صحيفة المثقف

مقدمتي لکتاب تحقيق عادل السّكرانيّ

توفيق النصاريتحقيق عادل السّكرانيّ في أبوذيّات عبّود الحاج سلطان الزّرقانيّ

يُعدُّ الشّاعر عبّود بن الحاج سلطان بن مُحييّ الزّرقانيّ والمعروف بـ"عبّود الحَييّ سلطان الزّرگانيّ"، من أبرز شعراء الأبوذيّة في الأهواز حيث بقيت أبیاته تتناقل من جيلٍ إلى جيل وظلّ اسمه محفورًا في وجدان الشعب الأهوازيّ فهو تفوَّق على أغلب شعراء عصره ممن كتبوا هذا الفن، مثل المُلّا محمّد المايود ويْفير البْحير السلامي وغيرهما وذلك بشهادة ما وصلت إلينا من أبيات أبوذيّة تعودُ لتلك الفترة.

والمهتمون بالشِّعر الشَّعبي قد أعجبوا بأبيات عبّود الزّرقانيّ حتَّى قالوا: "عبّود ينحت من صخر ومحمد المايود يغرف من بحر" ومدار الشِّعر الفاخر آنذاك كان قوته ومتانته لا ليونته وسلاسته!

ولد عبّود الزّرقانيّ بجوار شط الناصريّ في مدينة الفلاحيّة ولكن لم يتم تقييد سنة ميلاده إلا أنه عاش في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وعاصر فترة حكم الشيخ خزعل وأسره عام 1925 وسياسة "كشف الحجاب وتغيير الملابس" الرضاخانيّة التي تمَّ اعتمادها بعنوان قانون "توحيد الملابس داخل ايران"، في 31 ديسمبر 1928. ویقال أنَّ شاعرنا تركَ الفلاحيَّة قاصدًا العراق بعد تنفيذ هذه السّياسة القسريّة وإجبار العرب علىٰ خلع ملابسهم وارتداء الملابس الغربيّة، فكتب معترضًا:

يَا گلبي، دوم، من سابج،

لك انهاي !

الك

غايه

 وْصَلت حدها،

 لك نهاي !

المصايب هَا ال مضت، هانت، لكن هاي

عظيمه،

ودونها، تْهون،

المنيّه !

ولٰكنه عاد إلىٰ الفلاحيَّة وتُوفيّ فيها وبقيت له ذكرى طيبة بين الفلاحيين خاصة والأهوازيين عامة ولاتزال أبياته تجري علىٰ أفواه الشّعراء وهواة الشِّعر على حد سواء في مجالس السَّمر والنّواديّ الشّعريّة؛ ويشكل أحد أضلاع مثلث الأبوذيّة الأهوازيّة إلى جانب المُلّا محمّد المايود والمُلّافاضل السَّكراني الملقّب بـ "أمير الأبوذيّة"، فهولاء الثّلاثة منحوا الأبوذيّة لونًا أهوازيًا خاصًا وطوّروها حتَّى تميّزت عن الأبوذيَّة العراقيّة. واِهتمَّ الزّرقانيّ بالأبوذيَّة وفردَ لها وَقتهُ وجُهدهُ فلم يصل لنا من شعره غيرها وهي من أكثر ألوان الشّعر الشّعبي شهرةً وانتشارًا واستعمالًا في الأهواز. والأبوذيّات رُباعيات تنظم علی البحر الوافر، مؤلفة من أربعة أشطر، الثلاثة الأولی منها ذات قواف مجنسة جناسًا كاملًا، والرابع يختم بياء مشدّدة مفتوحة وهاء ساكنة. وأصل التسميّة كما يبدو لي هو "أبو ئيّه" ومعناه حرفيًّا (الشعر الذي ينتهي بـِ"ئيَّه") لأن الأبوذيَّة تختم دائمًا بكلمة على وزن ئيّه مثل: بيَّ، وفيَّه، ثم لتسهيل النطق تحوّلت إلى أبوذيّه. وهناك فن آخر يشبه الأبوذية

يُعرف في العراق بـ "ابو الهات" وقد سُمي على نفس الطريقة.

لقد ساهم فن الأبوذيّة نظرًا إلى عدم وجود مدارس ومؤسسات ثقافيّة ترعىٰ اللغة العربيّة، في الحفاظ على لغة الضّاد حيث نقل المفردات والعبارات والكنايات وكثيرًا من القضايا التاريخيّة والاجتماعيّة المهمة جيلًا بعد جيل لتصل إلينا اليوم؛ وفي منتصف القرن الماضي أصبح أداةً تعبيريّةً واسعة الانتشار عبّر من خلالها أبرز الشّخصيات السّياسية الأهوازيّة عن أفكارهم، ومشاعرهم، ومُشكلاتهم، وما يؤمنون ويعتقدون به.

ويقوم فن الزّرقانيّ في الأبوذيّة على الخيال الحسّيّ الدقيق وتتبُّع المعنىٰ والتنسيق وأسلوبه فخمٌ متينٌ وغنيٌ بالتشابيه البارعة والاستعارات الأنيقة التي يلجأ إليها للتأثير والمعاني في أبوذيّاته كثيرة وفيها ابتكار.

سناهَا، للبدر، يشبه،

و سنهَا

عقيق

و

 ليلُوِ، شفاها، وسنهَا

أود

عيني، بسبب

عافت

 وسنهَا

و الوم، علىٰ

العگل، چي ثبت، بيَّ !

 

ويكشف لنا هذا المقبوس أن شاعرنا كان يجيد البلاغة العربية فالنص يشتمل على عدة محسنات معنوية مثل الجمع

وهي أن يُجمع بين شيئين أو أشياء في حكم واحد "سَنَاهَا لِلبَدرْ يِشْبَهْ وَسِنْهَا" فقد جمع بين السناء وبين

السِن في

البدر؛ أو الطباق وهو أن يجمع بين معنيين متضادين كما في جمع شاعرنا بين "عافت" و"ثبت"؛

أو التناسب ففي الأبوذيّة العقيق واللؤلؤ،

يشتركان في القيمة والثمن الباهظ وأيضًا في الجنس، والشفاه

والسن، يشتركان في الفم، فناسب بين العقيق واللؤلؤ وأيضًا بين السِّن

والشّفاه؛ أو محسنة الغلو في " سناها للبدر يشبه " إذ وصف نور وجهها بما يستحيل وقوعه عقلًا وعادة؛ أو محسنة المبالغة، فتشبيه لون الشفاه

بلون العقيق الأحمر ممكن عقلًا دون عادة، أو هو بعيد الوقوع عادة .

 

وكان شاعرنا قد نظّم أبياته في مجال الغزل والرثاء والمواعظ والحكم والحماسة، ولعلّه كان یهدف من وراء الشّعر الحماسي إلى تعزیز نزعة الإباء في نفوس الأهوازيين فضلاً عن رسم صورة الآخر.

نيران

1927 او ذيات الحرب، بِالسّيف،

 

ويهين

بْعجل، حتّىٰ

يذلّ، الصّعب، ويْهين

الثّار، يريد: تچسي الأرض

 ويهين

ويه

نار، و

دما

ال

يغطي الوطيّه !

 

وإن أبوذيات الشّاعر تدّل علىٰ تأثّره بالشعر الفصيح،

فتحتوي علىٰ مفردات وصور وتراكيب مستخدمة في قصائد فصحىٰ

من عصور مختلفة. يقول الشاعر الفصيح:

اني لأخشى

ان دنوت للثمها

من عقرب الصدغين في اللسعات

فكتب عبّود متأثرًا كما يبدو:

يَا

 ادعج ،

خجّليت

 البدر،

 بسناك !

سبيت

 

اللّيلُوِ

المكنون،

 بسناك !

لو

ما

عگرب

الصّدغَين،

 بسناك

رشفنَا ، السّلسبيل

 ال

عذب،

 مَيّه !

ويقول شاعر آخر:

تركت عزيز القلب، لا

عن

ملالة

و لٰكن جنىٰ

ذنباً يؤول إلىٰ

الترك

 

فیتأثر شاعرنا ویكتب:

 

لمىٰ

 ناهي، دوَا، لْعلتي،

 تركته

و

 كتلني، ال

 لون

 وجناته،

تركته

( لا

 عن

 ملل،

محبوبي،

تركته

جنىٰ

ذنب ال يؤول، لترك، ليَّ ! )!

أيها القارئ الكريم، لم نجد شيئًا دوّن من الشّعر الشّعبي المكتوب في الفترة

مابين 1900 إلى 1960، نسمع أسماء كثيرة مثل طاهر اسحاق القيّم، ومزبان الأميري ويْفير البحير، ومنّان الشبيب، وفالح الدسبول وغيرها ولكن لا نجد كتبًا تطلعنا على أدبهم وأن معظم أشعارهم قد عفىٰ عليها الزّمان وتراكمَ عليها غبار النّسيان لتغلّب الطبيعة الشّفويّة علىٰ الشّعر الشّعبي الأهوازي في مراحله السّابقة؛ لظروف تاريخيّة معقّدة لا يسع المجال لذكرها، حيث كان يُتوارث عصرًا بعد عصر، باعتماد المشافهة وكان يرويه عادةً كبارُ السّن ممن عاصروا وعايشوا حقبًا تاريخيّة، وكلّما كانَ الراوي معمَّرًا قويَّ الحافظة كانَ مخزونه من الشِّعر كثيرًا؛ إلا أن هذا المخزون كان يُروىٰ

في المجالس للتسليّة والتفكُّه، ونادرًا ما يتم تسجيله عند سماعه؛ لذا ضاع كثير منه مع موت حَفَظته، إلا أن شاعرنا كان من ضمن الشّعراء الذين يجيدون الكتابة والقراءة

حيث درس اللغة وتعلّمها عند المُلّا مُظفَّر بن المؤرخ المُلّا علوان الشويكي؛ فتمكّن من تدوين بعض أبوذيّاته على الورق، كما أنَّ بعض أبياته أدّاها

الفنّان علوان الشويّع مبتكر طور العلوانيّة وسُجّلت علىٰ أشرطة قبل أكثر من 50 سنة.

وتأتي أهمّية هذا العمل كونه يطبع المخطوط بُغية المحافظة علیه من الزّوال والاندثار فمُعظم أبوذيّات هذا الكتاب، كانت، بين دفّتَي مجموعة، بخطّ الشَّاعر الرَّاحل عبّود الزّرقانيّ فأزال تصحيفها الشّاعر عادل المُلّافاضل السّكرانيّ وأوضح معنىٰ

مفرداتها الّتي لم تعد رائجة في الأهواز أو قليلة الاستعمال وذكر أصول بعضها في هامش الصفحة لكي تكون مفهومة خاصة للجيل الحالي الذي لا يعلم الكثير عن اللّغة المستخدمة قبل عقود. كما شكّل السَّكرانيّ جميع الأبوذيّات وتكمن أهميّة تشكيل النّصوص المكتوبة باللغة العاميّة فى كيفيّة القراءة الصّحيحة، فالّذي كان سابقًا يقرأ الحِگّة في أبوذية "و انا من" حَگّة بات اليوم يعرف بأنها مكسورة الحاء معناها الوِعاءُ الصَّغِير وفصيحها "حُقَّة" قيّدها الشَّاعر عمرو بن كلثوم في معلقته الشّهيرة:

وثديًا مثل حُق العاج رخصًا

  حصانًا من أكفِّ اللامسينا

وقد خطونا لطبع هذا التحقيق لقيمتين مهمتين الأولىٰ القيمة التأريخيّة لأن تدوين وتوثيق شعر عبّود الحاج سلطان يساهم في ربط حلقات السلسة التأريخيّة للشعر الشّعبي الأهوازي وتطوره عبر الزمن. والثّانية القيمة اللغويّة إذ تسجّل أبوذيّات الشّاعر كثيرًا من المفردات التي كانت تتداول في القرن التاسع عشر والعشرين

لهذا تعدّ أبوذيات الشّاعر إحدى المصادر التاريخيّة للهجة الأهوازيّة، وهي تُغطّي جوانب كثيرة منها، كما انها تُعوض دور الوثائق التاريخيّة.

 

توفيق النصّاري

الأهواز- مدينة الفلاحيّة 2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم