صحيفة المثقف

عن الأولياء

مجدي ابراهيم"وَاصْبر نَفْسَكَ مَعَ الذَّين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة وَالغَشي يُريدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُو عَيْنَاكَ عَنْهُم تُريدُ زينَةَ الحياة الدُّنيَا وَلا تُطَع مَنْ أغَفلنا قَلْبَهُ عن ذكرنا واتَّبَع هَواهُ وَكَانَ أمرُهُ فُرَطاً" (الكهف: آية 28).

الكتابة عن أولياء الله فوق كونها متعة وهداية وتذكار وتبصير فهى كذلك ضربٌ من المُعاناة، وتمثل تطلعاتهم الروحية واستكشاف أثار تجاربهم المعرفيّة معاناة أخرى، تُضَاف إلى تلك المعاناة التي تظهر من الوهلة الأولى لدى الباحث حين يدرك أنه لن يستطيع أن يسبر غور الشخصية المختارة على بساط البحث من جميع جوانبها والإحاطة بها من كل أطرافها؛ وذلك لأنها تبدو بالنسبة إليه كما لو كانت شخصية مُغْلقة غامضة تُحاط بالأسرار رغم بساطة أثارها وسهولة أفكارها وآرائها. ولعلَّ السرّ في ذلك يرجع إلى تجربة العارف نفسه؛ فكما أن العارف يعاني في تجربته معاناته في أحواله ومنازلاتها، فكذلك لابد لمن يتناوله بالدراسة والتحليل أن تنسحب عليه تلك المعاناة وأن يتذوق منها ما من شأنه أن يقوده التذوق إلى رقي الفَهم، وإلى شعور التعاطف، وإلى صواب التخريج لعباراته وإشاراته؛ وليس هذا بالشيء القليل.

وإذا كان التصوف تجربة ليس هو بالفلسفة ولا هو بالنظرية؛ فمن المؤكد - رغم اتفاق المشرب الواحد والمنهج الواحد بين جميع الصوفية بغير استثناء - أن لكل متصوف خصوصيته يُضيف من خلال تجربته ما ليس موجوداً في تجارب سواه، حتى ولو كان هذا السّوى شيخه في التربية والترقية برغم وجود وحدة الروح التصوفيّة في الإسلام.

ومن هنا، يجيء التأثير في مجال الفلسفة ليس هو التأثير القائم في حقل التصوف - ولن يكون - فيما لو عَوَّلنا التعويل كله على التجربة الصوفية واختلافها عن الفكرة الفلسفية، فمن السهولة بمكان تحديد مصادر الفيلسوف ومعارفه التي أستقى منها فلسفته، وكذلك الأمر يُقال في المتكلم؛ في حين يصعب قوله في التصوف؛ إنما التأثير في مجال التصوف انتقال سر إلى سر ووراثة حال عن حال، وليس هو بتبني فكرة نظرية ووراثة مَقال عقلي؛ وذلك لأن الصوفي يعطي من ذاته، ويجود من تجربته خاصّة، ويفيض من تلك التجربة فيما عَسَاهُ يتصور ويرتأى. الصوفي ابن وقته؛ ومعنى كونه ابن وقته يعنى ابن حاله، وابن تجربته، وابن معاناته الخاصّة، فكرته هى نفسه، ورأيه هو ذاته، وإشاراته ومعارفه وشذراته من أنفاسه خَاصَّة.

وما يُقَال عن هذه الجزئية يُقال كذلك عن العملية النقدية التي تجرى في الغالب بطريقة عشوائية في هذا الميدان بين كثير من الباحثين؛ فالنقد في ميدان التصوف ليس كالنقد في مجال الفلسفة؛ لأن مَنْ حَرَمَ الذوق في حقل التصوف أَنَّىَ له أن يمضي على بصيرة من إدراك لإشارات العارفين؟! لا شك أنه في تلك الحالة سيخبط خبط عشواء، وسيكون نقده من أول وهلة مردوداً عليه؛ فما يُقَال في مجال الفلسفة نقداً لا يُقال بنفس الكيفية في مجال التصوف.

ولو أنك أعملت العقل الفلسفي في ميدان التصوف العملي خَاصَّة؛ لحذفت وصايا الشيوخ ونصائحهم من قائمة الكلام المقبول؛ ولاسيما شيوخ القرن العاشر، فلابدّ من معيار آخر غير العقل تُقَاس به تجارب الأولياء وشذور العارفين، وإلا كنا كمن يريد أن يقيس الشيء وهو يجهل كيف يُقاس.

وليس من مشروعية النقد أن تتخذ من العقل مطيةً لنقد التصوف وأنت تعرف مُسَبَقَاً أنه قائمٌ على منهج ذوقي لا يجوز محاكمته بالعقل وحده معزولاً عن منهجه الخاص به. ودليلينا على ذلك هو أن القوم أنفسهم، على مدار تاريخهم الطويل كانوا نَقَدَةً على الأصالة : أهل طَهَارة ونظافة، ليس في الظاهر فحسب ولكن في الباطن أيضاً، ينقدون أنفسهم بأنفسهم أشدّ النقد ويطهرونها من الداخل فيتطهر بها من الباطن حقل التصوف برمته. كانوا لا يَتَوَرَّعون عن نقد بعضهم بعضاً نقداً ذاتياً، لكن هذا النقد لا يجري كيفما أتفق خَبْط عشواء، بل يصدر عن فهم وملاحظة وغيرةً على الطريق أن يلوثه ممَّن لم يكن منه، فإذا التصوف من خلالهم يتطهر ذاتياً ممّا لحق به من لوثات الأدعياء وغرور المنتسبين إليه خطأ وهم ليسوا منه.

والأمثلة التي تبيّن النقد الذاتي في التصوف : شخصيات ومذاهب لا حَصَر لها سواء في التصوف السني أو في التصوف الفلسفي وعلى مدى القرون الماضية جيلاً وراء جيل : فعل ذلك كبار المتصوفة كالحارث المحاسبي (ت 243هـ) وأبي طالب المكي (ت 386هـ) والحكيم الترمذي (ت 285هـ) ومن تلاهم من صوفية القرن الثالث والرابع، ثم القشيري (ت 465هـ) والغزالي (ت 505هـ) من صوفية القرن الخامس، والسَّهْرَوَرْدي المقتول سنة 587هـ وابن عربي (ت 638هـ) وابن سبعين (ت 669هـ) من صوفية القرن السادس والسابع؛ ومن عاصرهم أو تلاهم ممَّن نهج منهاج التصوف السني خاصَّة من رَوَّاد المدرسة الشاذلية : أبو الحسن الشاذلي (ت 656هـ) وأبو العباس المرسي (ت 686هـ) وابن عطاء الله السكندري (ت 707هـ) وابن عباد الرندي (ت 790هـ) شارح الحكم العطائية، والشاطبي في كتابه الاعتصام، ثم لما تَفرَّعَت المدرسة الشاذلية من بعدُ وانتشرت في المشرق والمغرب وانتسبت إليها الطرُق الفرعية ظهر رواد دانوا بالولاء إليها وأسسوا فروعاً لها كان من بينهم من أتخذ من النقد تطهيراَ للساحة الصوفية مما يُعَكر صفائها فظهر على سبيل المثال الشيخ زَوُّرق (ت 899هـ) في عُدَة المريد الصادق وقواعد التصوف، والشيخ أحمد بن عروس مؤسس الطريقة العروسية في تونس وليبيا؛ وعبد الواحد الدُّكالي في ليبيا، وهو رفيق الشيخ زَرُّوق، ثم ظهر الشيخ عبد السلام الأسمر مُجدد الطريقة العروسيّة الشاذلية في رسائله ووصيته الكبرى، ثم جاء من بعدهم في المغرب ابن عجيبة الحسيني؛ في كتابيه "التشوف إلى معراج التصوف"، وفى "إيقاظ الهمم في شرح الحكم"؛ وغيرهم، غيرهم؛ ممَّا يصعب حصره في هذا المقام.

ومن هنا، وجدنا النقد بالنسبة إليهم جميعاً إصلاحاً للسلوك الديني وتخلقاً بالخُلق الصالح ليس نقداً من أجل النقد فقط، بل من أجل غاية أسمى من مجرد "النقد" أو (النقض = الهدم)؛ هى بلا شك التربية ثم التغيير والإصلاح باعتبارهما تبْعَة دينية مفروضة فرضاً على القادرين عليها تمهيداً للدخول في مراحل التحقق.

ليس من مهمة الباحث أن ينقد لمجرد النقد ليجيء نقده نقضاً وكفى، ولا من مهمته أن ينساق وراء آراء مَنْ يبحث في آثاره ممَّنْ كان اختاره لنفسه موضوعاً لبحثه من الأولياء والعارفين انسياقاً لا يَدَع له وجهة النظر تحتملها أذواقه هو، وتدلُ من أقرب طريق على شخصيته. وليس من بديهيات النظر عقلياً ومعرفياً أن يزعم لنا أحد أن منظوره إلى الحقيقة لهو المنظور المطلق المعصوم الذي لا يقبل الخطأ أو أنه الصواب النهائي الذي لا يحتمل المراجعة والتصحيح. لستَ تَجد هذه النزعة الطائشة لدى صوفية الإسلام سواء على مستوى الإيمان أو على صعيد الرأي والتفكير. كان القوم أهل إصلاح ولم يكونوا أهل غطرسة وكبرياء؛ دانوا للحقيقة ولم يَدَّعوا امتلاكها، وَتَوَقَّحَ عليهم المتوقحون وتطاول السفهاء فلم يثنهم ذلك عن قصودهم العالية، فلئن كانوا قد أخطئوا فيما ليس لهم فيه حيلة، فليسوا هم بالمعصومين الذين يدعون امتلاك الحقائق المطلقة، وإنْ كانوا بالطبع من المحفوظين؛ فللولي الحفظ وللنبيّ العصمة.

ومن هنا تجيء مهمة الباحث فيما نتصور أن يُضْفي من ذوقه الخاص وفكرته المُستقلة تخريجاً لإشارات العارفين على هذا الذي أمامه ممّا يقرأ أو ينظر أو يستسيغ؛ وهذا وحده كفيلٌ بمعاناة الكاتب فيما لو أراد لنفسه أن يتذوق آثار الأولياء. إنّ هذا التذوق نفسه ضربٌ من التجربة يعاني فيها الكاتب ما يُعَانيه لتتوحد شخصيته مع من يبحث لمعرفة ما عَسَاهُ يقف عليه ممّا أراد لصاحبه أن يتولاه بالرعاية والعناية فيما أقرّه من رأي أو فيما غاب عنه ممَّا لم يدرك له معنى ولا فحوى.

وعندي أن هذا (المنهج الذوقي) خَاصَّة لهو المنهج المناسب - إنْ لم يَكُن الوحيد في تقديري - لمعالجة موضوعات التصوف بعرفان يلائمها ويتناسب مع استبصارها الذوقي ويترقى إلى إدراك مواجيد أصحابها كلما ترقى المستخدم له في نفسه أولاً وقبل كل شيء.

إذا نحن أردنا أن نكون نَقَدَةً على الأصالة في هذا المجال فلا مناص من أن يجيء نقدنا من الباطن، نمتثل الوعي الصوفي ونتفهمه ذوقاً ومعرفة ومعايشة من الداخل، ولا نخبط إزاءه خَبْطَ عشواء؛ كيما نقدم رؤيتنا كلية جامعة لتكون أقربُ إلى الوصف والتحليل منها إلى عشوائية النقض الهدام الذي لا يُبقي ولا يذر أو بالاصطلاح الصوفي أن نَتَعرَّف - قبل أن نتوقَّح - على "مذهب أهل التصوف" تماماً كما سَنَّ الكلاباذي كتابه "التعرُّف لمذهب أهل التصوف"، بتواضعه الشديد، ليكون نموذجاً يُحْتَذَى حقيقيةً إزاء علوم القوم ومعارفهم؛ لأن التَّعَرُّف الصحيح للتصوف أسلم للباحث من الإنكار العقيم يستند عليه معول النقد الهَدَّام.

أعود على ما بدأته فأقول؛ إن حديثاً شريفاً ينهض بحياة الأولياء والعارفين كيما تصبح صورة تعطي من ذاتها "ذكر الله" الذي أمر الله بذكره الكثير في الكتاب العزيز:" وأذكر رَبَّكَ إذا نسيت " جاء في معناه:" إن أولياء الله إذا هُم رؤوا ذُكرَ الله "؛ فإذا رئي العارف ذُكر الله، على معنى أنه حين يُرى الولي يستلزم حدوث الذكر في نفس الرائي ولو لمدة يسيرة؛ ومادام الأصل هو الذكر والنسيان عرضٌ طارئ صار ذكر الله في مشاهدة الولي ضرباً من ضروب الوصلة (وصلة التقريب) التي بدونها تحدث الغفلة؛ لأن نسيان الله ليس أصلاً بل عرض طارئ ولكنه يستلزم التوبة، ومادام النسيان عرضاً أصله الغفلة؛ فإنه يؤدي بالضرورة إلى وجوب التوبة، فقد استوجبت التوبة من الغفلة التي هى أشد الذنوب رؤية العارفين فيما لو شوهدوا، حتى إذا ما شوهدوا أو رؤوا ذُكر الله، وفى ذكر الله تكون التوبة ثم تتدرج صعداً إلى الإنابة، فالأوْبَة.

من ذلك صارت صحبة الأولياء والصالحين تفيد استنزال الرحمة، وصحبة العارفين ذكرٌ لله وحضورٌ بين يديه.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم