله تعالى من أحكام في ترشيد الحياة، وتلك مهمة أدى منها الاجتهاد الفقهي في شأن أوضاع الأقليات المسلمة التي أفرزتها التطورات الماضية للتاريخ"[14].

أما إذا تأملنا المقاربات حول ماهية فقه الأقليات والذي يسمى أيضا فقه المهجر، نجدها تشير إلى أن هذا المفهوم لم يكن معروفا ومنتشرا في السابق، وذلك لعدم وجود فئات كبيرة من المسلمين يعيشون في بلاد غير إسلامية ما عدا بعض الحالات النادرة التي فرضها احتكاك المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى. ولكن موجات هجرة المسلمين نحو البلاد الغربية المستقبلة ارتبطت بشكل واضح بالحركة الاستعمارية التي رافقت نمو الليبرالية في أوروبا، ثم توسعت بعد الحرب العالمية الثانية لجلب اليد العاملة خصوصا لتحريك الآلة الصناعية التي تعطلت نتيجة الحرب العالمية الثانية، وهو ما فتح الباب أمام موجة الهجرات المتواصلة نحو بلاد الغرب، و" مصطلح فقه الأقليات مصطلح حديث لم يكن معروفا من قبل وقد نشأ مع تطور أوضاع المسلمين بالغرب وحاجتهم إلى فقه يعالج الإشكاليات الدينية التي تقابلهم في حياتهم والتي قد تكون في كثير منها مغايرة لما يقع للمسلمين في العالم الإسلامي وقد حدث جدل واسع حول هذه التسمية ولكن المجلس الأوروبي للإفتاء استقر على صحة استعمال مصطلح فقه الأقليات حيث لا مشاحة في الاصطلاح وقد عرفه بأنه الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام"[15]. وبهذا المعنى الأخير يختص فقه الأقليات الإسلامية بالمسائل الشرعية التي تهم حياة المسلمين داخل المجتمعات الغربية التي يستقرون فيها بشكل نهائي. وهو بالتالي كغيره من أشكال الفقه الأخرى مثل الفقه السياسي، والفقه الاقتصادي، والفقه الاجتماعي...

يطلق المفكر الفرنسي أليفييه روا OLIVIER ROY على الأقليات الإسلامية مفهوم الإسلام الأقلي ويقصد به" المسلمون المهاجرون إلى الغرب، والذين قرروا الاستيطان نهائيا في البلدان التي هاجروا إليها حيث يشكلون أقلية، ويسعون لإقامة هويتهم الدينية في مجتمعات علمانية وذات أصول مسيحية، ما يجعل سعيهم صعبا ومعقداّ"[16].

من هذا المنطلق نلاحظ أن فقه الأقليات الإسلامية نشأ مع اتساع دائرة الهجرة وتعاظم الوجود الإسلامي في ديار الغرب "إذ يمثل الوجود الإسلامي فيه ثقلا بشريا يقدر بحوالي اثنين وعشرين مليون مسلم في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية فقط"[17]، في حين تشير إحصائيات أخرى إلى ما يفوق هذا العدد بثلاث مرات" يعيش في أوربا اليوم في هذا الوضع ما يقارب الستين مليونا من المسلمين"[18]. وقد ذهب البعض إلى اعتبار هذا الوجود الكبير للمسلمين في الغرب والمرشح للارتفاع في المستقبل فرصة كبيرة يجب على المسلمين استثمارها لتقوية نفوذ الإسلام والدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية من داخل المجتمع الغربي، كما يعتبر جسرا حقيقيا للتواصل مع غير المسلمين لتبليغ رسالة الإسلام إلى الشعوب والأمم الأخرى التي لا تزال تجهلها من خلال تنشيط الحركة الدعوية وتطوير مؤسساتها، نظرا لما يحمله الإسلام من أبعاد إنسانية وحضارية تتسع للمسلمين ولغيرهم من حيث هو دين موجه للناس كافة" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"[19].

ومن بين القضايا التي تتصدر سلم الأولويات أمام المسلمين هي تصحيح الصورة المشوهة والنمطية المغلوطة التي كونها الغرب عن الإسلام والمسلمين، والتي يسعى إلى تسويقها عبر قنوات التضليل الإعلامي ووسائل التآمر التي يسخرها أعداء الإسلام وإصرارهم على التخويف من الإسلام. لقد صار الإسلام محل طعن وسخرية، وتوالت الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أقدس رمز بشري عند المسلمين. إن المتأمل يرى على النقيض من ذلك، أن التعارف الثقافي والتواصل الحضاري بين الجماعات البشرية يعد من صميم الدعوة الإسلامية تحقيقا لمقصدية الاستخلاف"﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾[20]

ولعل المبادرات الأولى للاهتمام بشأن الأقليات، كانت بإنشاء المجالس الفقهية مثل المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا للنظر في قضايا المهاجرين برؤى عصرية تراعي تبدل الحال والأحوال. وبالموازاة مع ذلك نشطت حركة إقامة المساجد وبناء المدارس لتعليم اللغة العربية لأبناء الجالية المسلمة وتفعيل دور المراكز الثقافية وتوسيع أنشطتها للتعريف بالثقافة الإسلامية، والمبادرة إلى إنشاء فروع البنوك والمصارف التي لا تتعامل بالربا، وغيرها من المؤسسات الأخرى التي تهتم بالشأن الديني والثقافي، كما لم تغفل تلك المبادرات عن القضايا المهمة التي تمس حياة المسلم  كاللباس والغذاء والاختلاط والحلال والحرام والزواج والطلاق والوظائف في القضاء والمؤسسات المالية.

وبما أن الدساتير في الغرب عموما تضمن الحريات العامة والخاصة للمواطنين، فإنه يصبح من حق الأقليات الإسلامية أن تعيش لدينها وعقيدتها في إطار حرية المعتقد التي يكفلها القانون، ولذلك فهي تحتاج إلى معرفة رأي الدين في الوقائع المتجددة التي تصطدم بها في بلاد المهجر، ومن هنا ظلت الأقليات الإسلامية عرضة لفوضى الفتوى من جهة، وإغراءات الحداثة الغربية من جهة ثانية. من هذا الواقع رأى الفقهاء، أنه لا بد من استحداث فرع فقهي جديد يتولى أمر الأقليات الإسلامية، غاياته حفظ الحياة الدينية لها في مجتمعات تتقاذفها أمواج اللائكية والتنصير والإلحاد والعلمانية والعدمية والفردانية القاتلة، ومعرفة الضرورة والحاجة التي يتسع إليها الفقه الإسلامي لاستيعاب الوقائع المتجددة وإيجاد مخارج دينية للمشكلات التي تواجه المسلمين في المجتمعات التي استقروا فيها بعد أن هاجروا إليها تحت ضغط الحاجة والضرورة. ولذلك فهو علم وضع لحاجة محددة فرضتها البيئة والظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على الأقليات الإسلامية في بلاد الغرب. ولذلك كان منهج فقه الأقليات يتفاعل مع الواقع ومتطلبات العصر ويقدم إجابات معاصرة لأسئلة الواقع والراهن، ولا يتعارض مع مبادئ الشريعة المطلقة ويستوعب في الوقت نفسه حركة التاريخ الخاضعة لمنطق التغير ويضبط العلاقة بين الثابت والمتغير، ويستند في ذلك إلى قواعد أصولية مثل: قاعدة مآلات الأفعال، وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وقاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، وقاعدة يجوز فيما لا يمكن تغييره ما لا يجوز فيما يمكن تغييره وغيرها من القواعد الأصولية التي تحقق الغاية في ضوء الشريعة الاسلامية ومقاصدها.

وبناء على ما سبق يمكن القول إن فقه الأقليات الإسلامية يشكل بؤرة الحركة الاجتهادية، وباب مخصوص من الفقه ينفرد بموضوعاته ومشكلاته، يبحث بمجمل الأحكام الشرعية المتعلقة بالمسلم، ويستند في ذلك إلى المرجعية الإسلامية المعلومة ويفتح أفقا للتوسعة يتجاوز بها حالات التضييق والمغايرة التي تفرضها القوانين الوضعية على المسلم في الغرب سواء في العبادات أو المعاملات، لأن الأصل في الاجتهاد هو التوسعة والإباحة والتيسير رحمة بعباد الله، والآيات الكريمة والأحاديث النبوية التي تدل على ذلك كثرة، مثل قوله تعالى في سورة البقرة: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [21]، وقوله تعالى في سورة المائدة: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون"[22]،

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا"[23] .

وهكذا يمكن القول بناء على ما سبق أن منشأ فقه الأقليات ومقاصده يتأسس على حاجة هذه الجماعة المسلمة إلى تنظيم حياتها في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية ضمن الضوابط الشرعية لتحافظ على كيانها وخصوصيتها في المجتمعات الغربية التي غالبا ما تحيا بعيدا عن مقتضيات الدين، ونظرا لأهمية تلك المقاصد في نظر الفقهاء والغاية منه نورد هذا النص ليوسف القرضاوي الذي يحدد فيه تلك المقاصد والأبعاد كما يلي:

1 أن يعين هذه الأقليات المسلمة أفرادا وأسرا وجماعات علي أن تحيا بإسلامها حياة ميسرة بلا حرج في الدين ولا إرهاق في الدنيا.

2 أن يساعدهم على المحافظة علي جوهر الشخصية الإسلامية المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشئ ذراريها على ذلك.

3 أن يمكن المجموعة المسلمة من القدرة علي أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم بلسانهم الذي يفهمونه، ليبنوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتي هي أحسن.

4 أن يعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل  معه تفاعلا ايجابيا... محافظة بلا انغلاق واندماج بلا ذوبان.

5 أن يسهم في تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها بحيث تحافظ علي حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسة التي كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات.

6 أن يعين هذا الفقه المجموعات الاسلامية علي أداء واجباتهم المختلفة... دون أن يعوقهم عائق من تنطع في الدين أو تكالب على  الدنيا ...

7 أن يجيب هذا الفقه المنشود على أسئلتهم المطروحة ويعالج مشكلات هم المتجددة في مجتمع غير مسلم ...في ضوء اجتهاد شرعي جديد صادر من أهله في محله [24].

خصوصية وجود الأقليات الإسلامية في الغرب

لقد شكلت المجتمعات الغربية مغنطيس الجذب والنموذج الأبرز لظاهرة الهجرة والمهاجرين والمهجّرين، حيث استقطبت الجاليات من مختلف القارات والأديان والثقافات. وتزداد اليوم هذه الظاهرة بوتيرة سريعة، وبطرق شرعية وغير شرعية ولأسباب متداخلة ومعقدة، حيث اتخذت أبعادا سياسية واجتماعية وديمغرافية وحقوقية وقانونية. وتمثل الأقليات الإسلامية التي حكمت عليها الأقدار بالهجرة إلى بلاد الغرب جزءا مهما من هذه الظاهرة العامة "الأقليات المسلمة بالغرب -على وجه الخصوص- تكونت في أساسها بموجة من الهجرات من البلاد الإسلامية عبر مراحل متتالية من القرن العشرين، ولم يكن المنضمون إليهم من الذين أسلموا من أهل الغرب إلا أعدادا قليلة بالنسبة لعدد المهاجرين. وقد كان أغلب هؤلاء المهاجرين إلى أوربا على وجه الخصوص من طبقة العمال، ثم انضم إلى العمال طلبة العلم، ثم انضم إليهم المضطهدون السياسيون، ثم انضمت إليهم أعداد من العقول المهاجرة، وبالتراكم الزمني أصبح لهؤلاء المهاجرين أبناء وأحفادا شكلوا ما يُعرف بالجيل الثاني وأصبح الآن الجيل الثالث قيد التشكل"[25]. ومهما اختلفت الفئات والشرائح التي شكلت موجة الهجرة خاصة نحو القارة العجوز إلا أنها تشترك كلها في أنها هاجرت تحت ضغط الضرورة والحاجة" إن القاعدة العريضة للأقليات المسلمة في الغرب هي قاعدة الحاجة فهم مهاجرون بدوافع الحاجة، إما طلبا للرزق، أو طلبا للأمن، أو طلبا للعلم، أو طلبا للظروف المناسبة للبحث العلمي، لذا كان هذا الوجود ـ في عمومه ـ وجود حاجة لا وجود اختيار"[26] . وبالنظر إلى تعاظم وجود الأقليات الإسلامية واتساع حجمها، وتزايد عدد أفرادها، فإنها أصبحت النموذج الأكبر للأقليات في المشهد الأوروبي، وتشكل واقعا داخل نسيج المجتمعات الغربية لا يمكن تجاهله، وهي تبحث عن ذاتها في خضم الصراع بين الثقافات والحضارات حفاظا على هويتها ومعالم شخصيتها. وعلى الرغم كذلك من وجود المسلمين المبكر في ديار الغرب، إلا أنهم لم يتمكنوا لأسباب ذاتية وموضوعية من تجاوز هذه الثنائية المركزية (الجيديو كريتياني) التي تطبع المجتمع الغربي، وظل ينظر للمسلمين كجسم غريب في المجتمع الغربي خارج هذه الثنائية، وبلا سلطة، ويوضعون في خانة العزلة والغرباء، وظل حضورهم في الغالب حضورا غير مرحب به، ولم يتمكنوا من انتزاع الاعتراف بوجودهم كمكون طبيعي من مكونات الاجتماع الغربي وكحقيقة دينية وثقافية واجتماعية من النسيج الاجتماعي" كل مسلم ينظر إليه كأنه مستورد حتى المؤمنون الجدد يوصفون بهذه الصفة، إذ يوضعون عموما في خانة الغرباء"[27].

لقد ظل الغرب يكتم أو يؤجل الاعتراف بهذه الحقيقة ويصرّ على إنكارها بل ويحاربها وهذا الإنكار البائس وغير المبرر ليس في مصلحته، ولا في مصلحة الأقليات الإسلامية التي ضحت وقدمت للغرب الشيء الكثير، فلا يمكن لأحد أن ينكر أو يجحد الفوائد الكبيرة التي يجنيها الغرب من وجود الجالية المسلمة. إن هذا الواقع لوجود الأقليات الإسلامية في الغرب، يتطلب تنشيط الحركة الاجتهادية حتى تتناسب مع أوضاعهم ـ من دون أن تخالف شرع الله في مجال الشغل والتعليم والعبادة والصحة والمصارف والقضاء وغيرها من المسائل حتى تتماشى مع ثقافتهم وهويتهم الإسلامية من دون الذوبان في ثقافة الآخر. وهذه مسألة أساسية يجب أن يحرص عليها المسلمون المغتربون لأنهم يتعاملون مع غير المسلمين وفي ظل أنظمة ومؤسسات غير إسلامية.

ولما كان العالم مقسما إلى مساحات ثقافية متباينة تتوزع فيها الشعوب حسب الهوية والانتماء، فإن التفكير في ترسيم فرع فقهي جديد يخص الأقليات الإسلامية، أصبح على سلم الأولويات لأنه الرابط بينها وبين انتمائها الروحي ويقضي على وهم المسافة التي تقيمها الهجرة، ويحفظ لها دينها ويتكفل بقضاياها التي تتطلب معالجة خاصة حسب ظروفها ومتطلبات الحاجة والضرورة، ومراعاة المصالح والمفاسد، بل ينظر في تلك القضايا وفق أصول وقواعد وأسس الاجتهاد المعمول بها لحماية مقاصد الشريعة الإسلامية المتمثلة في الضروريات الخمس: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، كما حددها الإمام الشاطبي رحمه الله المتوفى سنة 1388م."

وقد اهتم الفقه الإسلامي المعاصر بوضع الأقليات الإسلامية في أوروبا منذ بعض الزمن، واتجه إليه بالمعالجة الشرعية التي أثمرت فقها من الفتاوى والأحكام ظلت تثري الحياة يوما بعد يوم"[28].

ضرورة الاعتناء بفقه الأقليات وتأصيله

إن الاعتناء بفقه الأقليات هو من باب الاعتناء بجزء مهم من الوجود الاسلامي بالغرب وهو امتداد طبيعي للمسلمين فيما وراء الحدود الاسلامية. وفي ظل التقاطع والاحتكاك الذي لا مفر منه للأقليات الإسلامية مع المجتمع الغربي الذي تقيم فيه، اشتدت الدعوة لرسم إطار فقهي لها يتجاوز الفتاوى الظرفية إلى البحث في الاشكالات الفقهية الكبرى لتحقيق المصلحة وتكميلها وتجنب المفسدة وتحجيمها تحقيقا للمقاصد التالية:

أولاً: مقصد عام وهو المحافظة على الحياة الدينية للأقلية المسلمة على مستوى الفرد أو الجماعة.

ثانياً: التطلع إلى نشر دعوة الإسلام في صفوف الأكثرية مع ما يستتبع ذلك من تمكين تدريجي للإسلام في الأرض.

ثالثاً: التأصيل لفقه العلاقة مع الغير في الواقع الحضاري والعالمي وهو أمر قد لا يختص بالأقلية لتداخل الأوضاع العالمية لإيجاد حالة من الثقة المتبادلة والقبول.

رابعاً: التأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقلية بمعنى الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية[29].

ولقد زاد الاهتمام بأوضاع الأقليات الاسلامية التي تواجه تحديات خطيرة نتيجة قوة الحضارة الغربية التي تجتاح العالم، وما يثير الانتباه والقلق أكثر هو تلك الأصوات التي تتعالى في الغرب بالدعوة إلى قيام إسلام أوروبي يعاش كتجربة شخصية ويخضع للقوانين الأوروبية بعيدا عن الإسلام والثقافة الإسلامية المعروفين لدي المسلمين، وذلك بدعوى القضاء على التطرف الديني وقطع الطريق أمام الأصولية الجديدة وتصفية الحركات الإسلاموية، وإفراغ الدين الإسلامي من محتواه والإبقاء على بعض الطقوس والممارسات الشكلية، مثل ما نجد ذلك في تحليلات الفرنسي أليفييه روا OLIVIER ROY في كتابه الموسوم بـ نحو إسلام أوروبي، حيث يقول" من الآن فصاعدا ينبغي على الإسلام في أوروبا أن يصاغ خارج ثقافات المنشأ، وبالنسبة إلى ثقافة تجهله، تتجاهله، وحتى وإن كانت تتهاود معه"[30]. إن مثل هذه المحاولات ترمي إلى تغريب الإسلام، وإبعاد الأقليات الإسلامية عن دينها، ويمهد الطريق أمامها نحو الاغتراب الثقافي بإفقار الهوية الإسلامية من مرجعياتها وتمييعها وإفراغها من مكوناتها الجوهرية. ولكن الأقليات الإسلامية تعارض بشدة كل محاولات الاحتواء والتغريب وغسيل الدماغ. وهنا تكمن أهمية فقه الأقليات في مساعدتها على التمسك بوجودها الديني، وتميزها الثقافي أمام محاولات الاستدراج نحو ما يسمى بالإسلام الأوروبي وسلخها عن ثوابتها وتراثها وهويتها الإسلامية. من هنا صار تأصيل فقه الأقليات في هذا الزمن، الذي انتشرت فيه المحرمات، وكثرت فيه الشبهات، ضرورة قصوى، وخط دفاع مناعي لحماية  المسلم وتحصينه بالقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة والأخلاق الفاضلة حتى لا يزيغ في عمله وسلوكه وعبادته مع شرع الله، ويهيم في دائرة الحرام ويبتعد عن دائرة الحلال" ويحل لكم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث" [31].

والاهتمام بفقه الأقليات اليوم مطلبا أكثر إلحاحا، بسبب الانفتاح الذي يشهده العالم نتيجة التقارب بين الشعوب وتقلص الحدود في ظل فتوحات العولمة، وحرية تنقل الأشخاص والممتلكات والأموال في حركية معقدة تفترض التعامل معها بقدر كبير من الحيطة والحذر." وإذا كانت أوربا هي قلب الحضارة الغربية ومركز الثقل فيها، وإذا كان هذا الوجود المعتبر للإسلام والمسلمين فيها يمثل المظهر الأبرز للقاء المتفاعل بين الإسلام والغرب في عالم متغير، فكيف لا يكون من الأهمية بمكان أن تتجه الهمم العلمية لاجتهاد تأصيلي فقهي يوفق هذا الوجود الإسلامي لما فيه الخير لجميع القاطنين بهذه القارة ومن وراءهم من بني الإنسان"[32].

لا شك أن ضرورة الاعتناء بفقه الأقليات الإسلامية والتعريف بمزاياه وتأصيله مطلب جوهري يستدعيه وجود الجالية المسلمة، والاهتمام به هو من صميم الاهتمام بالدين وإهماله يعني تهميش عدد كبير من المسلمين وحرمانهم من التمسك بدينهم وثقافتهم الإسلامية وتركهم يتصرفون وفق أهوائهم فإن ذلك كله فساد في الدين. ولا سبيل لإنقاذ الأقليات الإسلامية من المفاسد والبدع والمنكرات وأشكال الإغواء ومفاتن الحضارة الغربية وسمومها، إلا بتنويرها بدينها وحثها على الاعتصام به، فالشريعة الإسلامية تقوم على احتواء ما يجدّ في حياة المسلم وتحميه من المنزلقات والمحرمات، وتتحرى أنجع السبل لتعثر على أفضل الحلول المناسبة. لذلك دعا العلماء والفقهاء إلى ضرورة تأسيس منهج أصولي للنظر الفقهي انطلاقا من قواعد منهجية أصولية تضبط مساره وتنظم حركته في شأن الأقليات الإسلامية تبعا لظروف بيئتها والبلاد التي تنتمي إليها وطبيعة القوانين الوضعية المطبقة في تلك البلاد، إن كل تلك الجهود المبذولة ستؤلف" منظومة متكاملة ذات غاية مشتركة تلتقي فيها جميعا عند هدف التأسيس لمنهج أصولي متميز ومتخصص يكون منهجا علميا شرعيا يعتمده النظر الفقهي في شأن الأقليات المسلمة، لينشأ منه فقه يعالج ذلك الشأن معالجة تبلغ به الآمال المعلقة عليه تعريفا بالإسلام في الديار الغربية فيما يشبه دورة جديدة للتعارف الحضاري بين الإسلام والغرب، ولكنها دورة تتأسس على أسس علمية، هي هذه القواعد الأصولية المنهجية التي تؤسس لفقه الأقليات، وهي في الحقيقة تؤسس لتبليغ الإسلام بالدعوة الحضارية السلمية"[33].

وكمثال عن الاشكالات التي يتعرض لها فقه الأقليات بالبحث والاجتهاد نجد فقه الأسرة المسلمة في الغرب، وهذا من باب حرص الدين الاسلامي على رعايتها والمحافظة عليها بالإضافة إلى التقليد الذي يجعل منها نواة المجتمع والبيئة التي توفر النمو الطبيعي للأفراد، ومن المشكلات التي تواجه الفقيه على سبيل المثال في هذا المضمار" الزواج من أوربية غير مسلمة للحصول على الإقامة...والزواج بامرأة عرفا على خلاف القانون، وتطليق المرأة قانونا، وهو متزوج بها فعلا، للحصول على معونة المطلقة"[34].

خاتمة

فقه الأقليات هو دائرة من الفقه العام يهتم بشأن حياة الجالية المسلمة في المهجر، يسعى إلى تقديم خطاب فقهي يستجيب ويقوى على مخاطبة مستجدات العصر من خلال تفعيل المنجز الفقهي في حاضر الإنسان من جهة، ومن جهة ثانية تطوير أساليب الاجتهاد الفقهية كما يقرّ العلماء بذلك، لأن الفتوى تختلف باختلاف المكان والزمان والحال والعرف حتى تكون الأحكام أقرب إلى معطيات الواقع التي يعيشها المسلم" من خلال فقه إسلامي معاصر، يراعي الزمان والمكان والعرف والحال"[35]، ففقه الأقليات يمثل مصفاة لحياة المسلم حيث يحصنه من متاهات الغزو الثقافي الذي يسعى إلى تذويب الخاص في الكلي، والمحلي في العالمي، كما يسعى بكل قوة لإفناء كل الثقافات واحتوائها داخل مركزية الثقافة الغربية. إن المسلم وهو يعيش في مجتمعات سيطرت عليها بقوّة إغراءات الحداثة تجعله يضيع ويتخبط في مشاكل حين لا ينضبط سلوكه بضوابط شرعية، وهذه بالذات هي وظيفة فقه الأقليات الإسلامية التي تقدم العلاج في الوقت المناسب لمشكلات العصر التي يواجهها المسلم في ديار الغرب التي لا يحكمها حكم الإسلام حتى يشعر هذا الأخير بالتوازن الروحي والعقلي والنفسي" والحق أن مشكلات الأقليات المسلمة لا يمكن أن تواجه إلا باجتهاد جديد، ينطلق من كليَّات القرآن الكريم وغاياته وقيمه العليا ومقاصد شريعته ومنهاجه القويم، ويستنير بما صح من سنة وسيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في تطبيقاته للقرآن وقيمه وكلياته"[36].

ومن مزايا فقه الأقليات الإسلامية تعديل الثقافة المنحرفة ونشر الثقافة الصحيحة لفائدة المسلم، بعدما لحقها من تشوهات بحكم قوة الاحتكاك بين الثقافة الاسلامية والثقافة الغربية، وذلك حتى تعيش الأقليات الإسلامية في ظل الإسلام وشريعته وأحكامه بعيدا عن فوضى الفتوى وتناقضاتها التي تضر أكثر مما تنفع" يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون"[37]، ومن ثم يكون المسلم نموذجا ومثالا للإسلام عقيدة وسلوكا حتى يصدق عليه وصف المسلم الشاهد على الناس، امتثالا لروح الإسلام ورسالته ومنهجه الوسطي فالإسلام دين الوسطية عقيدة وشريعة وأخلاقا بشهادة القرآن الكريم" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً"[38] .

إن وجود المسلمين في الغرب صار حقيقة لا ينكرها أحد، وحيث يوجد مسلم يوجد الإسلام، مما يدحض الادعاء القائل أن المسلم لا يستطيع أن يعيش إيمانه حقا إلا في مجتمع مسلم, ولكن المسلم المعاصر في الغرب في حاجة إلى وضوح ضوابط العمل والتصرف من خلال تفعيل آليات الفقه حتى يكون قادرا على تحقيق التكيف المناسب مع استشكال القضايا الجديدة والمتغيرات بما لا يناقض الشريعة، بل لا بد أن لا يتوقف الفقه عند هذه الحدود بل يتجاوزها إلى البحث عن آلأليات التي للمسلم بالمشاركة في الشأن العام وتبؤ المناصب حتى يحفظ حقوق المسلمين ويصون كرامتهم

" من واجب المسلمين أن يشاركوا في الحياة السياسية والاجتماعية بإيجابية، انتصاراً لحقوقهم، ودعماً لإخوتهم في العقيدة أينما كانوا، وتبليغاً لحقائق الإسلام، وتحقيقاً لعَالَميته. ولقد قلنا: إن ذلك "من واجبهم"؛ لأننا لا نعتبره مجرد "حق" يمكنهم التنازل عنه، أو "رخصة" يسعهم عدم الأخذ به"[39]. إن مثل هذا الفقه المتجدد يكون عونا للأقليات المسلمة لتجاوز المحن والصعوبات التي تواجهها في فضاء سمته الرفض وعدم تقبل الآخر حيث يتجلى ذلك في خطاب اتهام المسلمين بالتعصب والتطرف والسخرية من الاسلام حتى بدا يثير الخوف تحت وهم خطير هو الاسلاموفوبيا " وبانتظام تثير الروايات الصحافية والخطابات السؤال عن طبيعة هذا الإسلام الذي يلاحق أوروبا اليوم"[40]. لكن لنتساءل :" ما الذي يضر الغربيين؟: الإنسان المسلم المتعبد لربه، الملتزم بأخلاقيات هذا الدين في سلوكه مع ربه، وسلوكه مع نفسه، وسلوكه مع أسرته، وسلوكه مع المؤمنين من أمثاله، وسلوكه مع الآخرين ممن يخالفون في العقيد ة: هل هذا النموذج أولى أم نموذج الإنسان الذي لا دين له، الذي يعيش عاريا من الدين، لا عقيدة تستره، ولا شريعة تحكمه، ولا أخلاق تقوده، ولا قيم تسيطر عليه وتوجه مسيرته"[41] . وفي الأخير يضمّن أنصار فقه الأقليات بعد أخلاقيا يتمثل في البحث عن التعارف في سياق جدل الأنا والآخر" ولابد لهذا الفقه أن يتجاوز الدلالة السياسية لمصطلح الأقليات، لينفتح على مصطلح التعارف الذي يوحي بطبيعة العلاقات الإنسانية الإيجابية التي تجمع بين المسلم وجاره غير المسلم؛ لأن الأهم هو المعاملة الحسنة، والتصرف الطيب اللائق مع الآخر، مصداقا لقوله تعالى:" لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"[42].

في الختام نشكر كل القائمين على هذا الملتقى العلمي المبارك، أتمنى لأشغال مؤتمركم النجاح، يوفقكم الله إلى خدمة الأمة الإسلامية، ويسدد خطاكم إلى سبيل الرشاد، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

التوصيات:

(1) إنشاء مؤسسات بحثية متخصصة تعمل على تطوير فقه الأقليات وفق أحوال المهاجرين.

(2) دعم المؤسسات الإسلامية بالغرب لمتابعة شؤون الأقليات الإسلامية ومساعدتها على إيجاد الحلول لمشاكلها، خاصة تلك المطروحة على الساحة الأوروبية.

(3) على الغرب أن يضمن التعددية الثقافية وحق الأقليات في المعتقد، بما تحمله الهوية الإسلامية من مميزات وخصوصيات.

(4) ضرورة سن قوانين تحرم الإساءة إلى الأديان والرموز والمقدسات الدينية، وعدم التعسف في استخدام حرية التعبير.

 (5) التصدي بقوة للرد على الأصوات التي تنادي بقيام إسلام أوروبي بهدف ضرب الإسلام وتشتيت الصفوف وتفريق الكلمة.

 (6) التركيز على نشاط المراكز الثقافية والمؤسسات العلمية خارج الديار الإسلامية لتوسيع حظوظ انتشار الثقافة الإسلامية والتعريف بها، في عالم يسعى بكل قوة إلى إفناء كل الثقافات لصالح قطبية الثقافة الغربية.

 

د. نابي بوعلي – معسكر - الجزائر

جامعة مصطفى اسطمبولي

..............................

* بحث القي في مؤتمر الفقه الإسلامي الدولي الثالث، فقــه الأقليات الإسلامية يومي (3ـ 4 / 2 / 1437 هـ  ) الموافق (15ـ 16 /11 / 2015م. تنظيم كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، المملكة العربية السعودية

الهوامش

1- عبد الله بن بيه، صناعة الفتوى وفقه الأقليات، http://www.saaid.net/book

2ـ سورة لقمان، الآية20.

3ـ سورة الحج، الآية78.

4 ـ سورة العنكبوت الآية69.

5 ـ  يوسف القرضاوي، في فقه الأقليات المسلمة، دار الشروق، الطبعة الأولى، سنة 2001.

6 ـ الإمام الشاطبي، الاعتصام.

7 ـ   يوسف القرضاوي، نفسه.

8 ـ عبد المجيد النجار، نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب، http://www.feqhweb.com

9 ـ   خالد محمد عبد القادر، من فقه الأقليات، كتاب الأمة،  قطر، العدد61، سنة 1418هـ.

10 ـ  سورة النساء، الآية28.

11 ـ  يوسف القرضاوي، فقه الأقليات، ص15.

12 ـ  http://majles.alukah.net/ /

13 ـ  عبد المجيد النجار، نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب، http://www.feqhweb.com

14 ـ  حسن حلاوة، فقه الأقليات عند الشيخ القرضاوي، ملتقى الإمام القرضاوي، قطر 2007.

15 ـ أليفيه لوروا، نحو إسلام أوروبي، تعريب خليل أحمد خليل، دار المعارف الحكمية، الطبعة 1، سنة 2010.

16 ـ صالح بن عبد الله الدرويش: أثر الضرورة والحاجة على أحكام ممارسة الأقليات المسلمة للأعمال التالية: المحاسبة – المصارف- الوظائف العامة كالقضاء والنيابة والمحاماة، المؤتمر السنوي الخامس، البحرين، 2007.

17ـ عبد المجيد النجار، نفسه.

18ـ  سورة الأنبياء، الآية107.

19ـ سورة الحجرات، الآية13.

20 ـ سورة البقرة، الآية185.

21 ـ سورة المائدة، الآية06.

22 ـ رواه مسلم.

23 ـ   يوسف القرضاوي، نفسه.

24 ـ عبد المجيد النجار، نفسه.

25 ـ صالح بن عبد الله الدرويش: أثر الضرورة والحاجة على أحكام ممارسة الأقليات المسلمة للأعمال التالية: المحاسبة – المصارف- الوظائف العامة كالقضاء والنيابة والمحاماة، المؤتمر السنوي الخامس، البحرين، 2007.

26 ـ  أليفييه روا، نفسه.

27 ـ  عبد المجيد النجار، نفسه.

28 ـ  عبد الله بن بيه، نفسه.

29 ـ  أليفييه روا، نفسه.

30 ـ  سورة الأعراف الاية157.

31 ـ  عبد المجيد النجار، نفسه.

32 ـ عبد المجيد النجار، نفسه.

33 ـ  يوسف القرضاوي، نفسه.

34 ـ  طه جابر العلواني، نظـرات تأسيسية في فقه الأقلياتwww.feqhweb.com

35 ـ  سورة الأعراف، الآية 31،32.

36 ـ  سورة البقرة، الآية143.

37 ـ  طه جابر العلواني، نفسه.

38 ـ  أليفيه روا، نفسه.

39 ـ  حسن حلاوة، نفسه.

40 ـ جميل حمداوي، من فقه الأقليات إلى فقه التعارف، www.alukah.net

[1] ـ عبد الله بن بيه، صناعة الفتوى وفقه الأقليات، http://www.saaid.net/book

[2]ـ  سورة لقمان، الآية20.

[3]  سورة الحج، الآية78.

[4] سورة العنكبوت الآية69.

[5] يوسف القرضاوي، في فقه الأقليات المسلمة، دار الشروق، الطبعة الأولى، سنة 2001، ص 40.

* (اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)

[7] الشاطبي، الاعتصام ص817.

[8]  يوسف القرضاوي، نفسه، ص 24.

[9]ـ  عبد المجيد النجار، نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب، http://www.feqhweb.com

[10]  ـ خالد محمد عبد القادر، من فقه الأقليات، كتاب الأمة،  قطر، العدد61، سنة 1418هـ،  ص 38.

[11]  ـ سورة النساء، الآية28.

[12] يوسف القرضاوي، فقه الأقليات، ص15.

[13]  http://majles.alukah.net/ /

[14] عبد المجيد النجار، نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب، http://www.feqhweb.com

[15] حسن حلاوة، فقه الأقليات عند الشيخ القرضاوي، ملتقى الإمام القرضاوي، قطر 2007، ص6.

[16]  أليفيه لوروا، نحو إسلام أوروبي، تعريب خليل أحمد خليل، دار المعارف الحكمية، الطبعة 1، سنة 2010، ص18

[17] صالح بن عبد الله الدرويش: أثر الضرورة والحاجة على أحكام ممارسة الأقليات المسلمة للأعمال التالية: المحاسبة – المصارف- الوظائف العامة كالقضاء والنيابة والمحاماة، المؤتمر السنوي الخامس، البحرين، 2007، ص3.

[18] عبد المجيد النجار، نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب، http://www.feqhweb.com

[19] ـ سورة الأنبياء، الآية107.

[20]  سورة الحجرات، الآية13

[21]  سورة البقرة، الآية185.

[22]سورة المائدة، الآية06.

[23]  رواه مسلم.

[24]  يوسف القرضاوي، نفسه، ص34.

[25]عبد المجيد النجار، نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب، ص14. ttp://www.feqhweb.com

[26]  صالح بن عبد الله الدرويش: أثر الضرورة والحاجة على أحكام ممارسة الأقليات المسلمة للأعمال التالية: المحاسبة – المصارف- الوظائف العامة كالقضاء والنيابة والمحاماة، المؤتمر السنوي الخامس، البحرين، 2007، ص7.

[27]  أليفييه روا، نفسه، ص107.

[28] عبد المجيد النجار، نفسه، ص11.

[29]  عبد الله بن بيه، نفسه.

[30]  أليفييه روا، نفسه، ص97.

[31] سورة الأعراف الاية157.

[32]  عبد المجيد النجار، نفسه.

[33] عبد المجيد النجار، نفسه.

[34]  يوسف القرضاوي، ص6.

[36] طه جابر العلواني، نظـرات تأسيسية في فقه الأقلياتwww.feqhweb.com

[37]  سورة الأعراف، الآية 31،32.

[38]  سورة البقرة، الآية143.

[39]  طه جابر العلواني، نفسه.

[40]  أليفيه روا، نفسه، ص28.

[41] حسن حلاوة، نفسه، ص32.

[42] - جميل حمداوي، من فقه الأقليات إلى فقه التعارف، www.alukah.net

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم